المسألة الزنبورية
وهذه المسألة أعني المسألة الزنبورية من مسائل الخلاف القديمة بين الكسائي إمام مدرسة الكوفة، وسيبويه إمام مدرسة البصرة.
وقد تعرض لهذه المسألة كمال الدين بن البركات الأنباري النحوي في كتابه:
(الإنصاف في مسائل الخلاف بين العلماء: الكوفيين والبصريين).
وكثر خلاف العلماء حولها، كما أن لها حكاية مشهورة عن سيبوبه.
فما هـى المسألة الزنبورية؟.
ولماذا اُطلق عليها هذا الاسم؟.
ما هو الزنبور:
هو ذكر النحل
في مختار القاموس: ز ن ب ر: الزُّنبورُ، والزُّنبورةُ: ذبابٌ لساعٌ.
الخلاف في المسألة بين الكوفيين والبصريين
أولاً: رأي مدرسة الكوفة:
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يقال: (كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو إياها).
ثانياً: رأي مدرسة البصرة:
في حين ذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يقال: (فإذا هو إياها)، وإنما يجب أن يقال:
(فإذا هو هى).
إعراب الجملة:
كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور (فإذا هو إياها):
الإعراب الأول على حسب ما أجازه سيبويه (البصريون):
الفاء: حرف عطف مبني على الفتح لا محل له من الإعراب
إذا: حرف فجاءة مبني على السكون لا محل له من الإعراب
هو: ضمير منفصل مبني على الفتح الظاهر في محل رفع مبتدأ
هي: ضمير منفصل مبني على الفتح الظاهر في محل رفع خبر
الإعراب الثاني على حسب ما أجازهُ الكسائي (الكوفيون):
إياها: ضمير منفصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره يساويها والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ- هو-
أو: ضمير منفصل مبني على السكون في محل نصب خبر كان (المحذوفة مع اسمها)
وكان ومعموليها في محل رفع خبر المبتدأ- هو-
احتجاج الكوفيين بحكاية سيبويه المشهورة بينه وبين الكسائي:
احتج الكوفيون بالحكاية المشهورة بين الكسائى وسيبويه، وذلك حين قدم سيبويه على البرامكة، وطلب أن يُجمع بينَه وبين الكسائى للمناظرة.
حضر سيبويه في مجلس يحي بن خالد وعنده ولده جعفر والفضل ومن حضر بحضورهم من الأكابر، فأقبل خلف الأحمر على سيبويه قبل حضور الكسائى.
فسأله عن مسألة، فأجابه سيبويه، فقال الأحمر: أخطأت، ثم سأله عن الثانية فأجابه فيها، فقال: أخطأت، ثم سأله ثالثة، فأجابه فيها، فقال له: أخطأت، فقال له سيبويه: هذا سوء أدب.
قال الفراء: فأقبلت عليه وقلت: إن هذا الرجل عَجَلَة وحِدَّةً، ولكن ماذا تقول فيمن قال: (هؤلاء أبُونَ، ومررت بأبيِنَ؟).
كيف تقول على مثل ذلك من (وأيت وأويت؟).
فقدر فأخطأ، فقلت: أعد النظر، فقدر فأخطأ، فقلت: أعد النظر، فقدر فأخطأ، ثلاث مرات يجيب ولا يصيب.
فلما كثر ذلك عليه قال: لا أكلمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره.
قال: فحضر الكسائى، فأقبل على سيبويه فقال: تسألني أو اسألك؟
فقال بل تسألني أنت، فأقبل عليه الكسائى فقال:
كيف تقول: (كنتُ أظن أن العقربَ أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هى، أو فإذا هو إياها).
فقال سيبويه: فإذا هو هى، ولا يجوز النصب (اختار الرفع - هى - كما تقدم).
فقال الكسائى: لَحَنْتَ، ثم سأله عن مسألة من هذا النحو نحو: (خرجت فإذا عبد الله القائمُ ، القائمَ).
فقال سيبويه في ذلك بالرفع دون النصب، فقال الكسائى: ليس هذا من كلام العرب، والعرب ترفع ذلك كله وتنصبه، فدفع ذلك سيبويه، ولم يُجز فيه النصب، فقال له يحي بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن ذا يحكم بينكما؟.
