هل قنوت الصبح من السنة؟ ::: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
مسألة : هل قنوت الصبح دائما سنة ؟ ومن يقول إنه من أبعاض الصلاة التي تجبر بالسجود وما يجبر إلا الناقص والحديث [ ما زال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقنت حتى فارق الدنيا ] فهل هذا الحديث من الأحاديث الصحاح ؟ وهل هو هذا القنوت ؟ وما أقوال العلماء في ذلك ؟ وما حجة كل منهم ؟ وإن قنت لنازلة : فهل يتعين قوله أو يدعو بما شاء ؟
الجواب : الحمد لله رب العالمين قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنه قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية ] ثم تركه وكان ذلك لما قتلوا القراء من الصحابة.
وثبت عنه أنه قنت بعد ذلك بمدة بعد صلح الحديبية وفتح خيبر يدعو للمستضعفين من أصحابه الذين كانوا بمكة ويقول في قنوته : اللهم أنج الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف وكان يقنت يدعو للمؤمنين ويلعن الكفار وكان قنوته في الفجر.
وثبت عنه في الصحيح أنه قنت في المغرب والعشاء وفي الظهر وفي السنن أنه قنت في العصر أيضا فتنازع المسلمون في القنوت على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه منسوخ فلا يشرع بحال بناء على أن النبي صلى الله عليه و سلم قنت ثم ترك والترك نسخ للفعل كما أنه لما كان يقوم للجنازة ثم قعد جعل القعود ناسخا للقيام وهذا قول طائفة من أهل العراق كأبي حنيفة وغيره
والثاني :أن القنوت مشروع دائما وأن المداومة عليه سنة وإن ذلك يكون في الفجر
ثم من هؤلاء من يقول : السنة أن يكون قبل الركوع بعد القراءة سرا وأن لا يقنت بسوى : اللهم إنا نستعينك إلى آخرها و اللهم إياك نعبد - إلى آخرها - كما يقوله : مالك
ومنهم من يقول : السنة أن يكون بعد الركوع جهرا ويستحب أن يقنت بدعاء الحسن بن علي الذي رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قنوته : [ اللهم اهدني فيمن هديت ] إلى آخره وإن كانوا قد يجوزون القنوت قبل وبعد وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى :
{ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين } ويقولون : الوسطى : هي الفجر والقنوت فيها وكلتا المقدمتين ضعيفة :
أما الأولى : فقد ثبت بالنصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الصلاة الوسطى هي العصر وهذا أمر لا يشك فيه من عرف الأحاديث المأثورة ولهذا اتفق على ذلك علماء الحديث وغيرهم وإن كان للصحابة والعلماء في ذلك مقالات متعددة فإنهم تكلموا بحسب اجتهادهم
وأما الثانية : فالقنوت هو المداومة على الطاعة وهذا يكون في القيام والسجود كما قال تعالى : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة } ولو أريد به إدامة القيام كما قيل : في قوله : { يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي } فحمل ذلك على إطالته القيام للدعاء دون غيره لا يجوز لأن الله أمر بالقيام له قانتين والأمر يقتضي الوجوب وقيام الدعاء المتنازع فيه لا يجب بالاجماع ولأن القائم في حال قراءته هو قانت لله أيضا ولأنه قد ثبت في الصحيح : [ أن هذه الآية لما نزلت أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام ] فعلم أن السكوت هو من تمام القنوت المأمور به.
ومعلوم أن ذلك واجب في جميع أجزاء القيام ولأن قوله : { وقوموا لله قانتين } لا يختص بالصلاة الوسطى سواء كانت الفجر أو العصر بل هو معطوف على قوله : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } فيكون أمرا بالقنوت مع الأمر بالمحافظة والمحافظة تتناول الجميع فالقيام يتناول الجميع
واحتجوا أيضا : بما رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في صحيحه عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم ما زال يقنت حتى فارق الدنيا ] قالوا : وقوله في الحديث الآخر : ثم تركه أراد ترك الدعاء على تلك القبائل لم يترك نفس القنوت
وهذا بمجرده لا يثبت به سنة راتبة في الصلاة وتصحيح الحاكم دون تحسين الترمذي وكثيرا ما يصحح الموضوعات فإنه معروف بالتسامح في ذلك ونفس هذا الحديث لا يخص القنوت قبل الركوع أو بعده فقال : [ ما قنت رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد الركوع إلا شهرا ] فهذا حديث صحيح صريح عن أنس أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهرا فبطل ذلك التأويل
والقنوت قبل الركوع قد يراد به طول القيام قبل الركوع سواء كان هناك دعاء زائد أو لم يكن فحينئذ فلا يكون اللفظ دالا على قنوت الدعاء وقد ذهب طائفة إلى أنه يستحب القنوت الدائم في الصلوات الخمس محتجين بأن النبي صلى الله عليه و سلم قنت فيها ولم يفرق بين الراتب والعارض وهذا قول شاذ
والقول الثالث: أن النبي صلى الله عليه و سلم لسبب نزل به ثم تركه عند عدم ذلك السبب النازل به فيكون القنوت مسنونا عند النوازل وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
فإن عمر رضي الله عنه : لما حارب النصارى قنت عليهم القنوت المشهور : اللهم عذب كفرة أهل الكتاب إلى آخره وهو الذي جعله بعض الناس سنة في قنوت رمضان وليس هذا القنوت سنة راتبة لا في رمضان ولا غيره بل عمر قنت لما نزل بالمسلمين من النازلة ودعا في قنوته دعاء يناسب تلك النازلة كما أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قنت أولا على قبائل بني سليم الذين قتلوا القراء دعا عليهم بالذي يناسب مقصوده ثم لما قنت يدعو للمستضعفين من أصحابه دعا بدعاء يناسب مقصوده فسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وخلفائه الراشدين تدل على شيئين :
أحدهما : أن دعاء القنوت مشروع عند السبب الذي يقتضيه ليس بسنة دائمة في الصلاة
الثاني : إن الدعاء فيه ليس دعاء راتبا بل يدعو في كل قنوت بالذي يناسبه كما دعا النبي صلى الله عليه و سلم أولا وثانيا وكما دعا عمر وعلي - رضي الله عنهم - لما حارب من حاربه في الفتنة فقنت ودعا بدعاء يناسب مقصوده والذي يبين هذا أنه لو كان النبي صلى الله عليه و سلم يقنت دائما ويدعو بدعاء راتب لكان المسلمون ينقلون هذا عن نبيهم فإن هذا من الأمور التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها وهم الذين نقلوا عنه في قنوته ما لم يداوم عليه وليس بسنة راتبة كدعائه على الذين قتلوا أصحابه ودعائه للمستضعفين من أصحابه ونقلوا قنوت عمر وعلي على من كانوا يحاربونهم
فكيف يكون النبي صلى الله عليه و سلم يقنت دائما في الفجر أو غيرها ويدعو بدعاء راتب ولم ينقل هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم لا في خبر صحيح ولا ضعيف ؟ ! بل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الذين هم أعلم الناس بسنته وأرغب الناس في اتباعها كابن عمر وغيره أنكروا حتى قال ابن عمر : ما رأينا ولا سمعنا وفي رواية أرأيتكم قيامكم هذا : تدعون ما رأينا ولا سمعنا أفيقول مسلم : إن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقنت دائما ؟ ! وابن عمر يقول : ما رأينا ولا سمعنا وكذلك غير ابن عمر من الصحابة عدوا ذلك من الأحداث المبتدعة
ومن تدبر هذه الأحاديث في هذا الباب علم علما يقينا قطعيا أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يقنت دائما في شيء من الصلوات كما يعلم علما [ يقينيا ] أنه لم يكن يداوم على القنوت في الظهر والعشاء والمغرب فإن من جعل القنوت في هذه الصلوات سنة راتبة يحتج بما هو من جنس حجة الجاعلين له في الفجر سنة راتبة ولا ريب أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قنت في هذه الصلوات لكن الصحابة بينوا الدعاء الذي كان يدعو به والسبب الذي قنت له وأنه ترك ذلك عند حصول المقصود نقلوا ذلك في قنوت الفجر وفي قنوت العشاء أيضا.
