وصية الشيخ الإمام العالم الحافظ البارع أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المقرئ رحمه الله تعالى لمحمد بن أبي الفضل رافع بن أبي محمد بن محمد السَّلاَّمِيّ :
يا وُلَيد رافع ! اسمع أقل لك : أراك – والله – مثلي مزجى البضاعة ، قليلَ العلمِ بالصناعة ، فلا أقلَّ من الإقبال على الطاعة ، ولزومِ خمسك في جماعة .
وهل شيءٌ أقبح من شاب يخدُمُ السنة ولا يعمل بها ؟ نعم ؛ آخر يبالغ في الطلب، ويكتب عمّن درج ودب ،ثم لا يصلي فلا بارك الله في هذا النمط فإن هؤلاء ما غَوايتُهم بالحديث إلاّ كغواية المصارعِ والسّاعي ولا عب الحَمام ، بل أولاء أعذرُ بالجهل .
وهذا المُعَثَّرُ يسمع الألوف من الحديث فيها الوعيد والتهديد والعذاب الشديد ، ولا ينزجر ، بل ما أظنه يسمع شيئا ، ولا يفهم حديثا ؛ لأنه إن كان قارئا بنفسه فبجَهْدِه أن يتَهَجَّى الأسماء والمتون ، ويُبَدِلَ ما يشير إليه ، وعينُه إلى تنبيه الشيخِ تارة ، وإلى أَمْرَدَ حاضرٍ تارة ، وإلى إقامة الإعراب تارة ؛ لئلاّ يُخزى بين الحاضرين ، وإن كان غيره القارئُ استراح ، فأنا كفيلٌ لك بأنه ما يسمع غير : “ثنا قال : ثنا” ، وصلّى الله عليه وسلم ؛ لكثرة دَوْرِ ذلك .
فتراه إمّا يكتب الأسماء حال السَّماع ، ؛ فَيَبْطَلُ ويُبطِل ، أو ينسخ في جزء ، أو يكتب طِباقاً، أو يطالع في شيء ، وهذا أجودُ أحواله – ولا جودة فيها – أو بمكانٍ – وهذا الأغلبُ – يحدث جليسه ، ويمزح مع الصبيان الملاح ، فمتى يسمع هذا أو يعقل أو يبصر أو يُغني عنه الحديث شيئاً ؟
وأما قول وكيع : ((إنّ هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ؟)) ؛ فهذا قاله في الصلاة المقارنة للذكر وهي النوافل ؛ أي : يُقللُ تشاغلكم بالنوافل ؛ فانتهوا عن ذلك .
أما أن يصدهم عن الفرائض الخمس ؛ فحاشا لله هذا ما كان في سِيَرِهم قط ؛ إلاّ أيام الجهاد وقبلها بمدة .
وهل يترك الصلاة مُحدِّث إلاّ وهو من الرُّذالة الزبالة ، آوٍ إلى التعثر والضلالة ؟
فإن كمّل نفسه بتلوُّطٍ أو قيادة ؛ فقد تمت له الإفادة ، وإن استعمل من العلوم قسطا ، فقد ازداد مَهانة وخَبْطا ، وبذل دينه لشيطانه ، وأدبر عن الخير ؛ فهل في مثل هذا الضرب خير ؟
لا كثَّر الله مثلهم ، فما حظُّ الواحد [من هؤلاء ] إلاّ أن يسمع ليروي فقط .
فَلَيُعَاقَبَنَّ بنقيضِ قصده ، وليُشَهِّرنَّهُ الله تعالى بعد أن ستره مرّارت ، ولَيَبْقَيَنَّ مُضغةً في الألسن ، وعبرةً بين المحدثين ، ثم لَيَطْعَنَّ الله على قلبه ، وربما سلب التوحيد ، وطمِع فيه الشيطان ؛ فدخل في باطنه الخَرابُ ، وشكَّكَه في الإسلام والنبوات إلى أن يخسر الدنيا والآخرة ؛ نسأل الله العفو والستر .
فبالله يا أخي ثم بالله ، اتَّق الله في نفسك المسكينة ، ولا تكن ممن أدخله طلبُ الحديث النار ؛ فما ارتفع رافعٌ إلاّ بالتقوى ، وملازمة الآداب النبوية .
فإن قبلت نصحي ؛ فما أولاك بالخير والتوقير ، وإن أعرضت كإعراضك عن وصية الإله العظيم ، فتباً لك سائرَالدهر ؛ فإن الله يقول – وهو أصدق من قال ، وأرحم من أمر ، وأعلم من أوحى ، وأكرم من هدى ، وهو أشفق علينا من أنفسنا – { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} .
فبالله ؛ قُل لي : هل يكون طالبٌ من خُدام السنة يتهاون بالصلوات ، أو يتعانى تلك القاذورات ؟ لا والله ، ولا هو ممن اتقى الله .
وأنحسُ من ذلك كله محدِّث يكذب في حديثه ، ويختلق الفُشارات ، فإن ترقت همته المقيتةُ إلى الكذب في النقل ، والتزويرِ في الطباقِ ، فقد استراح وطَرَّسَ الطلبة على اسمه ورسمه : صورة ومعنى .
وإن تعانى سرقةَ الأجزاء ، أو كشطَ الأوقاف ، فهذا لص بسَمْتِ مُحدثٍ ، وإن جعل الطلبَ له مأكلة ودكانا ؛ فالأعمال بالنيات ، ولا قوة إلا بالله .
فاقرأ كتابك كفى بنفسك عليك حسيبا ، وأعوذ بالله أن أكون قد ضيعتُ الزّمان في نعت بطَلَةِ الطلبة ، أبلاهم الله بالغلبة .
فافتح عينك ، وأحضرْ ذهنك ، وأرعني سمعك ، فإن انتفعت وعَقَدْتَ مع الله عقدا ؛ فقد توسمت فيك الخير ، وإن شردت وركبتَ الإعراض والكسل مثلي ، فواحسرتا عليَّ وعليك .
فثمة طريقٌ قد بقي لا أكتمه عنك ، وهو كثرةُ الدعاء ، والاستعانة بالله العظيم في آناء الليل والنهار ، وكثرةُ الإلحاح على مولاك بكلِّ دعاء مأثور تستحضره أو غير مأثور ، وعقيب الخمس ، في أن يصلحك ويوفقك .
والزم – ولا بُدِّ – آية الكرسي في دبر الصلوات المفروضة ، وأكثر الاستغفار والأذكار ، والزم الصدق المفرط عن كل بد في كل شيء ، ولا تستكبر ، ولا تكن ممن يستكبر بما علم ، فإنك جاهل خَبل .
فداوم – بالله – [على ] التواضع الزائد ، والمسكنة للمسلمين إلاّ الفاسقين منهم ، وأحب لله ، وأبغض في الله ، وثق بالله ، وتوكل على الله ، وأنزل ضرورتك بالله ، ولا تستغن إلاّ بالله ، وأكثر من : “لا حول ولا قوة إلاّ بالله”، ومن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا.