«أن» التفسيرية و«أن» المصدرية
وأمَّا «أن» التي للتفسير فليست مع ما بعدها بتأويل المصدر، ولكنَّها تشارك «أن» التي تقدَّم ذكرُها في بعض معانيها لأنها تحصينٌ لِما بعدها مِن الاحتمالات وتفسيرٌ لِما قبلها مِن المصادر المجملة التي في معنى المقالات والإشارات فلا يكون تفسيرًا إلَّا لفعلٍ في معنى التراجم الخمسة الكاشفة عن كلام النفس، لأنَّ الكلام القائم في النفس والغائبَ عن الحواسِّ في الأفئدة يكشفه للمخاطَبين خمسةُ أشياء: اللفظ والخطُّ والإشارة والعقد والنصب وهي لسانُ الحال وهي أصدقُ مِن لسان المقال، فلا تكون «أن» المفسِّرة إلَّا تفسيرًا لِما أُجمل مِن هذه الأشياء كقولك: «كتبتُ إليه أنِ اخْرُج»، و«أشرتُ إليه اذهَبْ»، ﴿نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾ [النمل: 8]، و«أوصيتُه أنِ اشكُرْ» و«عقدتُ في يدي أنْ قد أخذتُ بخمسين»، و«زريتُ على حائطي أنْ لا يدخلوه»،
ومنه قولُ الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾ [الرحمن: 7 ـ 8] هي هاهنا لتفسير النصبة التي هي لسانُ الحال، وإذا كان الأمرُ فيها كذلك فهي بعينها التي تقدَّم ذكرُها لأنها إذا كانت تفسيرًا فإنما تفسِّر الكلامَ والكلامُ مصدرٌ فهي إذًا في تأويل مصدرٍ، إلَّا أنك أوقعتَ بعدها الفعل بلفظ الأمر والنهي وذلك مزيدُ فائدةٍ، ومزيدُ الفائدة لا تُخرج الفعلَ عن كونه فعلًا، فلذلك لا تخرج عن كونها مصدريةً كما لا يُخرجها عن ذلك صيغة المضيِّ والاستقبال بعدها إذا قلتَ: «يعجبني أن تقوم» و«أن قمتَ»، فكأنهم إنما قصدوا إلى ماهيَّة الحدث مخبِرًا عن الفاعل لا الحدث مطلقًا، ولذلك لا تكون مبتدأةً وخبرُها في ظرفٍ أو مجرورٍ لأنَّ المجرور لا يتعلَّق بالمعنى الذي يدلُّ عليه «أن» ولا الذي مِن أجله صِيغَ الفعلُ واشتُقَّ مِن المصدر، وإنما يتعلَّق المجرور بالمصدر نفسِه مجرَّدًا مِن هذا المعنى كما تقدَّم، فلا يكون خبرًا عن «أنْ» المتقدِّمة وإن كانت في تأويل اسمٍ وكذلك أيضًا لا يُخْبَر عنها بشيءٍ ممَّا هو مِن صفةٍ للمصدر كقولك «قيامٌ سريعٌ» أو «بطيءٌ» ونحوه، لا يكون مثلُ هذا خبرًا عن المصدر، فإن قلت: «حسنٌ أن تقوم» و«قبيحٌ أن تفعل» جاز ذلك لأنك تريد بها معنى المفعول كأنك تقول: «أستحسن هذا أو أستقبحه» وكذلك إذا قلت: «لَأَن تقوم خيرٌ مِن أن تقعد» جاز لأنه ترجيحٌ وتفصيلٌ، فكأنك تأمره بأن يفعل ولستَ بمخبرٍ عن الحدث بدليل امتناع ذلك في المضيِّ فإنك لا تقول: «أن قمت خيرٌ مِن أن قعد» ولا «أن قام زيدٌ خيرٌ مِن أن قعد»، وامتناع هذا دليلٌ على ما قدَّمناه مِن أنَّ الحدث هو الذي يُخْبَر عنه، وأمَّا «أن» وما بعدها فإنها وإن كانت في تأويل المصدر فإنَّ لها معنًى زائدًا ولا يجوز الإخبارُ عنه، ولكنَّه يراد ويَلْزَم يُؤمَر به، فإن وجَدْتها مبتدأةً ولها خبرٌ فليس الكلامُ على ظاهره كما تقدَّم.