الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
قال الشوكاني في نيل الأوطار (3/355) :" وَهَذَا تَعْوِيلٌ عَلَى رَأْيٍ فَاسِدٍ حَاصِلُهُ رَدُّ كَثِيرٍ مِنْ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا حُجَّةٍ نَيِّرَةٍ فَكَمْ مَوْطِنٍ مِنْ الْمَوَاطِنِ يَقُولُ فِيهِ الشَّارِعُ لَا يُجْزِئُ كَذَا لَا يُقْبَلُ كَذَا لَا يَصِحُّ كَذَا ، وَيَقُولُ الْمُتَمَسِّكُونَ بِهَذَا الرَّأْيِ يُجْزِئُ وَيُقْبَلُ وَيَصِحُّ وَلِمِثْلِ هَذَا حَذَّرَ السَّلَفُ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ "
أقول : هنا الشوكاني ينقل تحذير السلف من أهل الرأي ، مقراً له بل ويذكر وجهه ، ويرمي أهل الرأي برد كثيرٍ من السنة
نقلت هذا الكلام رداً على من زعم أن ذم أهل الرأي قد هجره أهل العلم
والسؤال هنا : من هم أهل الرأي ؟
فالجواب : لا ينطبق مسمى أهل الرأي على أحد من المذاهب الفقهية المتبوعة إلا الحنفية ، لو نظرت في الجواهر المضية في طبقات الحنفية لوجدت عبد القادر القرشي كثيراً ما يصف أصحابه ب(إمام أهل الرأي )
وقد صرح الشوكاني بأن الحنفية هم أهل الرأي في السيل الجرار حيث قال :" "فهذه الأحاديث متعاضدة على تقديم الكفارة على الحنث قال ابن المنذر رأى ربيعة والأوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي يعني الحنفية أن الكفارة تجزىء"
فإن قال قائل : الشوكاني نفسه وقعت منه زلات فكيف يعتمد في مثل هذا ؟
فيقال : الإمام الشوكاني نشأ في بيئة زيدية قبورية اجتمع فيها التعطيل والتشيع والتجهم والتقليد ، وقد حارب هذه كلها في الجملة ، ووقع له محن عظيمة بسبب صدعه بالحق ، وما وقع منه من الزلل الظاهر أن سببه تلك النشأة إذ أن لها آثاراً تبقى على المرء ، أو أن كتب أهل السنة لم تكن في ناحيته ، وقد كان الشوكاني كلما طال به العمر اقترب من السنة وأهلها أكثر وأكثر حتى أنه رثى الإمام محمد بن عبد الوهاب بمرثية جزلة ، وانظر ما كتبه الدكتور عبد الله نومسوك في كتابه ( منهج الشوكاني في العقيدة ) ، فمثل هذا ترد عليه زلته مع حفظ قدره لما علمنا من تحريه للحق وحرصه عليه
وهو هنا إنما ينقل كلام السلف ، وكل من نظر في كلامهم بعين الإنصاف خرج بالنتيجة نفسها التي خرج بها الشوكاني رحمه الله تعالى
وهنا سؤال : هل أهل الرأي من أهل الحديث أم هم قسيم أهل الحديث أي أن الناس قسمان أهل رأي وأهل الحديث ؟
من المعلوم أن عدداً من أهل العلم فسروا أحاديث الطائفة المنصورة والفرقة الناجية بأنهم أهل الحديث حتى قال قائلهم ( إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ) ، فإذا كان أهل الرأي من أهل الحديث فهم داخلون في هذه الفضيلة ، وإن لم يكونوا كذلك فليس لهم من مسمى الطائفة المنصورة والفرقة الناجية نصيب
والحق أنهم قسيم أهل الحديث ، وقسيم الشيء لا يكون قسماً منه ، بل لا زالت النفرة عظيمة بينهم والناس يقولون ( هذا من أهل الرأي ) ويقولون ( هذا من أهل الحديث ) بل يقولون ( فلان ترك مذهب أهل الرأي وصار من أهل الحديث )
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (30/404) : "وَأَمَّا إسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الرَّأْيِ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ"
