رأى المحققون أن الأحوال البشرية المختلفة التي رافقت المسيح طوال حياته تمنع قول النصارى أن المسيح هو الله أو ابنه، إذ لا يليق بالإله أن يولد ويأكل ويشرب ويختن ويضرب و….ثم يموت.
ولا يشفع للنصارى قولهم بأن هذه الأفعال صدرت من الناسوت لا اللاهوت، لأنهم لا يقولون بأن تجسد الإله في المسيح كان كالجبة أو العمامة يلبسها المسيح أحياناً، وينزعها أخرى، فما صدر منه إنما صدر من الإله المتجسد كما زعموا، وإلا لزمهم الاعتراف ببشريته، وهو الصحيح.
وأورد المحققون عشرات النصوص التي تتحدث عن ضعف المسيح البشري وتحكي قعوده عن مرتبة الألوهية، وهي على ضروب أربعة:
الضرب الأول: هو تلك النصوص التي تبين عجز المسيح، وقعوده عن مقام الألوهية والربوبية، وعليه فهو ليس بإنسان تام وإله تام كما يقول النصارى، إنما كان فقط إنساناً تاماً.و في ذلك نصوص كثيرة
منها جهل المسيح بأشياء كثيرة أهمها جهله بيوم القيامة، فقد قال: " أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب." (مرقس 13/32) فكيف تدعي النصارى بعد ذلك ألوهيته، فالجهل بالغيب مبطل لها.
وليس ما يجهله المسيح هو موعد القيامة فحسب، بل كل ما غاب عنه فهو غيب يجهله إلا ما أطلعه الله عليه، ولذلك نجده عندما أراد إحياء لعاذر يسأله " فانزعج بالروح واضطرب وقال: أين وضعتموه؟ " (يوحنا 11/33-34).
ولما جاءه رجل يريد منه شفاء ابنه من الجنون " فسأل أباه كم من الزمان منذ أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه." (مرقس 9/11)
والمسيح أيضاً وهو يظهر معجزاته الباهرة يشير إلى افتقاره لله وعجزه عن هذه المعجزات لولا معية الله ونصرته فيقول: " أنا لا اقدر أن أفعل من نفسي شيئاً.كما أسمع أدين، ودينونتي عادلة، لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني" (يوحنا 5/30).
ويؤكد هذا المعنى فيقول: " قال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو، ولست أفعل شيئاً من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علّمني أبي. والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه " (يوحنا 8/28).
وفي نص آخر يقول لليهود: " الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل، لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 5/19).
والمسيح أيضاً لا يملك لنفسه -فضلاً عن غيره _ نفعاً ولا ضراً إلا أن يتغمده الله برحمته، وقد كان، إذ لما جاءته أم ابني زبدى وكانا من تلاميذه " فسألها ما تريدين؟ قالت: أن يجلس ابناي هذان واحد عن يمينك والآخر عن اليسار في ملكوتك. فأجاب يسوع... وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعدّ لهم من أبي " (متى 20/20-22).
كما وقد وصف المسيح نفسه بصفة العبودية، ومن ذلك ما جاء في متى في وصف المسيح "هذا هو عبدي" (متى 12/18)، وفي سفر أعمال الرسل "قد مجد عبده يسوع" (أعمال3/13)، " فإليكم أولاً أرسل الله عبده" (أعمال 3/26)، "عبدك القديس يسوع " (أعمال 4/30).
وقد استبدلت لفظة (عبد) بجميع هذه النصوص بكلمة "فتى" موهمة، وذلك في التراجم العربية المختلفة.
الضرب الثاني: هو النصوص التي تحدثت عن أحوال المسيح البشرية التي يشترك فيها مع سائر الناس من طعام وشراب وعبادة لله وتذلل و…..
درس المحققون سيرة المسيح-كما عرضتها الأناجيل- منذ بشارة أمه إلى حمله، وولادته في المزود، ثم لفّه بالخرق، ثم ختانه، ومن ثم نشأته وتعليمه مع الصبيان، ثم تعميده على يد المعمدان إلى أن ذكروا نهايته المزعومة على الصليب بعد أن جزع وتذلل لله ليصرف عنه هذا الأمر… فوجدوا أن لا يفترق في شيء عن سائر الناس، فقد ولد وكبر، وأكل وشرب، ومات. فما الذي يميزه بالألوهية عن غيره ؟
فقد ولد من فرج امرأة "وبينما هما هناك تمّت أيامها لتلد". (لوقا 6/2)، ورضع من ثدييها "وفيما هو يتكلم بهذا رفعت امرأة صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك، والثديين اللذين رضعتهما". (لوقا 27/11)، فهل علمت مريم أن طفلها الخارج من رحمها والذي كانت تتولى كافة شئونه من نظافة وتربية ورضاع، هل كانت تعلم ألوهيته، أم جهلت ما علمه النصارى بعد ذلك.
وقد ختن المسيح في ثامن أيام ولادته "ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع " ( لوقا 2/21) فهل كان الذي يختنه يدور في خلده أنه يختن إلهاً؟.
كما عمده يوحنا المعمدان في نهر الأردن " جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه" (متى 13/3)، أفجهل المعمدان أنه يعمد الإله، ومن المعلوم أن معمودية المعمدان غفران الذنوب، كما في متى: " واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم.. أنا أعمدكم بماء للتوبة... حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه" (متى 3/6-14)
فهل كان الإله مذنباً يبحث عن من يغفر له ذنوبه؟!
وأصاب المسيح ما يصيب كل البشر من أحوال وعوارض بشرية فقد نام" وكان هو نائماً" (متى 24/8)، وتعب كسائر البشر " كان يسوع قد تعب من السفر" (يوحنا 6/4)، واكتئب لما أصابه " وابتدأ يدهش ويكتئب". (مرقس 33/14).
وأحياناً كان يبكي كسائر الناس "بكى يسوع" (يوحنا 11/35)، أحياناً يجتمع عليه الحزن والاكتئاب "وابتدأ يحزن ويكتئب " (متى 26/37)
كما تعرض لمكايد أعدائه فقد حاول الشيطان أن يغويه فلم يقدر "قال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي، حينئذ قال له يسوع :اذهب يا شيطان" (متى 4/9-10)، وتعرض للطم والشتم " ولما قال هذا، لطم يسوعَ واحد من الخدام كان واقفاً" (يوحنا (22/18)، فلم يستطع أن يدفع عن نفسه إلا بالكلام، لأنه كان موثقاً "قبضوا على يسوع وأوثقوه" (يوحنا 8/12).
والمسيح قد جاع أيضاً، وبحث عن طعام يأكله "وفي الصبح إذ كان راجعاً إلى المدينة جاع". (متى 18/21)، كما عطش " قال: أنا عطشان". (يوحنا 28/19).
وقد أكل وشرب، فسد جوعته وروى ظمأه " فناولوه جزءاً من سمك مشوي وشيئاً من شهد عسل. فأخذ وأكل قدامهم" (لوقا 24/42-43).
والطعام والشراب الذي كان يتقوى به، وينمو به جسمه طولاً وعرضاً " وكان الصبي ينمو " (لوقا 2/40)، ونموه كان بالجسد والعقل " وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لوقا 2/52)، فالطعام ينميه جسدياً والتعلم في الهيكل من الشيوخ والمعلمين ينميه عقلياً " وجداه في الهيكل جالساً في وسط المعلمين يسمعهم ويسأله" (لوقا 2/46).
كما يقتضي الطعام خسيسة أخرى لا يليق أن تنسب لمقام الألوهية، ألا وهي التبول والتغوط، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وهو مفهوم قوله تعالى { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} فكل من طعم وشرب احتاج لإخراج ما طعم، ولا يليق نسبة هذه المنقصة ولا غيرها لله عز وجل الذي لا يشارك الناس هذه الدنايا.
وتذكر الأناجيل حزن المسيح ليلة الصلب وغيرها " إن نفسي حزينة حتى الموت " (مرقس 14/32-36).
ثم لما جزع من اليهود ظهر له ملك من السماء ليقويه (انظر لوقا 22/43).
ثم لما وضع – حسب الأناجيل - على الصليب جزع وقال: " إلهي إلهي، لم تركتني " (مرقس 15/34).
