حديث إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان عليه أن يدل أمته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال -رحمه الله تعالى-: وله عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جُعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تُنْكَر، فتجيء فتنة، فيرقق بعضها بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يُزحزَح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإذا جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر »1
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
هذا حديث عظيم اشتمل على أمور، فهو عدة أحاديث في حديث واحد، يقول -رضي الله عنه- عبد الله بن عمرو بن العاص: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم »2هذا واجب الرسل، وهذه هي الغاية من إرسالهم، الغاية من إرسال الرسل دلالة الخلق على ما فيه نجاتهم ,
وفلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وإنذار الخلق مما فيه شقاؤهم وهلاكهم في الدنيا والآخرة، فهذا حق عليهم، حق أوجبه الله عليهم، وواجبهم هو البلاغ، الدلالة، أما الهداية والاستجابة فذلك إلى الله، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾3هذا هو المطلوب منه، البيان، ليبين لهم طريق الخير وطريق الشر، يبين لهم ليدلهم على خير ما يعلمونه، وينذرهم شر ما يعلمونه، ﴿ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾3﴿ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾4﴿ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾4﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾5
وأكمل الرسل في هذا هو نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-، أكمل الرسل في هذه الدلالة وفي هذا الإنذار هو الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد دل أمته على كل خير، وحذرهم من كل شر، فقد بلّغ البلاغ المبين كما أمره ربه ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾6﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾7
فما دل عليه -صلى الله عليه وسلم- أمته من الخير هو أعظم وأشمل وأكمل مما دل عليه الأنبياء قبله، وذلك لكمال شريعته وشمولها، لأنها الشريعة العامة لجميع البشر، والشريعة الباقية إلى قيام الساعة، فرسالة محمد -عليه الصلاة والسلام- ليست كسائر الرسالات، رسالة عامة، وهذا من خصائصه -عليه الصلاة والسلام-، كان النبي يبعث إلى القوم خاصة، وأما نبينا فبُعث إلى الناس عامة.
ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: « وإن أمتكم هذه هي الأمة المحمدية، جُعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تُنكَر »8جعلت عافيتها في أولها، العافية: السلامة من الشرور، في عافية البدن والعافية في الدين، فإذا دعا العبد وقال: أسألك العفو والعافية، فلا ينصرف فكره إلى عافية البدن، بل الجميع، يسأل ربه العافية في دينه وفي بدنه، في دينه ودنياه، « جعلت عافيتها في أولها »9
في أولها، الآخرية والأولية أمور نسبية، ليس عندنا تحديد لأول هذه الأمة الموعودة بهذه العافية، وكذلك الآخرية، لكن هذا نفهمه مجملا، نفهمه على سبيل الإجمال، فنعلم أن أول هذه الأمة خير من آخرها، فما في أولها من خير واستقامة وصلاح الحال أعظم وأكثر مما في آخرها، والبلاء والشر في آخر هذه الأمة أكثر منه في أولها، هذا ما نستفيده من هذا اللفظ المجمل.
ويمكن أن نفسر أو نقرب قوله -صلى الله عليه وسلم-: « وإن أمتكم هذه جُعلت عافيتها في أولها »10يمكن أن تفسر هذه الأولية بالقرون الفاضلة كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود، وحديث عمران ابن حصين -رضي الله عنه- أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: « خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم »11قال عمران: فلا أدري هل أذكر بعد قرني قرنين أو ثلاثة. فالمحقق ثلاثة، فلعل هذه القرون الفاضلة هي الموعودة بالعافية، هي التي فيها العافية، ونعلم أن هذه ليست عافية مطلقة، ليست عافية مطلقة، لأنه وقع في هذه القرون في أواخر عهد الصحابة، وبعد عهد الصحابة وبعدهم حدثت أمور وشرور وفتن، لكن مع ذلك فالخير في هذه القرون أو أعظم مما بعدها، فهذه الخيرية لهذه القرون لعله هو المعبر عنه بالعافية في هذا الحديث، والله أعلم.
ويصيب هذه الأمة في آخرها بلاء، شرور وبلاء وفتن، وفعلا اقرءوا التاريخ، الخير باق، الخير باق، لكن الشأن في نسبة ما يكون من خير، تأملوا، اقرءوا التاريخ تجدون الأمور الهائلة والعجب العجاب من الفتن، الفتن الفكرية بالبدع والمحدثات العظام، والفتن بالحروب والقتال والتطاحن والتناحر، إما نزاعا على سلطة، وإما انتصارا ودعوة لمذاهب بدعية وإلحادية، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فتجيء الفتنة في الحديث يقول -صلى الله عليه وسلم-: « تجيء الفتنة فيرقق بعضها البعض »12الذي يظهر -والله أعلم- لفظ الفتنة هنا كأنه جنس، تجيء الفتن يرقق بعضها البعض، يهون بعضها بعضا، الفتنة إذا جاءت ثم جاءت فتنة أكبر منها، يعني كانت الأولى أهون، وإن جاءت فتنة كبرى ثم جاءت التي بعدها خفيفة، دونها، كانت كذلك، يرقق بعضها بعضا، يعني: يهون بعضها بعضا.