من التشبُّه بأعداء الله استقذار الأكل بالأيدي، واعتياد الأكل بالملاعق ونحوها من غير ضرر بالأيدي.
قال الشيخ حمود التويجري في كتابه القيم "الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين" (158-164)
فصل
النوع الثاني والعشرون من التشبُّه بأعداء الله - تعالى -:
استقذار الأكل بالأيدي، واعتياد الأكل بالملاعق ونحوها من غير ضرر بالأيدي، وكذلك الجلوس للطعام على الكراسي ونحوها مما يتَّكئ الجالس عليه ويتمكَّن في جلوسه، وكذلك ترتيب سماطات الطعام وأوانيه على الزيِّ الإفرنجي، وكلُّ هذا مخالِف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أكمل الهدي على الإطلاق.
فأمَّا هديه صلى الله عليه وسلم في الأكل فقد كان يأكل بثلاث أصابع ويلعقها إذا فرغ؛ كما في "المسند" و"صحيح مسلم" وسنني أبي داود والدارمي عن كعب بن مالك t قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع ويلعق يده قبل أن يمسحها، وفي رواية لمسلم: كان يأكل بثلاثة أصابع فإذا فرغ لعقها.
ورواه الدارمي أيضًا بنحوه.
وفي "المسند" و"صحيح مسلم" و"سنن أبي داود" و"جامع الترمذي" عن أنس t أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعامًا لعق أصابعه الثلاث؛ قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه الدارمي في "سننه" ولفظه عن أنس t عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه الثلاث))؛ إسناده صحيح على شرط مسلم.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعق الأصابع والصحفة ورغب في ذلك كما في الصحيحين و"المسند" و"سنن أبي داود" وابن ماجه والدارمي عن ابن عباس - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يمسح يده حتى يَلعَقها أو يُلعِقها)).
وفي رواية لأحمد: ((إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده بالمنديل حتى يَلعَقها أو يُلعِقها)) ورواه أبو داود بنحوه.
قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على "المسند": هذا الحديث مما يتحدَّث فيه المترَفون المتمدِّنون عبيد أوروبا في بلادنا يستنكرونه والمؤدب منهم مَن يزعم أنه حديث مكذوب؛ لأنه لا يعجبه ولا يوافق مزاجه، فهم يستقذرون الأكل بالأيدي وهي آلة الطعام التي خلقها الله وهي التي يَثِقُ الآكل بنظافتها وطهارتها إذا كان نظيفًا طاهرًا كنظافة المؤمنين.
أما الآلات المصطَنَعة للطعام فهيهات أن يطمئن الآكل إلى نقائها إلا أن يتولَّى غسلها بيده، فأيُّهما أنقى؟ ثم ماذا في أن يلعق أصابعه غيره إذا كان من أهله أو ممَّن يتَّصل به ويخالطه إذا وَثِق كلٌّ منهما من نظافة صاحبه وطهره، ومن أنه ليس به مرضٌ يُخشَى أو يُسْتَقذر، انتهى كلامه.
وفي "المسند" و"صحيح مسلم" عن جابر t أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَر بلعق الأصابع والصحفة وقال: ((إنكم لا تدرون في أيِّ طعامكم البركة)).
وفي روايةٍ لأحمد: ((ولا يرفع الصحفة حتى يَلعَقها أو يُلعِقها فإن آخر الطعام فيه البركة)).
وفي روايةٍ لمسلم: ((إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليُمِط ما كان بها من أذًى، وليأكلها ولا يدعها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه؛ فإنه لا يدري في أيِّ طعامه البركة)).
وفي روايةٍ له: ((ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعقها أو يلعقها))، وفي رواية له أخرى: ((إن الشيطان يحضر أحدكم عند كلِّ شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليُمِط ما كان بها من أذًى، ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليلعق أصابعه؛ فإنه لا يدري في أيِّ طعامه تكون البركة))، وقد رواه الترمذي وابن ماجه بنحوه مختصرًا.
وفي "المسند" و"صحيح مسلم" و"سنن أبي داود" و"جامع الترمذي" عن أنس t أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سقطت لقمة أحدكم فليُمِط عنها الأذى، وليأكلها ولا يدعها للشيطان))، وأمرنا أن نسلت القصعة قال: ((فإنكم لا تدرون في أيِّ طعامكم البركة))؛ قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقد رواه الدارمي في "سننه" مختصرًا ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سقطت لقمة أحدكم فليمسح عنها التراب وليسمِّ الله وليأكلها))؛ إسناده صحيح على شرط مسلم.