بل وتزعم الأناجيل أنه مات، فهل رب يموت؟ "فصرخ يسوع بصوت عظيم، وأسلم الروح" (مرقس 37/15).
ولا يجد الأسقف ترتليان ( ق3 ) ما يدفع به هذه القاصمة إلا أن يقول: " لقد مات ابن الله! ذلك شيء غير معقول، لا لشيء، إلا لأنه مما لا يقبله العقل وقد دفن من بين الموتى، وذلك أمر محقق، لأنه مستحيل "، ومع ذلك يؤمن به ترتليان والنصارى من بعده.
وذكرت الأناجيل أيضاً تذلـله وخضوعه لله عز وجل وتضرعه بين يديه " وكان يصلي قائلاً: يا أبتاه، إن أمكن أن تعبر عني هذا الكأس، ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت" (متى 26 /39). " وكان يصلّي هناك". (مرقس 35/1).
ويصور لوقا صلاته، فيقول:" جثا على ركبتيه وصلى" (لوقا 22/41). وذات يوم وقبل اختياره للتلاميذ " خرج إلى الجبل ليصلّي، وقضى الليل كله في الصلاة لله، ولما كان النهار دعا تلاميذه" (لوقا 6/12) فلمن كان الإله يصلي طوال الليل منفرداً؟
ومن تضرعه ما ذكره يوحنا عن حال المسيح عندما أحيا لعاذر " ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي. وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي. ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت.ليؤمنوا أنك أرسلتني" ( يوحنا 11/40-41 ).
وكان يصلي متوارياً وصار عرقه كعبيط الدم، يقول لوقا: "وإذ كان في جهاد كان يصلّي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض. ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه" (لوقا 22/44).
ويتحدث بولس عن انتصار المسيح على الكل بما فيهم الموت، ثم يذكر خضوعه بعد ذلك لله، فيقول: "متى أخضع له الكل، فحينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكل (لله)، كي يكون الله الكل في الكل" (كورنثوس (1) 15/28)
والتضرع والعبادة نوع من دلائل العبودية لا يجوز نسبته لله أو للمتحد معه، إذ الأناجيل شهدت بعبوديته والتزامه بناموس موسى عليه السلام في سائر أحواله.
وجماع هذا كله قوله عن نفسه: "وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله " (يوحنا 8/40)، أفلا نقبل شهادته عن نفسه، فلو كان إلهاً لما صح منه أن يعمي علينا هذه الحقيقة بمثل هذا القول الصريح الدال على إنسانيته.
وأخيراً فإن مما يؤكد بشرية المسيح ما أخبر من أنه عليه السلام سيدخل الجنة التي وعدها الله عباده المؤمنين، ومنهم المسيح وتلاميذه، وأنه سيشرب في اليوم الآخر ويأكل معهم، حيث قال: "في بيت أبي منازل كثيرة… أنا أمضي لأعد لكم مكاناً….حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً " (يوحنا 14/2 – 3)، قال: " إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم، حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي" (متى 26/29).
ومن المعلوم أن ملكوت الله يراد به هنا الجنة، حيث يلقى التلاميذ من جديد، فيشرب معهم في جنة الله، فهل سيتجسد الابن ثانية يوم القيامة؟ وما الحكمة من التجسد حينذاك؟ أم أن المسيح سيعود ككائن بشري عادي يأكل كسائر المؤمنين.
وحين يصر النصارى على القول بألوهيته فإنهم يضربون بعرض الحائط قول المسيح وتلاميذه، ويتنكرون بذلك لكل هذه النصوص التي لم تتحدث أبداًَ عن إله متجسد، ولا عن ناسوت حل به الله.
وبذا يكون النصارى قد وقعوا فيما حذر منه مقدسهم بولس الذي ألبسهم هذه العقيدة ثم تبرأ منهم ومن صنيعهم، حيث قال: " إنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء، أبدلوا مجد الله الذي لا يفنى، بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات. لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم. الذين استبدلوا حق الله بالكذب، واتقوا، وعبدوا المخلوق دون الخالق، الذي هو مبارك إلى الأبد " (رومية 1/21-25).