وأما الثاني فهو عبد الله الصوفي فأيضا ذكره كل من المستشرق ماسينيون والباحث الإيراني الشيعي الدكتور قاسم غني ، والشيعي العراقي دكتور مصطفى الشبيبي وغيرهم ، شاهدين بأنه كان شيعيا مغاليا .
فيقول ما سينيون:
(أما صيغة الجمع (الصوفية) التي ظهرت عام 199هـ (814 م) في خبر فتنة قامت بالإسكندرية فكانت تدل – قرابة ذلك العهد فيما يراه المحاسبي والجاحظ – على مذهب من مذاهب التصوف الإسلامي يكون شيعيا نشأ في الكوفة ، وكان عبدك الصوفي آخر أئمته ، وهو من القائلين بأن الإمامة بالتعيين ، وكان لا يأكل اللحم ، وتوفي ببغداد حوالي عام 210هـ (825 م) .وإذن فكلمة (صوفي) كانت أول أمرها مقصورة على الكوفة .
وكتب الدكتور (قاسم غني) عنه:
(كان رجلا معتزلا الناس ، زاهدا ، وكان أول من لقب بلقب الصوفي – وأضاف الدكتور قاسم غني: وهذا اللفظ كان يطلق في تلك الأيام على بعض زهاد الشعية من الكوفيين ، وقد أطلقت هذه الكلمة أيضا في سنة 199هـ على بعض الناس مثل ثوار الإسكندرية ، ولأن عبدك كان لا يأكل اللحم ، عده بعض المعاصرين من الزنادقة . وكذلك يقول ماسينيون: لم يكن السالكون في القرون الأولى يعرفون باسم الصوفية ، وقد عرف الصوفي في القرن الثالث ، وأول من اشتهر في بغداد بهذا الاسم هو عبدك الصوفي الذي كان من كبار شيوخهم وأقطابهم ، وهو سابق على بشر بن الحارث الحافي المتوفى سنة مائتين وسبع وعشرين ، وأيضا قبل السري السقطي المتوفى في سنة مائتين وخمس وعشرين .وبناء على ذلك نالت كلمة الصوفي شهرة في بادئ الأمر في الكوفة ، ثم أصبحت أهميتها كبيرة بعد نصف قرن في بغداد ، وصار المقصود من كلمة الصوفية جماعة عرفاء العراق بازاء جماعة الملامتية الذين كانوا من عرفاء خراسان ، وتجاوز الإطلاق حده منذ القرن الرابع وما بعده . وأصبح المقصود من إطلاق كلمة الصوفية ، جميع عرفاء المسلمين . وارتداء الصوف أي الجبة البيضاء الصوفية الذي كان حوالي أواخر القرن الأول من عادة الخوارج والمسيحيين .
هذا ونقل الشبيبي عن السمعاني أنه قال إن اسم عبدك هو عبد الكريم ، وأن حفيده محمد بن علي بن عبدك الشيعي كان مقدم الشيعة .
ثم قال وهكذا يبدو عبدك جامعا لاتجاهات عديدة مختلفة نابعة من التشيع ، الممتزجة بالزهد المتأثر بظروف الكوفة التي انتقل منها كثير من سكانها إلى بغداد ، بعد أن صارت عاصمة للدولة الجديدة ، والمهم في شأن عبدك أنه أول كوفي يطلق عليه اسم صوفي بعد انتقاله إلى بغداد ... وقد رأينا أن لبس الصوف قد نبع من بيئة الكوفة التي عرفت بتمسكها بالتشيع ومعارضتها وحربها بالسيف أو بالقول أو بالقلب لمن نكل بالأئمة العلويين ، وذلك – إذا صح – يقطع بأن التصوف في أصوله الأولى كان متصلا بالتشيع .
هذا ولقد ذكره أيضا من المتقدمين الملطي بقوله إن عبدك كان رأس فرقة من الزنادقة الذين زعموا أن الدنيا كلها حرام محرم لا يحل الأخذ منها إلا القوت من حيث ذهب أئمة العدل ، ولا تحل الدنيا إلا بإمام عادل وإلا فهي حرام ، ومعاملة أهلها حرام ، فحل لك أن تأخذ القوت من الحرام من حيث كان
فهذا هو الرجل الثاني الذي لقب بلقب الصوفي بداية الأمر .