فقال الكسائي: هذه العرب وقفت ببابك قد اجتمعت من كل أوبٍ، ووفدت عليك من كل صقع،
وهم فصحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المصرين، وسمع من أهل الكوفة والبصرة منهم فيحضرون ويُسألون، فقال يحي وجعفر: قد أنصفت، وأمر بإحضارهم، فدخلوا وفيهم أبو فقعس وأبو زياد وأبو الجراح وأبو ثروان، فسُئِلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه، فوافقوا الكسائي، وقالوا بقوله فأقبل يحي على سيبويه، فقال: قد تسمع، وأقبل الكسائي على يحي، وقال: أصلح الله الوزير إنه وفد عليك من بلده مؤملا، فإن رأيت أن لا ترده خائباً، فأمرَ له بعشر آلاف درهم، فخرج وتوجه نحو فارس، وأقام هناك، ولم يعد إلى البصرة.
وجه الدليل:
ووجه الدليل من هذه الحكاية أن العرب وافقت الكسائي، وتكلمت بمذهبه.
وقد حكى أبوزيد الأنصاري عن العرب (قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو إياهُ) مثل مذهبنا؛ فدل على صحة ما ذهبنا إليه.
القياس:
وأما من وجهة القياس فقالوا: إنما قلنا ذلك؛ لأن (إذا) إذا كانت للمفاجأة كانت ظرف مكان، والظرف يرفع ما بعده، وتعمل في الخبر عمل وجدتُ؛ لأنها بمعنى وجدت.
وقد قال أبو العباس أحمد بن يحي بن ثعلب: إن (هو) في قولهم (فإذا هو إياها) عماد، ونصبت (إذا)؛ لأنها بمعنى وجدتُ على ما قدمناه.
احتجاج مدرسة البصرة:
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز إلا الرفع؛ لأن (هو) مرفوع بالابتداء ولابد للمبتدأ من خبر، وليس هاهنا ما يصلح أن يكون خبراً عنه، إلا ما وقع الخلاف فيه، فوجب أن يكون مرفوعاً، ولا يجوز أن يكون منصوبا بوجه ما؛ فوجب أن يقال (فإذا هُوَ هِىِ) فهو راجع إلى الزنبور؛ لأنه مذكر، وهي راجع إلى العقرب؛ لأنه مؤنث.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما رووهُ عن العرب من قولهم (فإذا هُو إيّاها) فمن الشاذ الذي لا يعبأ به (كالجزم بلن والنصب بلم) وما أشبه ذلك من الشواذ التي تخرج عن القياس، على أنه قد رُوي أنهم أعطوا على متابعة الكسائي جعلاً؛ فلا يكون في قوله محجة لتطرق التهمة في الموافقة.
وأما قولهم (إن إذا كانت للمفاجأة كانت بمنزلة وجدت) فباطل؛ لأنها إن كانت بمنزلة وجدت في العمل فوجب أن يرفع بها فاعل ويُنصب بها مفعولان، كقولهم (وَجَدْتُ زيداً قائماً) فترفع الفاعل وتنصب المفعولين.
وإن قالوا إنها بمعنى وجدت ولا تعمل عملها كما أن قولهم (حَسْبُكَ زَيْدٌ) بمعنى الأمر وهو
اسم وليس بفعل.
وكقولهم (أحْسِنْ بِزَيْدٍ) لفظه لفظ الأمر وهو بمعنى التعجب.
وكقولهم (رَحِمَ اللهُ فلاناً) لفظه لفظ الخبر وهو في المعنى دعاء.
وكقوله تعالى في قراءة من قرأ بالرفع (لا تُضَارُّ وَالدةٌ بِوَلدهَا) لفظه لفظ الخبر والمراد به النهي، وكقوله تعالى (فهل أنتم مُنْتَهُونَ) أي: انْتَهُوا، لفظه لفظ الاستفهام، والمراد به الأمر.
وكقوله تعالى (فَلَيَمْدُدْ لَهُ الرحمنُ مَداً ) لفظه لفظ الأمر والمراد به الخبر.
وكقوله تعالى: (وَالْوَلِدَاتُ يُرّضِعْنَ أولاَدَهُنَّ) أي: ليرضعن، لفظه لفظ الخبر والمراد به الأمر.
إلى غير ذلك من الأماكن التي لا تحصى كثرة، فكذلك نقول نحن هاهنا: (إذا) بمعنى وجدت وهي في اللفظ ظرف مكان، وظرف المكان يجب رفع المعرفتين بعده، فوجب أن يقال (فإذ هُوَ هِىَ).
