عندما تريد التعامل مع الأقوال المختلفة عليك أولًا أن تُحرِّرُ محل النزاع، وهذا أمر مهم جدا، وإلا عرّضتَ نفسك للتخليط، وللهجوم على بعض الأقوال بغير وجهٍ.
مثلا لو نظرنا إلى الخلاف بين جمهور علماء التجويد والعربية وبين علماء الأصوات المحدَثين في حرفَي القاف والطاء من حيث كونهما مجهورين أو مهموسين؛ سنجد أن الفريق الأول يقول إنها مجهورة، والفريق الثاني يقول إنها مهموسة. فقبل أن نتعامل مع هذه الأقوال ينبغي أولا تحرير محل النزاع، ونحن إذا حرَّرْنا محلَّ النزاع سنجد أن الخلاف بين الفريقين مبني على اختلافهم في تحديد ماهيّة الهمس والجهر؛
فالفريق الأول أكثرهم يعرّفون الجهر بأنه امتناع جريان النفس عند النطق بالحرف لقوة الاعتماد على المخرج، أو: قوة التصويت بالحرف لقوة الاعتماد عليه في المخرج حتى مَنَعَ جريانَ النفس معه. ويعرفون الهمس بأنه جريان النفس عند النطق بالحرف لضعف الاعتماد على المخرج، أو: ضعف التصويت بالحرف لضعف الاعتماد عليه في المخرج حتى جرى النفس معه.
وللوقوف على ما ينتقد على هذه التعريفات وغيرِها وكيف تطوَّرَت واختلفت عباراتها؛ ارجع إلى كتاب: الدراسات الصوتية عند علماء التجويد للدكتور غانم الحمد، وأيضا ارجع إلى شرحه على الجزرية.
بينما الفريق الثاني –وهم دارسو الأصوات المحدَثون- يعرّفون الجهرَ بأنه اهتزاز الوترين الصوتيين عند النطق بالحرف (وهذا الاهتزاز يسمونه: النغمة الحنجرية)، ويعرفون الهمس بأنه عدم اهتزاز الوترين عند النطق بالحرف.
وكلُّ فريقٍ صنف الحروف إلى مجهورةٍ ومهموسةٍ بحسب التعريف الذي اعتمدَه.
فأنت تلاحظ أن معتمَدَ الفريق الأول في التفريق بين الجهر والهمس هو جريان النفس وعدمُه. بينما معتمد الفريق الثاني في التفريق هو اهتزاز الوترين مِن عدَمِه.
فإذَنْ هناك اختلافٌ في الأصل، وهذا الاختلاف تفرَّع عنه اختلاف في النتيجة.
ولا شك عندي في صحةِ ورجحانِ ما قرره الدرس الصوتي الحديث في تحديد ماهيّة الهمس والجهر، وبالتالي صحة النتيجة المترتبة على هذا التحديد؛ وذلك للأسباب الآتية:
أولا- وضوحُه وسهولتُه وخلوُّه من الغموض والإشكال الذي يشوب تعريف الفريق الأول.
ثانيا- أنه مبني على حقائق علمية مؤكدة وتؤيده التجربة.
ثالثا- أنه من الناحية العملية لا يتعارض مع النطق السليم الذي ورثناه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم!-، وذلك لأنه مجردُ تفسيرٍ ووصفٍ لحقيقةِ هاتين الصفتين المنقولةِ بالأسانيد المتصلة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم!-، وليس تحريفًا لها عن حقيقتها –كما سيتبين لك بعد قليل-، فإنَّ نطقَ القاف والطاء واحدٌ عند هؤلاء وأولئك، لا خلاف بينهم في ذلك، فالخلاف بينهم إنما هو في تفسيرِ ووصفِ حقيقةِ الصفتين لا في أدائهما.