فهذا نص على أن مذهب أهل الرأي غير مذهب أهل الحديث
وقال الخطيب في الفقيه والمتفقه مبيناً سبب عداوة أهل الرأي لأهل الحديث (2/365) :" أما طعن المتخصصين من أهل الرأي والمتكلمين ، فأنا أبين السبب فيه ليعرفه من لم يكن يدريه أما أهل الرأي فجل ما يحتجون به من الأخبار واهية الأصل ، ضعيفة عند العلماء بالنقل ، فإذا سئلوا عنها بينوا حالها ، وأظهروا فسادها ، فشق عليهم إنكارهم إياهم ، وما قالوه في معناها ، وهم قد جعلوها عمدتهم ، واتخذوها عدتهم ، وكان فيها أكثر النصرة لمذاهبهم ، وأعظم العون على مقاصدهم ومآربهم ، فغير مستنكر طعنهم عليهم ، وإضافتهم أسباب النقص إليهم ، وترك قبول نصيحتهم في تعليلهم ، ورفض ما بينوه من جرحهم ، وتعديلهم ، لأنهم قد هدموا ما شيدوه وأبطلوا ما أموه منه وقصدوه ، وعللوا ما ظنوا صحته واعتقدوه"
قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى الكبرى (5/139) : فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَدُلَّ النَّاسَ قَطُّ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ شُرُوطُ الْبَيْعِ، أَوْ النِّكَاحِ، كَذَا، وَكَذَا، وَلَا هَذِهِ الْعِبَادَةُ، أَوْ الْعَقْدُ صَحِيحٌ؛ أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، بَلْ هَذِهِ كُلُّهَا عِبَارَاتٌ أَحْدَثَهَا مَنْ أَحْدَثَهَا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ"
فقرنهم بأهل الكلام
فإذا علمت هذا فمسمى الطائفة المنصورة والفرقة الناجية لا يدخل فيه أهل الكلام وأهل الرأي وأهل التصوف ، وإن كان في أفرادهم من هو فاضل معذور ، ولكن الكلام هنا على الحكم العام
قال عبد الحليم ابن تيمية والد شيخ الإسلام في المسودة (1/256) :" [والد شيخنا] فصل:
فى قول أحمد: "لا يروى عن أهل الرأى" تكلم عليه ابن عقيل بكلام كثير قال في رواية عبد الله أصحاب الرأى لا يروى عنهم الحديث قال القاضي وهذا محمول على أهل الرأى من المتكلمين كالقدرية ونحوهم.
قلت ليس كذلك بل نصوصه في ذلك كثيرة وهو ما ذكرته في المبتدع ، أنه نوع من الهجرة فانه قد صرح بتوثيق بعض من ترك الرواية عنه كأبي يوسف ونحوه ولذلك لم يرو لهم في الامهات كالصحيحين"
أقول : هذا نص مهم يبين فيه والد شيخ الإسلام أن الإمام أحمد كان يدعو إلى ترك الرواية عن أهل الرأي وإن كانوا ثقات ، وأن هذا من باب هجران المبتدع ، ويمثل بأبي يوسف القاضي ، وشيخ الإسلام هنا يقر والده ولا يعلق على كلامه بشيء
ونص أحمد المشار إليه هو ما روى العقيلي في الضعفاء (1/59) حدثنا آدم بن موسى قال : سمعت محمد بن إسماعيل البخاري قال : أسد بن عمرو أبو المنذر البجلي كوفي صاحب رأي ليس بذاك عندهم . حدثنا عبد الله بن أحمد قال : سألت أبي عن أسد بن عمرو صدوق ؟ قال : أصحاب أبي حنيفة ليس ينبغي أن يروى عنهم شيء
فهذا نص أحمد وهذا شرح أصحابه ( من المتأخرين ) لكلامه رحمه الله تعالى