وإن قالوا (إنها تعمل عمل الظرف وعمل وجدت؛ فترفع الأول؛ لأنها ظرف وتنصب الثاني على أنها فعل ينصب مفعولين فباطل؛ لأنهم إن أعملوها عمل الظرف بقي المنصوب بلا ناصب، وإن أعملوها عمل الفعل لزمه موجد فاعل ومفعولين، وليس لهم إلى إيجاد ذلك سبيل.
وإما قول أبي العباس ثعلب (إنه وفي قولهم فإذا هو إياها عِمَادٌ) فباطل عند الكوفيين والبصريين.
لأن العماد عند الكوفيين – الذي يسميه البصريون الفصل – يجوز حذفه من الكلام ، ولا يختل معنى الكلام بحذفه، ألا ترى أن كل وحذفت العماد الذي هو الفصل من قولك (كان زيدٌ هُوَ القائمَ)، فقلت (كان زيدٌ القائمَ) لم يختل معنى الكلام بحذفه؛ وكان الكلام صحيحاً، وكذلك سائر (بقية)
الأماكن التي يقع فيها العماد الذي هو الفصل يجوز إثباته وحذفه، أو حذفته هاهنا من قولهم (فإذا هو إيَّاها) لاختلَّ معنى الكلام وبطلت فائدته؛ لأنه يصير (فإذا إياها). وهذا لامعنى له ولا فائدة فيه؛ فبطل ما ذهبوا إليه. والله أعلم بالصواب
قلتُ: نحن لا يهمنا الخلاف في هذه المسالة القديمة بين الكوفيين والبصريين بقدر ما يهمنا هو الذَّبُ عن الكسائي، الإمام الثقة الثبت، وأحد القراء السبعة، والذي أثنى عليه جمهور من أهل العلم، كيونس والشافعي وابن معين وأبي منصور الأزهري، فضلا عن أئمة الكوفيين كالفراء وابن الأنباري.
ثم أن هذه الحكاية على كثرة إيرادها في كتب النحو والتراجم؛ ففيها طعنٌ في الإمام الكسائي رحمه الله– ترميه برشوة الأعراب والتآمر والكيد لسيبويه - رحمه الله - والكذب – على اللغة العربية، وعلى لسان العرب وعلى العلم.
الكسائي هو أحد القراء العشرة، وشيخ مدرسة الكوفة وله مكانته العلمية، فهو صاحب علم وفضل.
فلعل هذه الحكاية من وضع الرواة، ألا ترى أنهم قد كُذِب عليه - صلى الله عليه وسلم – في كثير من الأحاديث، الطعن فيما دونه – صلى الله عليه وسلم – ودون منزلة صحابته الكرام – رضى الله عنهم – من باب أولى.
وقد روى الشيخان في صحيحهما من حديث أبي هريرة – رضى الله عنه - عن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".
والكسائي مشهود له بالصدق فهو رجل صادق ﻻ يحﱡب أن يقول بما ﻻ يعتقد، كما أنه رحمه الله يخاف أن يتسرع في الجواب، وهذا هو دأب العلماء: التأني وعدم العجلة.
فقد نقل الخطيب البغدادي في تاريخه قوله: قال الفّراء: لقيت الكسائي يومًا فرأيته كالباكي
فقلت له: ما يبكيك؟.
فقال: هذا الملك يحيى بن خالد يوجه إلﱠي فيحضرني فيسألني عن الشرع، فإن أبطأت في الجواب لحقني منه عيب، وإن بادرت لم آمن الزلل.
قال: فقلت له ممتحنًا: قل يا أبا الحسن من يعترض عليك، قل ما شئَت فأنت الكسائي ؟!. فأخذ لسانه؟، فقال: قطعه الله إذاً ...".
و في هذه القصة دليلٌ على مدى صدق وورع الإمام الكسائي – رحمه الله -.
أضف إلى ذلك لقاء الكسائي بالأخفش تلميذ سيبويه
ذكر ياقوت الحموي في (معجم الأدباء) أن الأخفش قدم بغداد، ودخل المسجد الذي يصلي فيه الكسائي، وحضر معه صلاة الظهر، ولما فرغ الكسائي من الصلاة وكان إماماً طرح عليه الأخفش مسائل علمية، وتذكر الروايات أنها كانت مائة مسالة، الأخفش يسأل والكسائي يجيب، وكلما أجاب الكسائي خطاهُ الأخفش، فتواثب أصحابُ الكسائي عليه غير أن الكسائي منعهم وقال له: أأنت الأخفش؟، فقال الأخفش: نعم، فعانقهُ الكسائي وقال: لي أولادٌ أحِبُّ أن يتأدبوا بك ويتخرجوا على يديك، وتكون معي غير مفارقٌ لي، فأجبته إلى ذلك ولما اتصلت الأيام بالاجتماع، سألني أن أولف له كتاباً في معاني القرآن، فألفتهُ، وجعله إماماً وجعل له كتاباً في المعاني.