تماما كالخلاف بين النحويين في بعض أدوات النصب هل هي تنصب بنفسها أم بأن مضمرة؟ وكاختلافهم في الفعل الماضي إذا اتصلت به واو الجماعة -مثلا- هل يُبنى على الضم أم على فتحٍ مقدَّر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة المناسبة؟ وكاختلافهم في فعل الأمر هل هو معرب أم مبني؟ كل هذه الخلافات لا يترتب عليها أثرٌ عمليًّا، فالكل يتفقون في المسألة الأولى على أن المضارع منصوب، ويتفقون في المسألة الثانية على أن ما قبل واو الجماعة ضمٌّ، ويتفقون في المسألة الثالثة على أن آخر فِعْلِ الأمر سكونٌ إن كان آخره حرفا صحيحا وحذفٌ إن كان آخره حرف علةٍ. إنما الخلاف بينهم في تفسير وتعليل ما حصل، أي في الجانب النظري، ولا يترتب عليه خلاف من الناحية العملية.
فالأمر إذن لا يترتب عليه تغيير لنطق القاف والطاء كما يظن البعض ممن لم يتأمل كلام علماء الأصوات جيدا ولم يفهم مرادَهم، وقد كنتُ إلى وقتٍ قريبٍ أحد هؤلاء البعض، وذلك بسبب ما سمعتُه من بعضِ علماء القراءة في ذلك، وكنتُ حينها متأثرا بما قرره الفريق الأول في حَدِّ الهمس والجهر، قبل أن تسنح لي الفرصة وأقف على حقيقة الأمر بنفسي، وعندما حصل ذلك لي تغيَّر الحالُ عندي كما تغيّر عند غيري ممن حصل معهم مثلما حصل معي.
يقول الدكتور غانم الحمَد: "وإذا أبى بعض الدارسين إلا التمسك بالتعريفات الموروثة فإني أدُلُّه على كنز مخبوءٍ في تعريف المجهور والمهموس يمكنه أن يجمع بينه وبين التعريف المعاصر لهما، وهو تعريفُ أصلِه عند سيبويه، ولكن العلماء السابقين تركوا التعريف الواضح للمجهور والمهموس عند سيبويه وتمسكوا بالتعريف الآخر الذي ازداد غموضا كلما تعاورته أقلام المؤلفين.
قال سيبويه في باب الوقف: "واعلم أن من الحروف حروفا مُشْرَبَةً ضُغِطَتْ مِن مواضِعِها فإذا وقفتَ خرجَ معها من الفم صُوَيْتُ وَنَبَا اللسانُ عن موضعه، وهي حروف القلقلة...، ومن المشربة حروفٌ إذا وقفتَ عندها خرج معها نحوُ النفخةِ، ولم تُضغَط ضَغطَ الأولى، وهي: الزاي، والظاء، والذال، والضاد، لأن هذه الحروف إذا خرجتْ بصوتِ الصدر انسلَّ آخرُه وقد فَتَرَ...، وأما الحروف المهموسة فكلُّها تقفُ عندها مع نفخٍ؛ لأنهن يخرجن مع التنفُّسِ لا صوتِ الصدر، وإنما تنسلُّ معه".
ويترجح من سياق النص أن المقصود بالحروف المشربة هي حروف الجهرـ لأنها أشربت صوت الصدر في مقابل الحروف المهموسة، لكن سيبويه لم يذكر هذا المصطلح في حديثه عن الحروف ومخارجها وأحوالها، واستخدم مصطلح المجهور في مقابل المهموس، ولم يذكر مصطلح المُشْرَبَة وغير المشربة معها.
وكان أبو الحسن الأخفش قد استشكل تعريف المجهور والمهموس؛ فسأل شيخَه سيبويه عن الفصل بين المهموس والمجهور، فقال سيبويه: "وإنما فَّق بين المجهور والمهموس أنك لا تصل إلى تبين المجهور إلا أن تُدخِلَه الصوتَ الذي يخرج من الصدر، فالمجهورة كلها هكذا يخرج صوتهن من الصدر ويجري في الحلق...، وأما المهموسة فتخرج أصواتها من مخارجها، وذلك مما يُزْجِي الصوت، ولم يُعتمَد عليها فيها كاعتمادهم في المجهورة، فأُخرِجَ الصوتُ من الفم ضعيفا".