وليعلم أن أبا يوسف القاضي من أفاضل أهل الرأي ، فقد خالف إمامه في مسائل كثيرة كان الحق فيها معه ، ولم يصح عنه قول الجهمية بل صح عنه أنه ذم الجهمية والمقاتلية كما في تاريخ بغداد ، كما لم يصح عن إمامه ذلك ، وكان ينكر القول بالسيف ، وكان صدوقاً في الحديث لم يكن ضعيفاً ، ومع ذلك امتثل أصحاب الصحيحين وصية الإمام أحمد بترك الرواية عن أهل الرأي كما ذكر والد شيخ الإسلام بل وامتثلها أصحاب الكتب الستة إذ لم يخرجوا لكبار أصحاب الرأي شيئاً
فإن قال قائل : أليس قد خرجوا لبعض أهل البدع ممن هم ليسوا في العلم والفضل كأهل الرأي ؟
فالجواب : بلى ، وذلك له تخريجان
الأول : أن يقال أنهم خرجوا لمن لا يرونه داعيةً ، وقد رأوا هؤلاء دعاةً إما إلى الإرجاء أو إلى الرأي المذموم
الثاني : أن يكون أهل الرأي لقلة عنايتهم بالآثار لا يحتاج إليهم ، مع ما هم عليه من الحال غير المرضية عند السلف لهذا هجروا روايتهم
وليعلم أن أهل الرأي يعظمون أبا يوسف جداً ويعدونه الإمام الثاني في مذهبهم ، ومن أخذ بقوله وخالف قول الإمام لم يكن عندهم خارجاً من المذهب ، فإذا كان الأمر كذلك فلا شك أن يكرهون ذلك الكلام الذي قاله والد شيخ الإسلام
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (4/207) :" ولا خلاف عنه _ يعني أحمد _ في أنه لا يستفتي أهل الرأي المخالفون لسنة رسول الله ص - وبالله التوفيق ولا سيما كثير من المنتسبين إلى الفتوى في هذا الزمان وغيره وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي فقال ما يبكيك فقال استفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم قال ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق"
أقول : هنا ابن القيم ينقل عن الإمام أحمد كراهيته لاستفتاء أهل الرأي ويقره فليس كلام أحمد مهجوراً كما يزعم بعضهم ، وإذا كان أحمد لا يرى الرواية عنهم فكيف يرى أخذ كلامهم في الفتيا
قال عبد الله بن أحمد في مسائله عن أبيه 1585 - سَأَلت ابي عَن الرجل يُرِيد ان يسْأَل عَن الشَّيْء من امْر دينه مِمَّا يبتلى بِهِ من الايمان فِي الطَّلَاق وَغَيره وَفِي مصر من اصحاب الرَّأْي وَمن اصحاب الحَدِيث لَا يحفظون وَلَا يعْرفُونَ الحَدِيث الضَّعِيف وَلَا الاسناد الْقوي فَلِمَنْ يسْأَل لاصحاب الرَّأْي اَوْ لهَؤُلَاء اعني اصحاب الحَدِيث على مَا قد كَانَ من قلَّة معرفتهم قَالَ يسْأَل اصحاب الحَدِيث لَا يسْأَل اصحاب الرَّأْي ضَعِيف الحَدِيث خير من رَأْي ابي حنيفَة.
وقال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة في ترجمة الحافظ أحمد بن الفرات الرازي (1/54) :" ونقل عَنْ إمامنا أشياء منها قَالَ: قَالَ أَحْمَد من دل عَلَى صاحب رأي ليفتيه فقد أعان عَلَى هدم الإسلام"
وقد ورد نحو هذا عن الإمام الشافعي
قال أبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام 351 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّيْرَجَانِيِّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ السُّلَيْمَانِيُّ الْحَافِظُ بِبِيِّكَنْدَ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْقَرَّابِيُّ هَرَوِيُّ بِبَلْخٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ سَعِيدٍ سَمِعْتُ الْبُوَيْطِيَّ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ أَنْ يُفْتِيَ فَإِنْ حَلَّ فَلِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ .
وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أنهم من أقل الناس نفعاً في باب الإفتاء ، مع كثرة عددهم وقوة سلطانهم
قال شيخ الإسلام في الاستقامة ص12:" الوجه الثالث أن النصوص دالة على عامة الفروع الواقعة كما يعرفه من يتحرى ذلك ويقصد الإفتاء بموجب الكتاب والسنة ودلالتها وهذا يعرفه من يتأمل كمن يفتى في اليوم بمائة فتيا أو مائتين أو ثلاثمائة وأكثر أو أقل وأنا قد جربت ذلك ومن تدبر ذلك رأى أهل النصوص دائما أقدر على الإفتاء وأنفع للمسلمين في ذلك من أهل الرأى المحدث فإن الذى رأيناه دائما أن أهل رأى الكوفة من أقل الناس علما بالفتيا وأقلهم منفعة للمسلمين مع كثرة عددهم وما لهم من سلطان وكثرة بما يتناولونه من الأموال الوقفية والسلطانية وغير ذلك ثم إنهم في الفتوى من أقل الناس منفعة قل أن يجيبوا فيها وإن أجابوا فقل أن يجيبوا بجواب شاف وأما كونهم يجيبون بحجة فهم من أبعد الناس عن ذلك"
وقال الطوفي في شرح مختصر الروضة :" وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ بِحَسَبِ الْإِضَافَةِ هُمْ كُلُّ مَنْ تَصَرَّفَ فِي الْأَحْكَامِ بِالرَّأْيِ ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَسْتَغْنِي فِي اجْتِهَادِهِ عَنْ نَظَرٍ وَرَأْيٍ ، وَلَوْ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَتَنْقِيحِهِ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ .
وَأَمَّا بِحَسَبِ الْعَلَمِيَّةِ ، فَهُوَ فِي عُرْفِ السَّلَفِ عَلَمٌ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ ، وَهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ ، أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْهُمْ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَؤُلَاءِ أَهْلَ الرَّأْيِ ، لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ إِلَى الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ ; إِمَّا لِعَدَمِ بُلُوغِهِمْ إِيَّاهُ ، أَوْ لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ رِوَايَةَ غَيْرِ فَقِيهٍ ، أَوْ قَدْ أَنْكَرَهُ رَاوِي الْأَصْلِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، أَوْ لِكَوْنِهِ وَارِدًا فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي ذَلِكَ ، وَبِمُقْتَضَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ لَزِمَهُمْ تَرْكُ الْعَمَلِ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ حَتَّى خَرَّجَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي «جَامِعِهِ» نَحْوَ مِائَةٍ أَوْ خَمْسِمِائَةِ حَدِيثٍ صِحَاحٍ خَالَفَهَا أَبُو حَنِيفَةَ ، وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي التَّشْنِيعِ عَلَيْهِ حَتَّى صَنَّفَ كِتَابًا فِي الْخِلَافِ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَثُرَ عَلَيْهِ الطَّعْنُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ حَتَّى بَلَغُوا فِيهِ مَبْلَغًا وَلَا تَطِيبُ النَّفْسُ بِذِكْرِهِ ، وَأَبَى اللَّهُ إِلَّا عِصْمَتَهُ مِمَّا قَالُوهُ ، وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا إِلَيْهِ نَسَبُوهُ "
أقول : كلام الطوفي في تلخيص أسباب تركهم للعمل في الأحاديث الصحيحة ، حسن جداً ، ولا شك أن هذه قواعد محدثة تشبه قواعد المتكلمين في رد الأحاديث ، ونقله عن الإمام أحمد أنهم خالفوا مائة أو خمسمائة حديثاً ثابتاً أيضاً نفيس ، وقوله أن أئمة السلف كثر طعنهم عليه هو الواقع الذي لا ينكره إلا مكابر