وأما الثالث فلقد ذكرناه فيما مر ، وهو كوفي أيضا ، ولكنه من العجائب فهو وإن لم يكن متهما بالتشيع متهم بالزندقة والدهرية كما ذكر الحاج معصوم علي:كان يلبس لباسا طويلا من الصوف كفعل الرهبان ، ويرى أنه كان يقول بالحلول والاتحاد مثل النصارى ، غير أن النصارى أضافوا الحلول والاتحاد إلى عيسى عليه السلام وأضافهما هو إلى نفسه ، وكان مترددا بين هاتين الدعوتين ، ولم يعلم على أيهما استقر في النهاية – ونقل عن كتاب (أصول الديانات) أنه -: كان أمويا وجبريا في الظاهر وباطنيا ودهريا في الباطن ، وكان مراده من وضع هذا المذهب أن يثير الاضطراب في الإسلام .ومن الغرائب أن شخصا آخر وهو ذو النون المصري الذي يقال عنه: (أنه أول من عرف التوحيد بالمعنى الصوفي .وهو: (رأس هذه الطائفة ، فالكل قد أخذ عنه وأنتسب إليه ، وقد كان المشايخ قبله ولكنه أول من فسر الإرشادات الصوفية وتكلم في هذا الطريق .وأنه: (هو أول من تكلم في بلده في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية .كما أثر عنه بأنه (أول من وضع تعريفات للوجد والسماع .
وعلى ذلك قال بحق ، الكاتب الإنجليزي المشهور عن الصوفية هو أحق رجال الصوفية على الإطلاق بأن يطلق عليه اسم واضع التصوف ، وقد اعترف له بالفضل في هذا الميدان كتّاب التراجم المؤرخون من المسلمين .
فهذا هو الشخص الآخر من واضعي التصوف ، وكان أيضا متهما بالزندقة والاشتغال بالسحر والطلسمات كما نقل الإمام الذهبي عن يوسف بن أحمد البغدادي أنه قال: (كان أهل ناحيته يسمونه بالزنديق .
ونقل أيضا عن السلمي أنه قال:
(ذو النون أول من تكلم ببلدته في ترتيب الأحوال ، ومقامات الأولياء ، فأنكر عليه عبد الله بن عبد الحكم ، وهجره علماء مصر . وشاع أنه أحدث علما لم يتكلم فيه السلف ، وهجروه حتى رموه بالزندقة . فقال أخوه: أنهم يقولون: إنك زنديق . فقال:ومالي سوى الإطراق والصمت حيلة ووضعي كفى تحت خدي وتذكاري .
وقال الإمام الذهبي وقل ما روى الحديث ولا كان يتقنه ، وقال الدارقطني: روى عن مالك أحاديث فيها نظر .والصوفي المشهور فريد الدين العطار يكتب في ترجمته أنه (كان من الملامتية لأنه أخفى تقواه بظهوره في الناس بالاستخفاف بأمور الشرع ، ولذلك عده المصريون زنديقا ، ولو أنهم اعترفوا له بالولاية بعد موته .
وقد ذكره ابن النديم من الملمين بعلم الكيمياء ، والعارفين به والكاتبين فيه .
ويذكره القفطي بقوله ذو النون بن إبراهيم الإخميمي المصري ، من طبقة جابر بن حيان في انتحال صناعة الكيمياء ، وتقلد علم الباطن والإشراف على كثير من علوم الفلسفة . وكان كثير الملازمة لبربا بلدة إخميم ، فإنها بيت من بيوت الحكمة القديمة ، وفيها التصاوير العجيبة والمثالات الغريبة التي تزيد المؤمن إيمانا ، والكافر طغيانا . ويقال: أنه فتح عليه علم ما فيها بطريق الولاية . وكانت له كرامات .وكذلك المسعودي يذكر أنه (جمع معلوماته عن ذي النون من أهل إخميم عندما زار هذا البلد . وهو يروي عنهم أن أبا الفيض ذا النون المصري الإخميمي الزاهد كان حكيما سلك طريقا خاصا ، وأتخذ في الدين سيرة خاصة ، وكان من المعنيين بحل رموز البرابي في إخميم ، كثير التطواف بها . وأنه وفق إلى حل كثير من الصور والنقوش المرسومة عليها ، ثم يذكر المسعودي ترجمة لطائفة من هذه النقوش التي ادعى ذو النون أنه قرأها وحلها .ثم وبعد ذكر هذه العبارات كتب نيكلسون ما خلاصته: (أن ذا النون كان كثير العكوف على دراسة النقوش البصرية المكتوبة على المعابد وحل رموزها ، كما كانت مصر القديمة في نظر المسلمين مهد علوم الكيمياء والسحر وعلوم الأسرار ، وكان هو من أصحاب الكيمياء والسحر مع أن الإسلام حرم السحر ، ولذلك ستره بلباس الكرامات ، ومن هنا بدا تأثير السحر في التصوف ، ويؤيد ذلك استخدام ذي النون الأدعية السحرية واستعماله البخور لذلك كما ذكره القشيري في رسالته .
فهذا هو الرجل الآخر من الثلاثة الأول الذين يقال عنهم بأنهم أول من لقبوا بهذا اللقب ، ووصفوا بهذا الوصف ، وعرفوا بهذا الرسم أو عرّفوا هذا الطريق إلى الناس بادئ ذي بدء .