- ما حكم قيام أحد الدُّعاة بتذكير النَّاس بعد انقضاء صلاة الجمعة, وبعد كل أربع ركعات من صلاة التَّراويح؟
السائل: بعض البلاد الإسلاميَّة، بعد ما ينتهي الإمام من الصَّلاة -صلاة الجمعة- يقف أحد الدُّعاة إلى الله -عزَّ وجلَّ- ويُذكِّر النَّاس بأيَّام الله، هل هذا يتنافى والآية: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ ؟ وكذلك هذه المسألة تكون في صلاة التَّراويح عند الانتهاء من كلِّ أربع ركعات يقوم الإمام ويُذِّكر النَّاس بأيام الله -عزَّ وجلَّ-، فهل هذا جائز؟
الشيخ: المسألة الأولى تختلف عن الأخرى، والأخرى عن الأولى. المسألة الأولى: لا تنافي ولا تعارض بين قيام رجلٍ عقب صلاة الجمعة يُذكِّر ويعظ وربما يُعلِّم، وبين قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾. ذلك لأنَّ الآية وإن كانت صريحة في الأمر، فإن هذا الأمر ليس للوجوب باتفاق العلماء؛ فهو أمر إباحة، ورفع لحظرٍ سابقٍ في نفس السُّورة؛ حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ . فلما أراد الله -عزَّ وجلَّ- أن يعيد الحكم السابق قبل أن يأمرهم بقوله: ﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾؛ قال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ بالبيع والشراء ونحو ذلك. وهذه الآية من أدلة علماء الأصول على أنَّ الأمر لا يستلزم أن يكون للوجوب دائمًا. وإن كانوا اختلفوا في الأصل، هل الأصل في الأمر الوجوب؟ وهذا هو الراجح عند جمهور العلماء من الأصول. أما الأصل في الأمر أنه لا للوجوب، ولا للاستحباب؛ وإنما ذلك يُتطلَّب من الأدلة الأخرى الخارجة عن الأمر. وهذا -كما ترون -أو كما تشعرون معي- مذهبٌ مرجوح؛ لأنَّه يتطلب في كل أمر بحثًا وتفرُّدًا لا يستطيعه المخاطبون بكل هذه الأوامر؛ ولذلك كان قول الجمهور بأن الأصل في الأمر إنما هو الوجوب، هو الصواب في المائة مائة؛ لأنَّ الأسلوب في التَّكلَّم في اللغة العربية يقتضي ذلك. أولاً. وثانيًا: لأنّ جعل الأمر مهلهلاً لا يفيد وجوبًا ولا استحبابًا إلا على ضوء الأدلة التي يجب على كل سامع للأمر مباشرة؛ فمعنى ذلك: تعطيل الأوامر الشرعية، وتعطيل تنفيذ ما أُمِرَ المسلمون به. وهذا يُذكِّرني بقصَّةٍ. ويبدو أن الوقت انتهى فلنجعلها آخر هذه الجلسة؛ لأنَّ فيها: أولاً: فائدة، وفيها: نكتة وظرافة. جاءني مرة أحد إخواننا السلفيين في دمشق، وأنا في المكتبة الظاهرية؛ فشكا إليَّ رئيسه في المكتب الذي هو يعمل فيه، وأنَّه اختلف مع رئيسه في هذه المسألة الأصوليَّة، هل الأمر للوجوب أم ليس للوجوب؟ رئيسه يتبنَّى الأمر الثاني: أنه ليس للوجوب، وصاحبنا يتبنَّى أنَّه للوجوب كما نشرح ذلك في كلِّ مجالسنا، وصاحبنا ليس في قوة رئيسه في الثَّقافة الشرعيَّة، وفي العلم بالأصول والفروع؛ فبحكم هذا التَّفاوت يتغلَّب الرئيس على المرؤوس أولاً. وثانيًا: هو رئيس. فقلت له -لأني لا أستطيع مثل هذا الأخ السلفي أن أُلقِّنه الأدلة في جلسة واحدة، وبخاصة وهو يأتيني وأنا منكب على البحث والتحقيق في المكتبة الظاهريَّة، وليست المكتبة مجالاً للوعظ والتعليم و و إلى آخره؛ فأعطيته كلمات يمكن بها أن يُفهم صاحبه ورئيسه-. قلت له: مادام الأمر كذلك؛ كلما أمرك الرئيس بشيء فأنت لا تطعه؛ بيقولك مثلاً: أعطيني الكتاب الفلاني، أعطيني القلم، أعطيني الورق، أعطيني كذا؛ بالتعبير السوري قلت له: "طنِّش"! "طنِّش"؛ يعني: اعلم حالك ما سمعت؛ حتى يضجر الآمِر! فسوف يقول لك: يا أخي! مالك أنت؟! لماذا لا تسمع؟ لماذا لا تنفذ الأمر؟ بتقول له: يا أستاذ! أنت تعلمنا منك أن الأمر لا يفيد الوجوب، فأنا لست مسئولاً وهكذا فعل، فتخلص منه. الحقيقة أنَّ هذه معطلة، إذا قيل بأن الأمر لا يفيد الوجوب، فمتى يستطيع المأمور إذا قال السيد للخادم: (روح جيب ماي)، وهو كما هو في مكانه، ولا يستجيب لأمره، لماذا؟ لأنَّ الأمر لا يفيد الوجوب؛ حتى [ايه؟] يكون فيه قرينة. فمن أين تأتي القرينة لمثل هذا المأمور أو ذاك؟ الأمر يفيد الوجوب، فلما جاءت الآية: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ فمعنى ذلك: رفع الأمر السابق: (ذروا البيع): اتركوا البيع، الآن جاء الأمر بالسعي وراء الرزق؛ فرفع ذلك الحظر. فالأمر بالشيء بعد النهي عنه؛ إنما يفيد الإباحة، ولا يفيد الوجوب. إذا الأمر كذلك؛ فالواعظ الذي يعظ النَّاس يوم الجمعة بعد الصلاة ليس مخالفًا للحديث؛ لأنَّ الحديث لا يوجب الانصراف فورًا، كما يوجب الانصراف من الصلاة بالسلام، فتحريمها التَّكبير، وتحليلها التَّسليم، شتَّان ما بين هذا وذاك. هذا بالنسبة للواعظ يوم الجمعة. أمَّا بالنسبة للواعظ بعد أربع ركعات التراويح فيختلف الأمر عندي تمامًا، ومع أنَّه لا أمر هنا يفيد الإباحة -كما هو الأمر في الآية السابقة-؛ فأنا أرى أنَّ صلاة القيام هو وضع خاص المقصود به ليس العلم والتَّعليم؛ وإنما المقصود به تزكية النُّفوس بالإقبال إلى الله -تبارك وتعالى-: بالصلاة والقيام، والركوع والسجود، وذكر الله -عزَّ وجلَّ- بعد الصلاة؛ فهذا الجو لا يجوز إشغاله بشيء آخر؛ ولو كان هذا الشيء الآخر عبادة؛ بل وهو أفضل من العبادة كما قال عليه الصلاة والسلام: ((فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمَ الْوَرَعُ))؛ أي: نافلة العلم خير عند الله -عزَّ وجلَّ- من نافلة العبادة، وخير الدين الورع؛ فطلب العلم والسير فيه أفضل من النافلة؛ ولكن قد يكون المفضول في بعض الأحيان خيرًا من الفاضل في أحيانٍ أخرى. مثلاً: أنتم تعلمون قوله عليه السلام، أو نهيه عليه السلام عن قراءة القرآن في الركوع وفي السجود؛ نحن نقول: "سبحان ربي العظيم" "سبحان ربي الأعلى" في الركوع والسجود وغير ذلك من الأدعية المعروفة؛ فهل ذلك أفضل من القرآن؟ الجواب: لا؛ لكن نقول: بلى، هنا في هذا المكان هذا الوِرْد أفضل من القرآن الكريم، ليس كأصل؛ وإنما كفرع يتعلق بهذا المكان. إذا جلسنا للتَّشهد في الصَّلاة، ما نقرأ الفاتحة؛ وإنما نقرأ: "التحيات لله". آالتحيات لله أفضل من القرآن، من الفاتحة، فاتحة الكتاب؟! الجواب: لا؛ لكننا إذا قرأنا الفاتحة في التَّشهد عصينا، وإذا قرأنا التَّشهد اتبعنا. فإذن، الحكمة وضع كلُّ شيءٍ في محلِّه. فلما شرع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو سنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ربه صلاة القيام في رمضان، هل كان يُذكِّر؟ هل كان يُعلِّم؟ الجواب: لا، إنما هو العبادة المحضة. ولذلك يختلف الأمر عندي في التَّذكير أثناء التَّراويح، فهذا لا يُشرع، اللهم إلاَّ في حالة واحدة؛ إذا جاءت مناسبة؛ كأن يرى -مثلاً- الإمام رجلاً لا يُحسن الصَّلاة –صلاة القيام-؛ فيُعلِّمه. أمَّا أن يُتَّخذ ورداً من جملة الأوراد في صلاة القيام في رمضان: التَّذكير؛ فهذا هو من الابتداع في الدِّين. وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، والحمد لله رب العالمين. ولعلكم تعلمتم -إن شاء الله- في جملة ما تعلمتم- القناعة؛ فلا سؤال بعد هذا؛ فانصرفوا راشدين.
الحضور: جزاكم الله خيرًا.
الشيخ: وإيَّاكم.
لسماع الصوت
اضغط هنا
منقول
http://www.alalbany.net/fatawa_view.php?id=7472