غير أن رده لكلام بما يوهم أنهم افتروا عليه بقوله (وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا إِلَيْهِ نَسَبُوهُ ) فهذا مرفوض من الطوفي ، والطوفي هذا متهم بالرفض على حنبليته وهو من تلاميذ شيخ الإسلام ولكنه على غير عقيدته وله في شرح مختصر الروضة كلام نجس في المغيرة بن شعبة فليته صان عرض الصحابي كما صان عرض إمام أهل الرأي ، وقد كتب بعض أهل عصرنا كتاباً يبرئه فيه من تهمة الرفض التي أثبتها عليه ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة ، وكلامه في المغيرة يوحي أنه مائل إلى هذا المذهب الخبيث
وهنا وقفتان
الأولى : مع قول قال العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى في كتابه : " الجرح والتعديل " ( ص 24 ) : وقد تجافى أرباب الصحاح الرواية عن أهل الرأي فلا تكاد تجد اسما لهم في سند من كتب الصحاح أو المسانيد أو السنن كالإمام أبي يوسف والإمام محمد بن الحسن فقد لينهما أهل الحديث كما ترى في " ميزان الاعتدال " ولعمري لم ينصفوهما وهما البحران الزاخران وآثارهما تشهد بسعة علمهما وتبحرهما بل بتقدمهما على كثير من الحفاظ وناهيك كتاب " الخراج " لأبي يوسف و " موطأ " الإمام محمد
وإن كنت أعد ذلك في البعض تعصبا إذ يرى المنصف عند هذا البعض من العلم والفقه ما يجدر أن يتحمل عنه ويستفاد من عقله وعلمه ولكن العصبية
ولقد وجد لبعض المحدثين تراجم لأئمة أهل الرأي يخجل المرء من قراءتها فضلا عن تدوينها وما السبب إلا تخالف المشرب على توهم التخالف ورفض النظر في المآخذ والمدارك التي قد يكون معهم الحق في الذهاب إليها فإن الحق يستحيل أن يكون وقفا على فئة معينة دون غيرها والمنصف من دقق في المدارك غاية التدقيق ثم حكم
نعم كان ولع جامعي السنة بمن طوف البلاد واشتهر بالحفظ والتخصص بعلم السنة وجمعها وعلماء الرأي لم يشتهروا بذلك وقد أشيع عنهم أنهم يحكمون الرأي في الأثر وإن كان لهم مرويات مسندة معروفة رضي الله عنها الجميع وحشرنا وإياهم مع الذين أنعم الله عليهم " . انتهى
أقول : ليس هذا عشك فادرجي ، أهل الحديث في زمن السلف أعلم بآلاف المرات بمن يخرج له ومن لا يخرج ، وقد أمرنا ألا ننازع الأمر أهله ، والطعن في أهل الحديث فتح لباب الزندقة فإذا طعنا بهم ، طعنا في أحكامهم على الرواة وإذا طعنا في أحكامهم على الرواة سقطت السنن ، واستعلى أهل البدع ، والقاسمي زعم أن أهل الحديث ظلموا الجهم بن صفوان والمعتزلة في كتابه ( تاريخ الجهمية والمعتزلة ) متابعاً لعصريه ابن عقيل الحضرمي صاحب ( العتب الجميل ) الذي زعم أن أهل الحديث ظلموا الشيعة من الرواة
وإذا قلنا بأن أهل الحديث ظلموا أهل الرأي فتحنا الباب للقاسمي ليدافع عن الجهمية ، وابن عقيل ليدافع عن الشيعة ، إذ خلعنا عنهم جلباب الإنصاف
وإنصاف أهل الحديث أعظم من أن يدلل عليه مثلي ، ويكفي لرد قول القاسمي أنهم خرجوا لعدد من الشيعة والمرجئة وغيرهم من أهل البدع مع ما بينهم من التنافر العقدي الذي هو أعظم من التنافر بينهم وبين أهل الرأي ، بشرط أن يكونوا ثقات وغير دعاة
وأما تركهم لأهل الرأي فقد بينت سببه وهو أنهم لا يحتاج إليهم في مثل هذا الباب ، مع انحرافهم المعروف عن السنة ، ومحمد بن الحسن روايته للموطأ قوية لأنه كتاب ، ولكنه في غير الموطأ مخلط وقد نظرت في كتابه ( الأصل ) فرأيت أوهاماً عجية
قال الآجري في سؤالاته لأبي داود 1844 - وسالته عن محمد بن الحسن الشيباني فقال : لا شئ لا يكتب حديثه.
قال البَرْقانِيّ سألت الدَّارَقُطْنِيّ عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ، فقال قال يحيى بن معين كذاب ، وقال فيه أحمد ، يعني ابن حنبل نحو هذا.
قال أبو الحسن الدَّارَقُطْنِيّ وعندى لا يستحق الترك. (46.
وقوله ( لا يستحق الترك ) دليل على أنه يضعفه
وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل أخبَرنا عَبد الله بن أَحمد بن محمد بن حَنبل، فيما كَتَبَ إلَيَّ، قال: سَألتُ أَبي عن محمد بن الحسن صاحب الرأي، قال: لا أروى عنه شيئًا.
