بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله
قال الشيخ ابن العثيمين رحمه الله في شرح بلوغ المرام (الجزء الرابع) / الغش في البيع :
[...ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: « من غش فليس مني »2 وهذه العبارة على ظاهرها، من غش فليس منه -عليه الصلاة والسلام- وفي اللفظ الآخر: « من غشنا فليس منا »3 .
وهذا اللفظ المضمر ليس منا على ظاهره، يقال كما قال -عليه الصلاة والسلام- خلاف المرجئة الذين يقولون: ليس منا يعني: ليس من خيارنا، أو الخوارج الذين يقولون ليس منا يعني: أنه كافر، هذان قولان متقابلان باطلان، وأهل السنة وسط في باب الأسماء والأحكام، في باب الأسماء، أسماء الدين وأحكام الدين، هم وسط فيها، فإذا قيل: ليس منا فالمراد على حقيقته ليس منا، ولا يلزم منه أن يكون كافرا لكن النقص هنا نقص واجب؛ لأن نقص الواجب نوعان: نقص يفسد العبادة ويبطلها، ونقص لا يفسدها ولا يبطلها وإن كان واجبا؛ مثل نقص الوضوء بنقضه وإبطاله، ومثل نقص الصلاة بسقوط أركانها كالطهر، ومثل نقص الحج في بعض أركانه فيبطل، فنقص الأركان في الحج وفي الصلاة وفي الوضوء يبطلها، وهنالك نوع من النقص ليس بواجب، مثل نقص بعض واجبات الصلاة إذا تركها سهوا، فهذا نقص واجب لا يبطل الصلاة.
هكذا في نقص الواجبات في باب أسماء الدين والأحكام، كما أن ما نقص عن الواجب في أبواب العبادات نقص يبطل ونقص لا يبطل، كذلك النقص في باب الأسماء والدين والأحكام نقص يبطل الدين وبه يكون كافرا مما يكون به العبد مرتدا، ونقص لا يبطله بل يكون النقص نقص واجب، وهذا مثل ما يأتي في كثير من الأخبار أن ينفى مسمى الاسم عن شيء من أشياء مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربه وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن »7 إلى غير ذلك من الأخبار التي جاءت في هذا الباب.
فلهذا النقص فيها نقص واجب، وبهذا تزول الشبهة، ويتبين الفرقان في مثل هذه الأسماء، ويعلم أنه يقال: إنه نقص إيمانه الواجب، وليس من أهل الإيمان الذين إيمانهم واجب، لكن ليس خارجا عنهم خروجا كليا، إنما خرج عن مسمى كمال الواجب وهو معهم من حيث الجملة لأن الكمال نوعان: كمال واجب وكمال مستحب، فإذا جاء نفي الإيمان في بعض الأخبار عن أهل الإيمان، فالمراد نفي الكمال الواجب لا نفي الكمال المستحب، فالمراد نفي كمال المقتصدين لا نفي كمال الأبرار المتقين؛ لأن كمال الأبرار كمال مستحب، وكمال المقتصدين كمال الواجب، فمن لم يأت بالإيمان فنقص دينه وإيمانه عن دين المقتصدين، لكن لا زال معه مسمى الإيمان وأصل الإيمان.
وهذا بمعنى أنه لا يستحق الثواب الذي يكون لأهل الإيمان الواجب يقال: ولهذا يقال قد يعني في ما يقع بين الناس إذا استأجر إنسان أجراء أو عمال على عمل من الأعمال، فعمل بعضهم طول النهار، وعمل بعضهم بعض النهار، هم استووا في أصل العمل، فإذا جاءوا لأخذوا أجرتهم صح أن يقول: من عمل جميع النهار، هذا ليس منا، بمعنى أنه لم يعمل كمال العمل، وإن كان هو منهم في أصل العمل، فيستحق من الأجرة بقدر ما عمل، ولا يلزم أن يكون عمله باطلا، وأن لا يكون له شيء من الأجرة، بل ليس له الكمال الواجب الذي شرط لهم بل له بقدر ذلك مما عمل .
هكذا أيضا عمال الآخرة من عمل لها فأتى بالكمال الواجب استحق الوصف الذي به الكمال لأهل الوجوب الإيماني، ومن لم يأت بالواجب فإنه ينقص عنهم بقدر ذلك، وبهذا يكون أهل الإسلام وأهل أهل السنة والجماعة وسط في باب الأسماء والأحكام بين الخوارج الذين يجعلون نفي هذه الأسماء مبطلا للدين، وبين المرجئة الذين يقولون إنه كامل الدين وكامل الإيمان، لكن بمعنى أنه ليس في كذا ليس في كذا إذا جاء في الأخبار بمعنى أنه ليس من خيارنا، وهما قولان متقابلان متضادان، وأهل السنة وسط بين طرفين وحق بين ضلالتين، والحمد لله ...] انتهى النقل من موقع جامع شيخ الاسلام بن تيمية
_________________________________
2 : مسلم : الإيمان (102) , والترمذي : البيوع (1315) , وابن ماجه : التجارات (2224) , وأحمد (2/242).
3 : ابن ماجه : التجارات (2225).
4 : ابن ماجه : التجارات (2246).
5 : ابن ماجه : التجارات (2246).
6 : البخاري : البيوع (2110) , ومسلم : البيوع (1532) , والترمذي : البيوع (1246) , والنسائي : البيوع (4464) , وأبو داود : البيوع (3459) , وأحمد (3/402) , والدارمي : البيوع (2547).
7 : البخاري : المظالم والغصب (2475) , ومسلم : الإيمان (57) , والترمذي : الإيمان (2625) , والنسائي : الأشربة (5659) , وأبو داود : السنة (4689) , وابن ماجه : الفتن (3936) , وأحمد (2/386) , والدارمي : الأشربة (2106).