بسم الله الرحمن الرحيم
أول من سنّ ركعتين عند قتله
لفضيلة الشيخ محمد أمان الجامي رحمه الله
وقد شهدت أيام النبوة أبطالا خلّد التاريخ بطولتهم وشجاعتهم وثباتهم على عقيدتهم مهما كلفهم ذلك من الثمن ، ولو كان الثمن إزهاق أرواحهم الطاهرة فلنتخذ منهم خبيب بن عدي كمثال فقط لندرك أثر العقيدة في نفوسهم .
يقول علماء السيرة : أن خبيبا أحد الذين بعثهم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى بعض القبائل التي تسكن بين مكة والمدينة وهي قبيلة عضل وما جاورها من القبائل فبينما هو في طريقه اعتقل ثم حمل إلى مكة وباعه المجرمون لبني الحارث بن عامر بن نوفل ليقتلوه بحارث بن عامر الذي قتله خبيب يوم بدر وفي اليوم المحدد لقتله خرجوا به من الحرم إلى التنعيم ليقتلوه في الحل بعد أن يصلبوه فاستأذن منهم ليصلي ركعتين يناجي فيهما ربه وهو ساجد فأذنوا له فصلى ركعتين حسنتين فلما فرغ فأقبل عليهم فقال : أما والله لولا أن تظنوا أنني جزع من الموت لاستكثرت أو لأطلت فرفع خبيب على الخشبة فقيل : ارجع عن الإسلام نخلي سبيلك . فقال : لا والله ما أحب أن أرجع عن الإسلام وأن لي ما في الدنيا جميعا . وله دعوة مستجابة على الكفار في هذه المناسبة مسجلة في كتب السير وكتب الحديث ولا نطيل بذكرها .
ومما قاله خبيب وهو معلق مصلوب : " اللهم إني لا أرى إلا وجه العدو ، اللهم إنه ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك عني السلام فبلغه عني أنت ". فبلغ جبريل سلامه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه .
فأخذوا يمزقون جلده أشلاء برماحهم وهو يترنم بأبياته المشهورة التي منها :
لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا ـ ـ ـ ـ ـ قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي ـ ـ ـ ـ ـ وما أرسل الأحزاب عند مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ـ ـ ـ ـ ـ يبارك على أوصال شلو ممزع
ولست أبالي حين أقتل مسلما ـ ـ ـ ـ ـ على أي جنب كان في الله مصرعي
وفي وسط هذه المحن والمشاكل المحزنة أظهر الله دينه وقويت شوكته وأعز الله أتباعه حتى قامت له دولة في طيبة فطابت لأتباعه وطاب مقامهم بها فجعل الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يستقبل الوفود تلو الوفود وهم يدخلون في الإسلام ويسألون عن تعاليمه وفي الوقت نفسه يرسل جيشه إلى الأطراف ليدعو إلى الله بالتي هي أحسن أولا وللمعاند السيف هكذا أظهر الله الإسلام وأعز أهله ولو كره الكافرون : (( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين )) [ المنافقون : 8 ] . (( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )) [ الصف : 8 ـ 9 ] .
ثم سلم الرسول الزمام لرجال أمناء تسلموا الدعوة وساروا بها سيرتها الأولى لم يغيروا ولم يبدلوا فأخذوا يفتحون القلوب قبل أن يفتحوا البلاد فأقبل الناس على الإسلام محبة وتقديرا لحملته لما رأوا فيهم الرحمة والإنصاف والعدل وعدم التناقض وهي الصفات التي جعلت الناس يدخلون في دين الله أفواجا .
هكذا مثل الإسلام أصحاب رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأتباعهم وحببته إلى الناس ثم انتهت تلك القرون التي هي بحق خير هذه الأمة :" خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " .
ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا الدعوة وشوهوا الإسلام وأدخلوا فيه ما ليس منه فاشتدت غربة الدين من جديد فوقع الدعاة في مشاكل ومحن غير متوقعة إذ واجهت الدعوة صنوفا من الضغط والإضطهاد من أولئك الذين يتظاهرون بالإسلام بل في زعمهم أنهم أتباع صاحب صاحب الرسالة والمحبين له .