قال: قُرِئَ عَلَى العباس بن محمد الدُّوري، قال: سُئِل يَحيَى بن مَعين عن محمد بن الحسن الشيباني، فقال: ليس بشيءٍ.
سَمِعتُ أَبي يقول: وجدت في كتاب السير لمحمد بن الحسن صاحب الرأي، عن الواقدي أحاديث فلم يضبطوا عن محمد بن الحسن، فرووا عن محمد بن الحسن، عن الواقدي أحاديث، ورووا الباقي عن محمد بن الحسن، عن مشايخ الواقدي مثل خارجة بن عَبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت، وعن محمد بن هلال، وعن الضحاك بن عثمان، وهذا كله عن الواقدي، فجعلوه عن محمد بن الحسن عن هؤلاء المشايخ.
وترجم له عامة من صنف في الضعفاء من الأوائل
وقال ابن حبان في المجروحين :" 967 - مُحَمَّد بن الْحسن الشَّيْبَانِيّ صَاحب الرَّأْي صحب النُّعْمَان وَهُوَ أَبُو حنيفَة أَيَّامًا يسيرَة يروي عَن النُّعْمَان بن ثَابت وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَسمع من يَعْقُوب عَن النُّعْمَان أَكثر مَا يَقُول عَلَيْهِ وَكَانَ مرجئا دَاعيا إِلَيْهِ وَهُوَ أول من رد على أهل الْمَدِينَة وَنصر صَاحبه يَعْنِي النُّعْمَان وَكَانَ عَاقِلا لَيْسَ فِي الحَدِيث بِشَيْء كَانَ يروي عَن الثِّقَات ويهم فِيهَا فَلَمَّا فحش ذَلِك مِنْهُ اسْتحق تَركه من أجل كَثْرَة خطئه لِأَنَّهُ كَانَ دَاعِيَة إِلَى مَذْهَبهم"
والخلاصة أن اتفقوا على الكلام وإنما نقل عن ابن المديني وحده تعديله بقوله ( صدوق ) ولم يقل ثبت كما اقترح القاسمي في حديثه فمن تناطح يا قاسمي ومن تناطح يا أباغدة ، وقد اعترفا أن أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن اجتنبوا حديث هؤلاء ، فهؤلاء كلهم ظلمة ، والمنصف القاسمي وأبو غدة !
قال المعلقون على سير أعلام النبلاء (13/ 384) :" جرح الراوي الثقة العدل الضابط بأنه من أهل الرأي مردود على قائله، لا يلتفت إليه، ولا يعبأ به، لانه صادر عن تعصب وهوى.
فأبو حنيفة ومالك وربيعة والشافعي وأحمد، وكثير غيرهم يدخلون في عداد أهل الرأي، لان كل واحد منهم له تأويل في آية، أو مذهب في سنة رد من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ، أو ادعاء نسخ، أو بوجه من الوجوه المعروفة عند أهل العلم"
أقول : هذا خطل فكيف يكون أحمد والشافعي ومالك من أهل الرأي ، وهم يذمون أهل الرأي ، وأهل الرأي لهم قواعد في رد الأخبار الصحيحة ذكرها الطوفي انفردوا بها عن الناس
ولا زال الناس يفرقون بين أهل الرأي وأهل الحديث ، وهذا اتهام للأئمة في عقولهم إذ يذمون أهل الرأي وهم أهل رأي !
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (30/310) : "وَكَانَ أَحْمَد يَكْرَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا يَرُدُّ عَلَى أَهْلِ الرَّأْيِ وَيَقُولُ: إنَّهُمْ اتَّبَعُوا الْآثَارَ"
فهذا نص من أحمد وشيخ الإسلام في إبطال قياس أهل الرأي على أهل المدينة
وليعلم الناظر أنه ثقيلٌ على نفسي بعض هذا الكلام الذي كتبت ، ولكن ما عسانا نصنع أمام استطالة أهل الرأي المعاصرين على أهل الحديث ، وقدحهم فيهم ، فأن نسب وأن نشتم فهذا أمرٌ نسأل الله عز وجل أن يقدرنا على احتماله ، وأما التطاول على أئمة السلف فهذا أمرٌ لا يطاق ، ولا بد من الذب عنهم
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم