بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله،والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه،أما بعد:
فقد صار القول بالمجاز وسيلةً لكل من أراد نفي شئ مما ورد في الكتاب أوالسنة كما فعلت الملاحدة والجهمية والمعتزلة والكلابية والأشاعرة وغيرهم،وبخاصة في الأسماء والصفات الإلهية،لا سيما أن من علامات المجاز-عندهم-صحة نفيه؛ولأجل هذا اهتم شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-بتحقيق القول في المجاز في مواضع من كتبه،وتبعه على ذلك تلميذه ابن قيم الجوزية-رحمه الله-؛حيث أفرد المجاز بالبحث في كتابه البديع"الصواعق المرسلة"،وجعله طاغوتاً لهج إليه المتأخرون،والتجأ إليه المعطلون،وجعلوه جنة يتترسون بها من سهام الراشقين،ويصدون به عن حقائق الوحي المبين[1].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:"ومن المعلوم باتفاق المسلمين أن الله حي حقيقة، عليم حقيقة،قدير حقيقة،سميع حقيقة،بصير حقيقة إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته.
وإنما ينكر ذلك الفلاسفة الباطنية؛فيقولون:"نطلق عليه هذه الأسماء،ولا نقول إنها حقيقة"؛ وغرضهم بذلك جواز نفيها؛فإنهم يقولون:"لا حي حقيقة،ولا ميت حقيقة،ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا سميع ولا أصم"،فإذا قالوا:"إن هذه الأسماء مجاز"أمكنهم نفي ذلك؛لأن علامة المجاز صحة نفيه؛فكل من أنكر أن يكون اللفظ حقيقة لزمه جواز إطلاق نفيه؛فمن أنكر أن يكون استوى على العرش حقيقة فإنه يقول:"ليس الرحمن على العرش استوى"كما أن من قال:"إن لفظ الأسد للرجل الشجاع،والحمار للبليد ليس بحقيقة"؛فانه يلزمه صحة نفيه؛فيقول:"هذا ليس بإسد ولا بحمار،ولكنه آدمي".
وهؤلاء يقولون لهم:"لا يستوي الله على العرش"كقول إخوانهم:"ليس هو بسميع ولا بصير ولا متكلم"؛لأن هذه الألفاظ عندهم مجاز؛فيأتون إلى محض ما أخبرت به الرسل عن الله-سبحانه-يقابلونه بالنفي والرد كما يقابله المشركون بالتكذيب،لكن هؤلاء لا ينفون اللفظ مطلقاً"ا.هـ[2].
ولهذا كان المجاز غالباً من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين[3].
قال الدكتور وليد قصاب:"إنه ينبغي أن يلاحظ أن اتساع المعتزلة في فهم المجاز هذا الاتساع الكبير إنما كان الدافع إليه خدمة أغراضهم الاعنزالية،والدفاع عن آرائهم ومعتقداتهم،وحتى يستقيم لهم توجيه الآيات والنصوص التي تخالف هذه العقائد،فكانوا يحاولون في ضوء التوسع في استعماله أن يفهموا النص القرآني فهماً يبعده عن تصورات المشبهة والجبرية وأهل السنة أحياناً.
ونحن لا نكاد نحس بتطرفهم الشديد في استعمال هذا اللون البلاغي إلا حينما تكون الآية التي يعالجون بحثها من تلك الآيات المتشابهات التي تتعلق بالاعتزال وأصوله،وأما في ما عدا ذلك فإننا لا نكاد نجد لهم خرقاً للمألوف أو خروجاً على المعتاد،ولا نجد عندئذ أحداً من أهل السنة أو غيرهم قد شدد عليهم النكير في ما أتوا به من تأويل أو تفسير"ا.هـ[4].
وقال الدكتور أحمد أبو زيد:"والمجاز والتوسع اللغوي ركيزة من ركائز الاعتزال الهامة؛فهو عمدتهم في تثبيت مذهبهم والدفاع عنه،وهو تكأتهم في التوفيق بين آرائهم وأصولهم وبين نصوص القرآن والحديث.
كان حرصهم على تثبيت عقيدتهم في التوحيد والتنزيه الإلهي من جملة الدوافع التي دفعتهم إلى توسيع البحث في المجاز اللغوي وتعميقه"ا.هـ[5].
وسأذكر هنا أحد عشر وجهاً على إبطال دعوى المجاز في الصفات الإلهية مستعيناً بالله-تعالى-.
وأنبه في هذا المقام على أن إبطال المجاز في هذا الباب ليس متوقفاً على إبطال وجود المجاز في اللغة أو في القرآن،وذلك أن نصوص الصفات قطعية الدلالة على معانيها اللائقة بالله-تعالى-،ولم تتوافر فيها شرائط المجاز وعلاماته عند القائلين به.
________________
[1]انظر:"مختصر الصواعق"2/2وما بعدها.
[2]"مجموع الفتاوى"3/218-219.
[3] انظر:"مجموع الفتاوى"7/88، 20/404.
[4] "التراث النقدي والبلاغي للمعتزلة حتى نهاية القرن السادس عشر"ص347.
[5]"المنحى الاعتزالي في البيان وإعجاز القرآن"ص167،وانظر ص172.