ولم تجد فكرة سيبويه في التمييز بين المجهور والمهموس بالاعتماد على صوت الصدر إلا اهتماما ضعيفا من العلماء اللاحقين، مثل ما نقله ابنُ منظور في لسان العرب عن شَمِرِ بنِ حَمْدَوَيْه قال: "الهمس من الصوت والكلام: ما لا غوْرَ له في الصدر، وهو ما هُمسَ في الفم...، والهَمْسُ والهميسُ: حِسُّ الصوتِ في الفم مما لا إشراب له من صوت الصدر ولا جهارةَ في المنطِق، لكنه كلام مهموسٌ في الفم كالسِّرِّ".
ولا يخفى على القارئ أن سيبويه يريد بصوت الصدر النغمةَ الحنجرية التي تصاحب نطق الأصوات المجهورة، والتي يُحِسُّ المرءُ أنها تخرج من أعلى الصدر، ولم يتحدث سيبويه عن دور الوترين الصوتيين في إنتاجها لعدم معرفة أمل زمانه بتشريح الحنجرة، لكنَّ تصنيفَه للأصوات إلى مجهورةٍ ومهموسةٍ، وصحةَ تحديده لحروفهما -ما عدا القاف والطاء والهمزة، ولا بد أن يكون هناك سبب جعله يذكرها مع الأصوات المجهورة-، وصحةَ تمييزه بين الأصوات المجهورة ومقابِلاتها المهموسة -مثل الدال والتاء، والزاي والسين وغيرها-، كل ذلك يدل على أن سيبويه قد أدرك ظاهرة الجهر والهمس لكنه لم يتمكن من صياغة التعريف على نحو واضح.
ولم يتمسك الدارسون بالجانب الواضح في حديث سيبويه عنهما، وهو ما يتعلق بصوت الصدر، بل أخذوا بالتعريف الغامض، ولم يتمكنوا من الكشف عما يحيط به من غموض، إن لم يزيدوا عليه" اهـ بشيء من التصرف.
ولا أظن علماءَ القراءةِ والعربيةِ المتقدمين إلا أنهم سيَصِلون إلى مثل هذه النتيجة لو كانوا يملكون الإمكانات الهائلة التي يملكها علماءُ الأصوات في زماننا، لا سيما وأن الدرس الصوتي الحديث أثبتَ أن التراثَ الصوتيَّ القديمَ في الجملة صحيحٌ ودقيقٌ، على الرغم من أن علماءنا المتقدمين توصلوا إلى هذه النتائج بمجرد الملاحظة الذاتية، ولم يكن عندهم هذه الإمكانات الهائلة الموجودة في زماننا، وهذا –وايم الله- فخرٌ لهم، ودليلٌ على دقة ملاحظتهم، وتوَقُّدِ أذهانهم، وفرطِ ذكائهم، وعلوِّ كعبهِم، وسعة علمهم، بل إنهم في بعض المسائل فاقوا الدرس الصوتي الحديث بأجهزته وإمكاناته، فلم يتمكن دارسوا الأصوات مع كل هذه الإمكانات من الوصول إلى ما توصل إليه علماؤنا المتقدمون في هذه المسائل. ومن الأمثلة على ذلك أن أكثرَ دارسي الأصوات المحدَثينَ يرون أن الغين والخاء والكاف من مخرج واحد، وأن مخرج القاف أعمق من مخرج هذه الحروف، بينما علماؤنا المتقدمون يرون أن الغين والخاء من مخرج، وأن القاف من مخرج أدنى منه، وأن الكاف من مخرج أدنى من القاف. بل إن من علمائنا المتقدمين مَن حدَّدَ أن الغين والخاء مع اشتراكهما في المخرج إلا أن الغين قبل الخاء بمسافة دقيقة.
وهذا الترتيب من علمائنا المتقدمين أثبتَ العلمُ الحديثُ والتجربةُ صحتَهُ؛ حيث إن بعض دارسي الأصوات وصلوا إلى هذه النتيجة، وأيضا التجربة والتأمل يؤيدان ذلك، يقول الدكتور غانم الحمَد: "ويمكن الاستدلال على ذلك بأمرين:
الأول- تجربة سيبويه:
كان سيبويه قد استخدم تجربة عملية للاستدلال على أن موضع القاف أعمق في آلة النطق من موضع الكاف, فقال: "والدليل على ذلك أنك لو جافيت بين حَنَكَيْكَ فبالَغْتَ ثم قُلْتَ: قَقْ قَقْ؛ لم تَرَ ذلك مُخِلاًّ بالقاف. ولو فعلته بالكاف وما بعدها من حروف اللسان؛ أَخلَّ ذلك بهنَّ".
ولو أنَّا طبَّقنا هذه التجربة على الغين والخاء لوجدنا أن ذلك غير مُخِلٍّ بهما, فلو أنك جافيت بين حَنَكَيْك وقلت (خ خ , غ غ)؛ لأمْكَنَكَ ذلك, ولو قلتَ: ك ك؛ لم تتمكن من النطق بالكاف, وهذا يدل دلالة واضحة على أن الغين والخاء أعمق مخرجا من الكاف.
ولو أنك بالغت في فتح الفم وتجافي الحنكين لَأَخَلَّ ذلك بالقاف أيضا إلى حد كبير، ولم تجد ذلك مخلاَّ بالغين والخاء.
وفي ذلك دلالة واضحة على صحة ترتيب علماء اللغة العربية وعلماء التجويد لأصواتِ أدنى الحلق وأقصى اللسان, وأن المحدثين أخطئوا في تخطئتهم في هذا المجال.
الأمر الثاني- سلوك الغين والخاء:
إن سلوكَ الصوت في الاستعمال اللغوي ومقدارَ تَأَثُّرَه بمجاوِرِه يعتمد على القرب والبعد المخرجيّ في الغالب, فما تَدَانَى في المخارج كان أكثر عرضةً للتأثر بما يجاوره, ومن هذا المنطلَق يمكن النظر إلى مخرج كلٍّ من الأصوات الأربعة (غ خ ق ك) من خلال مقدار تأثرِ النون الساكنة بها, فقد أجمع العلماء وأهل الأداء على أن حكم النون الساكنة عند القاف والكاف الإخفاء, وهي درجةٌ بين الإظهار والإدغام, شأنهما في ذلك شأن ثلاثةَ عشرَ حرفا أُخرى تَخْفَى عندها النون الساكنة. وذهب جمهور القراء وأكثر العرب على إظهار النون الساكنة قبل الغين والخاء, شأنهما في ذلك شأن حروف الحلق الستة, قال سيبويه: "وتكون [أي النون الساكنة] مع الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء بَيِّنَةً موضعها من الفم, وذلك أن هذه الستة تباعدت عن مخرج النون، وليست من قبيلها، فلم تُخْفَ ههنا، كما لم تُدْغَم في هذا الموضع... وبعض العرب يُجْري الغين والخاء مُجْرَى القاف". ووَرَدَ ذلك عن بعض القراء أيضا. ولهذا دلالة واضحة على أن موضع الغين والخاء في آلة النطق أعمق من موضع القاف -وإن كانا يخرجان من أدنى الحلق إلى الفم-.
وكل ذلك يدل على صحة مذهب علماء العربية والتجويد في تحديد مخرج الأصوات الأربعة , وضعفِ أو خطإِ موقفِ دارسي الأصوات المحدثين في هذه المسألة" اهـ.
هذا ما أردتُ توضيحه..
فإن سأل سائل: ما موقع الهمزة مما سبق؟
الجواب: بناء على ما قرره علماء الأصوات من تحديد ماهية الهمس والجهر – اختلفوا في الهمزة على قولين:
القول الأول- أنها مهموسة؛ لعدم اهتزاز الوترين عند النطق بها.
القول الثاني- أنها لا مجهورة ولا مهموسة؛ لتَمَيُّزِ نطقِها بانطباق الوترين وانفتاحهما، فلا تتحقق فيها صفة الهمس والجهر على نحو واضح.
ولعل هذا القول هو الأقرب. والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
كتبه
علي المالكي
منقول من شبكة الاجري