وفي "المسند" و"صحيح مسلم" و"جامع الترمذي" عن أبي هريرة t عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه لا يدري في أيَّتهن البركة)).
وفي روايةٍ لمسلم: ((وليسلت أحدكم الصحفة)).
وفي "المسند" و"جامع الترمذي" وسنني ابن ماجه والدارمي و"تاريخ البخاري" عن نبيشة الخير مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة))؛ قال الترمذي: هذا حديث غريب.
وفي "سنن الدارمي" عن الحسن قال: كان معقل بن يسار t يتغدَّى فسقطت لقمته فأخذها فأَمَاط ما بها من أذًى ثم أكلها، فجعل أولئك الدهاقين يتغامزون به فقالوا له: ما ترى ما يقول هؤلاء الأعاجم؟ يقولون: انظروا إلى ما بين يديه من الطعام وإلى ما يصنع بهذه اللقمة، فقال: إني لم أكن لأدع ما سمعت لقول هؤلاء الأعاجم، إنا كنَّا نُؤمَر إذا سقطت من أحدنا لقمةٌ أن يُمِيط ما بها من الأذى وأن يأكلها؛ إسناده صحيح على شرط مسلم.
وقد رواه ابن ماجه في "سننه" بنحوه وعنده قال: إني لم أكن لأدع ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأعاجم، إنا كنا نأمر أحدنا إذا سقطت لقمته أن يأخذها فيُمِيط ما كان فيها من أذًى ويأكلها ولا يدعها للشيطان؛ إسناده صحيح على شرط مسلم.
وقد اشتملت هذه الأحاديث على عدَّة فوائد وآداب من آداب الأكل:
الأولى: مشروعية الأكل باليد بخلاف ما عليه المتشبِّهون بالإفرنج وأضرابهم من الأكل بالملاعق واستقذار الأكل بالأيدي، وفعل أعداء الله وأشباههم أَوْلَى بالاستقذار من فعل المسلمين، وذلك أن أحدهم يدخل الملعقة أو بعضها في فيه ثم يخرجها وقد علق اللُّعاب بها فيغمسها في الطعام بما علق بها ثم يدخلها في فيه مرة أخرى، وهكذا يفعل إلى أن يفرغ من أكله، وأما الأصابع فإن الآكل بها لا يدخلها في فيه وإنما يدخل اللقمة فقط وتكون الأصابع من خارج فيه فلا يعلق بها اللعاب كما يعلق بالمعلقة.
والقول في أكل اللحم بالأشواك التي أحدَثَها أهل المدينة من الإفرنج ومَن يتشبَّه بهم كالقول في الأكل بالملاعق سواء، فكلاهما أَوْلَى بالاستقذار من الأكل بالأيدي.
والأكل بهما خلاف هدي رسول الله r الذي هو الغاية في النظافة والنزاهة والبعد عما يُكرَه ويُستَقذر.
وقد أجاز بعض الفقهاء الأكل بالملاعق وبعضهم كره ذلك، قال الآمديُّ: السنة أن يأكل بيده ولا يأكل بملعقة ولا غيرها، ومَن أكل بملعقة وغيرها أخلَّ بالمستحبِّ وجاز.
وقال الحجاوي في "الإقناع": ولا بأس أن يأكل بمعلقة، قال البهوتي في "شرحه": ربما يُؤخَذ من قول الإمام: أكره كلَّ محدث كراهيتها.
قلت: والصحيح أن الأكل بالملاعق مكروهٌ؛ لأنه من فعل الجبابرة والمترَفين، ومن فعل طوائف الإفرنج وأشباههم من الكفرة، فأمَّا إن كان في اليد ضررٌ يمنع من الأكل بها أو كان الطعام لينًا جدًّا بحيث لا تمسكه اليد فلا كراهة في الأكل بالملعقة حينئذ، والله أعلم.
الثانية: استحباب الأكل بثلاث أصابع، قال النووي: ولا يضمُّ إليها الرابعة والخامسة إلا لعذر بأن يكون مرقًا وغيره مما لا يمكن بثلاث وغيره ذلك من الأعذار، انتهى.
الثالثة: استحباب لعق الأصابع والصحفة بعد الطعام ليحصل للآكل ما في الطعام من البركة، ولعق الصحفة ولحسها هو سلتُها بالإصبع ولعق ما يعلق بالإصبع منها، كما هو معروف ومعمول به عن المتمسِّكين بالسنة.
قال الخطابي: سلت الصحفة تتبَّع ما يبقى فيها من الطعام ومسحها بالإصبع ونحوه، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم العلة في لعق الأصابع وسلت الصحفة وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنه لا يدري في أيِّ طعامه يبارك له))، يقول: لعلَّ البركة فيما علق بالأصابع والصحفة من لطخ ذلك الطعام.
وقد عابَه قومٌ أفسد عقولهم الترفُّه وغيَّر طباعهم الشِّبَع والتُّخَمة، وزعموا أن لعق الأصابع مُستَقبح أو مُستَقذر، كأنهم لم يعلموا أن الذي علق بالإصبع أو الصحفة جزءٌ من أجزاء الطعام الذي أكلوه وازدروه فإذا لم يكن سائر أجزاءه المأكولة مستقذرًا لم يكن هذا الجزء اليسير منه الباقي في الصحفة واللاصق بالأصابع مستقذرًا كذلك.
وإذا ثبت هذا فليس بعده شيء أكثر من مسِّه أصابعه بباطن شفتيه وهو ما لا يعلم عاقل به بأسًا إذا كان الماسُّ ولممسوس جميعًا طاهرَين نظيفَين وقد يتمضمض الإنسان فيُدخِل إصبعه في فيه فيدلك أسنانه وباطن فمه فلم يرَ أحد ممَّن يعقل أنه قذارة أو سوء أدب، فكذلك هذا لا فرق بينهما في منظر حسٍّ ولا مخبر عقل، انتهى كلامه - رحمه الله تعالى.
وها هنا أمرٌ ينبغي التنبيه عليه وهو أنه إذا اجتمع على الأكل من الصحفة اثنان فأكثر فكلٌّ يلعق ما يليه منها ولا يُعاب على مَن لم يلعق ما يلي غيره.
الفائدة الرابعة: استحباب أكل اللقمة الساقطة بعد إماطة ما علق بها من أذًى، قال النووي: هذا إذا لم تقع على موضع نجس، فإن وقعت على موضع نجس تنجست ولا بُدَّ من غسلها إن أمكن، فإذا تعذر أطعمها حيوانًا ولا يتركها للشيطان، انتهى.
وما تضمَّنته هذه الفوائد فكلُّه مُستَقبح ومُستَقذر عند أهل المدينة الإفرنجية ومَن يتشبَّه بهم من جهَّال المسلمين وسفهائهم الذين هم أتباع كلِّ ناعق فهم يستقذرون الأكل باليد ويستقذرون لعقها ويستقذرون لعق الصحفة ويستقذرون أكلَّ اللقمة الساقطة، وهؤلاء عن سنن الأكل وآدابه بمعزِل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن رغب عن سنَّتي فليس منِّي))؛ متفق عليه من حديث أنس - رضِي الله عنه.
وكثيرٌ من المتشبِّهين بأعداء الله - تعالى - لم يقفوا عند حدِّ الاستقباح والاستقذار للعمل بالسنة الثابتة في لعق الأصابع والصحفة، بل أقدموا على إنكار الأحاديث الواردة في ذلك وزعموا أنها مكذوبة.
وقد تقدم ما ذكره الشيخ أحمد محمد شاكر عنهم، وهذا جراءة منهم قبيحة، وكفى بذلك خذلانًا لهم إذ قد جمعوا بين ثلاثة أمور منكرة:
أولها: الرغبة عن سنة رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم.
وثانيها: التشبُّه بأعداء الله - تعالى.
وثالثها: إنكار الأحاديث الصحيحة بمجرَّد الهوى والتشهِّي والاتباع لأعداء الله - تعالى - وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم وأعداء المؤمنين وما أشبه هؤلاء بالذين قال الله - تعالى - فيهم: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 41].
الفائدة الخامسة: إثبات وجود الشياطين وأنهم يأكلون، وفي ذلك ردٌّ على مَن أنكر وجودهم كالفلاسفة ومَن نحا نحوهم من ملاحدة الإفرنج وزنادقة هذه الأمة وما أكثرهم في زماننا، لا كثَّرهم الله.
السادسة: جواز مسح اليد بالمنديل ونحوه بعد لعقها.
السابعة: استغفار القصعة لِمَن لحسها إن صحَّ الحديث بذلك، وهذا ممَّا لا ينكره مسلم، ونظير ذلك حنين الجذع اليابس شوقًا إلى رسول الله r وكذلك تسبيح الحصى في يده، ونظيره أيضًا قول الله - تعالى -: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44].
وقريبٌ من ذلك قوله - تعالى -: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ﴾ [الدخان: 29].