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ـ ـ ـ ـ ـ على المرء من وقع الحسام المهند .
المصدر :
مشاكل الدعوة والدعاة في العصر الحديث
لفضيلة الشيخ محمد أمان الجامي رحمه الله [ ص : 14 ] .
خبيب بن عدي ابن عامر بن مجدعة بن جحجبا الأنصاري ، الشهيد
ذكره : ابن سعد ، فقال : شهد أحدا ، وكان فيمن بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع بني لحيان ، فلما صاروا بالرجيع غدروا بهم ، واستصرخوا عليهم ، وقتلوا فيهم ، وأسروا خبيبا ، وزيد بن الدثنة ، فباعوهما بمكة ، فقتلوهما بمن قتل النبي صلى الله عليه وسلم من قومهم ، وصلبوهما بالتنعيم .
قال مسلمة بن جندب : عن الحارث بن البرصاء ، قال : أتي بخبيب ، فبيع بمكة ، فخرجوا به إلى الحلّ ليقتلوه ، فقال : دعوني أصلي ركعتين . ثم قال : لولا أن تظنوا أن ذلك جزع لزدت ، اللهم أحصهم عددا . قال الحارث : وأنا حاضر ، فوالله ما كنت أظن أن سيبقى منا أحد .
ابن اسحاق : عن عاصم بن عمر ، قال لما كان من غدر عضل والقارة بخبيب وأصحابه بالرّجيع ، قدموا به ويزيد بن الدثنة .
فأما خبيب ، فابتاعه حجير بن أبي إهاب لعقبة بن الحارث بن عامر ، وكان أخا حجير لأمه ، ليقتله بأبيه . فلما خرجوا به ليقتلوه ، وقد نصبوا خشبته ليصلبوه ، فانتهى إلى التنعيم ، فقال : إن رأيتم أن تدعوني أركع ركعتين . فقالوا : دونك . فصلى ، ثم قال : والله لولا أن تظنوا طولت جزعا من القتل ، لاستكثرت من الصلاة . فكان أول من سنّ الصلاة عند القتل . ثم رفعوه على خشبته ، فقال : اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا ، اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك ، فبلغه الغداة ما أتى إلينا .
قال : وقال معاوية : كنت فيمن حضره ، فلقد رأيت أبا سفيان يلقيني إلى الأرض فرقا من دعوة خبيب . وكانوا يقولون : إن الرجل إذا دعي عليه ، فاضطجع زلّت عنه الدعوة .
قال ابن اسحاق : فحدثني يحي بن عباد عن أبيه عن عقبة بن الحارث ، قال والله ما أنا قتلته ، لأنا كنت أصغر من ذلك ، ولكن أخذ بيدي أبو ميسرة العبدري ، فوضع الحربة على يدي ، ثم وضع يده على يدي ، فأخذها بها ، ثم قتله .
عبد الله بن إدريس : حدثني عمرو بن عثمان بن موهب ، مولى الحارث بن عامر ، قال : قال موهب : قال لي خبيب ـ وكانوا جعلوه عندي ـ : أطلب إليك ثلاثا : أن تسقيني العذب ، وأن تجنبني ما ذبح على النصب ، وأن تؤذني إذا أرادوا قتلي .
ابن اسحاق : حدثنا ابن أبي نجيح عن ماوية مولاة حجير ، وكان خبيب حبس في بيتها ، فكانت تحدث بعد ما أسلمت ، قالت : والله إنه لمحبوس إذ اطلعت من صير الباب إليه ، وفي يده قطف عنب مثل رأس الرجل يأكل منه ، وما أعلم في الأرض حبة عنب ، ثم طلب مني موسى يستحدّها .
المصدر : سير أعلام النبلاء
للإمام الذهبي رحمه الله [ ج 2 ـ ص 352 ] .