والذي يوضح ذلك أن الذين جعلوا من سنة الصلاة أن يقنت دائما بقنوت الحسن بن علي أو بسورتي أبي ليس معهم إلا دعاء عارض والقنوت فيها إذا كان مشروعا : كان مشروعا للإمام والمأموم والمنفرد بل وأوضح من هذا أنه لو جعل جاعل قنوت الحسن أو سورتي أبي سنة راتبة في المغرب والعشاء لكان حاله شبيها بحال من جعل ذلك سنة راتبة في الفجر إذ هؤلاء ليس معهم في الفجر إلا قنوت عارض بدعاء يناسب ذلك العارض ولم ينقل مسلم دعاء في قنوت غير هذا كما لم ينقل ذلك في المغرب والعشاء وإنما وقعت الشبهة لبعض العلماء في الفجر لأن القنوت فيها كان أكثر وهي أطول والقنوت يتبع الصلاة وبلغهم أنه داوم عليه فظنوا أن السنة المداومة عليه ثم لم يجدوا معهم سنة بدعائه فسنوا هذه الأدعية المأثورة في الوتر مع أنهم لا يرون ذلك سنة راتبة في الوتر
وهذا النزاع الذي وقع في القنوت له نظائر كثيرة في الشريعة فكثيرا ما يفعل النبي صلى الله عليه و سلم لسبب فيجعله بعض الناس سنة ولا يميز بين السنة الدائمة والعارضة
وبعض الناس يرى أنه لم يكن يفعله في أغلب الأوقات فيراه بدعة ويجعل فعله في بعض الأوقات مخصوصا أو منسوخا إن كان قد بلغه ذلك مثل صلاة التطوع في جماعة فإنه قد ثبت عنه في الصحيح : أنه صلى بالليل وخلفه ابن عباس مرة
وحذيفة بن اليمان مرة وكذلك غيرهما وكذلك صلى بعتبان بن مالك في بيته التطوع جماعة : وصلى بأنس بن مالك وأمه واليتيم في داره فمن الناس من يجعل هذا فيما يحدث من صلاة الألفية ليلة نصف شعبان والرغائب ونحوهما مما يداومون فيه على الجماعات
ومن الناس من يكره التطوع لأنه رأى أن الجماعة إنما سنت في الخمس كما أن الأذان إنما سن في الخمس ومعلوم أن الصواب هو ما جاءت به السنة فلا يكره أن يتطوع في جماعة كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم ولا يجعل ذلك سنة راتبة كمن يقيم للمسجد إماما راتبا يصلي بالناس بين العشائين أو في جوف الليل كما يصلي بهم الصلوات الخمس كما ليس له أن يجعل للعيدين وغيرهما أذانا كأذان الخمس ولهذا أنكر الصحابة على من فعل هذا من ولاة الأمور إذ ذاك.
ويشبه ذلك من بعض الوجوه تنازع العلماء في مقدار القيام في رمضان فإنه قد ثبت أن أبي بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان ويوتر بثلاث فرأى كثير من العلماء أن ذلك هو السنة لأنه أقامه بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منكر واستحب آخرون : تسعة وثلاثين ركعة بنا على أنه عمل أهل المدينة القديم وقال طائفة : قد ثبت في الصحيح عن عائشة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة ] واضطرب قوم في هذا الأصل لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين
والصواب أن ذلك جميعه حسن كما قد نص على ذلك الإمام أحمد - رضي الله عنه - وأنه لا يتوقت في قيام رمضان عدد فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يوقت فيها عددا وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره
فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يطيل القيام بالليل حتى إنه قد ثبت عنه في الصحيح من حديث حذيفة : [ أنه كان يقرأ في الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران فكان طول القيام يغني عن تكثير الركعات ] وأبي بن كعب لما قام بهم وهم جماعة واحدة - لم يمكن أن يطيل لهم القيام فكثر الركعات ليكون ذلك عوضا عن طول القيام وجعلوا ذلك ضعف عدد ركعاته فإنه كان يقوم بالليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ثم بعد ذلك كان الناس بالمدينة ضعفوا عن طول القيام فكثروا الركعات حتى بلغت تسعا وثلاثين
ومما يناسب هذا أن الله تعالى لما فرض الصلوات الخمس بمكة : فرضها ركعتين ركعتين ثم أقرت في السفر وزيد في صلاة الحضر كما ثبت ذلك في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها ! أنها قالت : لما هاجر إلى المدينة زيد في صلاة الحضر جعلت صلاة المغرب ثلاثا لأنها وتر النهار وأما صلاة الفجر فأقرت ركعتين لأجل تطويل القراءة فيها فأغنى ذلك عن تكثير الركعات
وقد تنازع العلماء : أيما أفضل : إطالة القيام ؟ أم تكثير الركوع والسجود ؟ أم هما سواء ؟ على ثلاثة أقوال : وهي ثلاث روايات عن أحمد.
وقد ثبت عنه في الصحيح [ أي الصلاة أفضل ؟ قال : طول القنوت ] وثبت عنه أنه قال : [ إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة ] وقال لربيعة بن كعب أعني على نفسك بكثرة السجود
ومعلوم أن السجود في نفسه أفضل من القيام ولكن ذكر القيام أفضل وهو القراءة وتحقيق الأمر أن الأفضل في الصلاة أن تكون معتدلة فإذا أطال القيام يطيل الركوع والسجود كما كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي بالليل كما رواه حذيفة وغيره وهكذا
كانت صلاته الفريضة وصلاة الكسوف وغيرهما : كانت صلاته معتدلة فإن فضل مفضل إطالة القيام والركوع والسجود مع تقليل الركعات وتخفيف القيام والركوع والسجود مع تكثير الركعات : فهذان متقاربان وقد يكون هذا أفضل في حال كما أنه لما صلى الضحى يوم الفتح صلى ثماني ركعات يخففهن ولم يقتصر على ركعتين طويلتين وكما فعل الصحابة في قيام رمضان لما شق على المأمومين إطالة القيام
وقد تبين بما ذكرناه أن القنوت يكون عند النوازل وأن الدعاء في القنوت ليس شيئا معينا ولا يدعو بما خطر له بل يدعو من الدعاء المشروع بما يناسب سبب القنوت كما أنه إذا دعا في الاستسقاء دعا بما يناسب المقصود فكذلك إذا دعا في الاستنصار دعا بما يناسب المقصود كما لو دعا خارج الصلاة لذلك السبب فإنه كان يدعو بما يناسب المقصود فهذا هو الذي جاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وسنة خلفائه الراشدين
ومن قال : إنه من أبعاض الصلاة التي يجبر بسجود السهو فإنه بنى ذلك على أنه سنة يسن المداومة عليه بمنزلة التشهد الأول ونحوه وقد تبين أن الأمر ليس كذلك فليس بسنة راتبة ولا يسجد له لكن من اعتقد ذلك متأولا في ذلك له تأويله كسائر موارد الاجتهاد.
ولهذا ينبغي للمأموم أن يتبع إمامه فيما يسوغ فيه الاجتهاد فإذا قنت قنت معه وإن ترك القنوت لم يقنت فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما جعل الإمام ليؤتم به ] وقال : [ لا تختلفوا على أئمتكم ] وثبت عنه في الصحيح أنه قال : [ يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم ] ألا ترى أن الإمام لو قرأ في الأخيرتين بسورة مع الفاتحة وطولهما على الأوليين : لوجبت متابعته في ذلك فأما مسابقة الإمام فإنها لا تجوز
فإذا قنت لم يكن للمأموم أن يسابقه : فلا بد من متابعته ولهذا كان عبد الله بن مسعود قد أنكر على عثمان التربيع بمنى ثم إنه صلى خلفه أربعا فقيل له : في ذلك ؟ ! فقال : الخلاف شر وكذلك أنس بن مالك لما سأله رجل عن وقت الرمي فأخبره ثم قال : إفعل كما يفعل إمامك والله أعلم.
____________________________
208 - / 124 - الفتاوى الكبرى لابن تيمية رحمه الله