وفي هذه القصة دليلٌ واضحٌ على أن الكسائي كان يعرف قدر أهل العلم ويحفظ كرامتهم، وينزلهم المنازل التي تليقُ بهم.
والدليل على تضارب هذه الروايات ما يلي:
ذهب البعضُ إلى القول بأن الأعراب كانوا من عرب الحطمة، ولم يكونوا بالفصحاء.
وذهب البعضُ الاخر بأن الأعراب لم ينطقوا العبارة وإنما اكتفوا بقولهم: "القول ما قال الكسائي".
اخيراً من باب الذَب عن هذا الإمام:
قال أبوعبيد في كتاب القراءات: كان الكسائي يتخير القراءات فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضاً، وليس هناك أضبط للقراءة ولا أقوم بها من الكسائي.
وقال ابن مجاهد: اختار الكسائي من قراءة حمزة ومن قراءة غيره متوسطة غير خارجة عن آثار من تقدم من الأئمة وكان إمام الناس في القراءة في عصره.
وكان الناس يأخذون عنه ألفاظه بقراءته عليهم، وينقطون مصاحفهم من قراءته.
وقال إسماعيل جعفر المدني وهو من كبار أصحاب نافع: ما رأيت أقرأ لكتاب الله تعالى من الكسائي.
قال أبوبكر بن الأنباري: اجتمعت في الكسائي أمور كان أعلم الناس بالنحو، وأوحدهم في الغريب، وأوحد الناس في القرآن، فكانوا يكثرون عنده في جمعهم ويجلس على كرسي ويتلو القرآن من أوله إلى آخره وهم يسمعون ويضبطون عنه حتى المقاطع والمبادئ.
وقال يحيى بن معين: ما رأيت بعينى هاتين أصدق لهجة من الكسائي.
وروى عنه القراءة عرضاً وسماعاً أناس لا يحصى عددهم، منهم أحمد بن جبير، وأحمد بن منصور البغدادي، وحفص بن عمر والدوري، وأبو الحارث الليث بن خالد، وعبدالله بن أحمد بن ذكوان، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وقتيبة بن مهران، والمغيرة بن شعيب، ويحيى بن آدم وخلف بن هشام البزار، وأبو حيوة شريح بن يزيد، ويحيى بن يزيد الفراء.
وروى عنه الحروف يعقوب بن إسحاق الحضرمي.
وكما كان الكسائي إماماً في القراءات كان إماماً في النحو واللغة، قال الفضيل بن شاذان: لما عرض الكسائي القراءة على حمزة خرج إلى البدو فشاهد العرب وأقام عندهم حتى صار كواحد منهم ثم دنا إلى الحضر وقد علم اللغة.
وقال الشافعي: من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيل على الكسائي، وقال غيره: انتهت إلى الكسائي طبقة القراءة واللغة والنحو والرياسة، وكان يؤدب ولدى الرشيد الأمين والمأمون.
وفي تاريخ ابن كثير: أخذ الكسائي عن الخليل صناعة النحو فسأله يوماً عمن أخذت هذا العلم فقال له الخليل من بوادي الحجاز، فرحل الكسائي إلى هناك فكتب عن العرب شيئاً كثيراً، ثم عاد إلى خليل فوجده قد مات وتصدر مكانه يونس، فجرت بينهما مناظرات، أقر يونس للكسائي فيها بالفضل وأجلسه في موضعه.
وتوفى الكسائي على أصح الأقوال سنة تسع وثمانين و مائة عن سبعين سنة صحبة هارون الرشيد بقرية " رَنْبَويَهْ " من أعماله الري، متوجهين إلى خرسان ومات معه في المكان المذكور محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة.
وفي هذا قال الرشيد: دفنا الفقه والنحو في الري في يوم واحد، وفي رواية أنه قال: اليوم دفنا الفقه والعربية.
انظر ترجمته في: معرفة القراء الكبار (1/100)، النشر لابن الجزري (1/172)، الأعلام (5/14)
أمنْ كان هذا حاله، هل يدلس على الناس.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وكتب
أبو الحسن عمران محمد علي السليماني الليبي
يوم الأحد بتاريخ: الرابع عشر من شهر شوال من عام 1435 هــ
منقول بتصرف