الحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:-
هذه الخطبة ضمن سلسة خطب فضيلة شيخنا الفاضل :
أحمد بن محمد العتيق سلمه الله تعالى
خطيب جامع برزان في حائل حرسها الله
بعنوان
الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر
الْحَمْدُ لِلَّه الْذِّي خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَعْبُدُوْه, وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لِلِقَائِهِ هُم بَالِغُوْه, وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَه إِلا الَلّهُ وَحْدَه لا شَرِيْكَ لَه, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ, أَرْسَلَهُ الْلَّهُ تَعَالَى بِالْهُدَى وَدِيْنِ الْحَقِّ, فَبَلَغَ الْرِّسَالَة، وَأَدَّى الأَمَانَة, وَنَصَحَ الْأُمَّة, وَجَاهَدَ فِي الْلَّهِ حَقَّ جِهَادِه, حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِيْنُ مِن رَبِّه, صَلَّى الْلَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الْدِّيْن أَمَّا بَعْد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى, ولا تركنوا إلى الدنيا, فإنها متاع الغرور, وتذكروا الموت وما بعده, واعلموا أن الجنة حُفَّت بالمَكارِه, والنارَ حُفَّت بالشهوات. كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال أيضاً: ( الدنيا سجن المؤمن, وجنة الكافر ).
فهي سجنٌ للمؤمن وجنةٌ للكافر من عِدَّة جهات:
أولها: أن الدنيا مهما عظم نعيمها وطابت أيامها وَزَهَتْ مساكِنُها فإنها للمؤمنبمنزلة السجن, لأن المؤمن يتطلع إلى نعيم أفضل وأكمل وأعلى, فهي سجنُ له فقط مِن جِهَة الترَقُّب وانتظار الفرج.
وأما بالنسبة للكافرفإنها جنته لأنه ينعم فيها وينسى الآخرة ويكون كما قال الله تعالى: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُم ). فالكافر جَنتُه جَنةُ الأنعام من ناحية الأكل والشرب والإستمتاع من دون مبالاة, فإذا مات لم يجد أمامه إلا النار والعياذ بالله، ولهذا كانت الدنيا بالنسبة للكافر جنة حتى لو مَرَّ عليه شيء من المُنَغِّصات والكَدَر والهُمُوم, لأنه ينتقل منها إلى عذاب النار والعياذ بالله.
الثانية: أن المؤمن الذي تعلق قلبه بالآخرة مهما بلغ نعيمُه فإنه لا يركن إليه ولا يُعجَب به, لأنه ليس بشيء حينما يَتَذكَّر ما أعده الله لعباده المؤمنين. وهكذا الكافر فإنه مهما عاش في النعيم وانفتحت له الدنيا وسلم من البلاء والمنغصات فإنه ليس بشيء حينما يرى عذاب الآخرة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يُؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، يوم القيامة, فيصبغ في النار صبغة, ثم يقال: يا ابن آدم, هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ويؤتى بأشد الناسبؤسافي الدنيا، منأهل الجنة, فيصبغ صبغة في الجنة, فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيتبؤساقط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول: لا واللهيا رب, ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط ). وهذا يدل على هوان الدنيا عند الله, وأنها لاتزن شيئاً, فلا ينبغي للمؤمن أن يركن إليها, أو يجعلها هَمَّه.
وفي ذلك أيضاً تسلية للمؤمن الذي يُبْتَلى بما يُكَدِّر حياته, من فقر وشِدَّة, أو أمراض وهموم. حينما يوقن بأن الدنيا سجن المؤمن, وأنه لا راحة إلا في الجنة, وأن الدنيا مهما تَنَعَّمَ أهلها فيها, فإنها متاع زائل وظِلّ ذاهِب, كما قال عليه الصلاة والسلام: ( مالي وللدنيا, ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم ذهب وتركها ). وقال أيضاً: ( ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعلُ أحدُكم إصْبَعَه في اليَم, فلينظر بم يرجع ).
كَمْ مِن شخص أَكلَ الربا طمعاً في الدنيا؟ وكم من شخص خان أمانة الوظيفة فأكل الرشوة أو ما يُسَمّى بالعُمُولة طمعا في الدنيا؟ وَكَمْ من شخص باع شَرَفَه وعِفَّتَه أو شهد الزور طَمَعاً في الدنيا؟ وَكَمْ من شخص أشغلته الدنيا عن الصلاة, وأداء الزكاة, وبر الوالدين والصلة وأداء الحقوق؟ وكم من شخص تَرَك الإخلاص في طلب العلم أو الدعوة أو الحفظ طمعاً في متاع الدنيا أو الشُّهْرَةِ والرِّفْعَة؟ وكم من شخص هَجَرَ إخوانه أقاربه وأصحابه بسبب طَمَعِ الدنيا؟.
اللهمَّ لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ عباد الله:
ويدخل في معنى الحديث: أن المؤمن تحبسه الحدود الشرعية حتى ولو كان ثريا ومُنَعَّماً فإنه لا يستطيع أن يستمتع بالنعيم إلا في حدود ما أباح الله. وَمُلتَزِمٌ بِأداء الفرائض طيلة حياته, لا يجوز له تركُها أو الإخلالُ بها.
بخلاف الكافر فإنه لا حدود تمنعه, ولا فرائض يلتزمها, ويرى أنه في حرية كاملة, ولذلك نجد الذين يعتنقون الليبرالية لا يعترفون بذلك لأنهم يريدون الحرية زعموا, ويرون أن التزام تعاليم الإسلام يقف أمام الحُرِّيَّات, في المعتقد والسلوك والتصرفات الشخصية.
ما علم هؤلاء أن الإسلام جاء بإخراج العباد من عبادة المخلوق إلى عبادة الله, ومن ظلم وجور الأديان إلى الحرية وسعة الإسلام وعدله. ومن كون الإنسان يتخذ إلهه هواه, إلى التخلص من ذلك والتعلق بالله وحده والتذلل له وإفراده بالعبادة.
إذ ليس المقصود بالسجن الوارد في الحديث: سجن القلب والروح. وإنما المراد هو معرفة الفارق بين الدنيا والجنة, وكذلك معرفة لزوم الحدود الشرعية التي لا يجوز تجاوزها.
وإلا فإن الإيمان بالله ولزوم طاعته وذكره هو جنة القلب وسعادته وسبب انشراحه واستنارته. والكفر بالله والإنغماس في الذنوب والإعراض عن ذكر الله, هو سبب ضيق الصدر وظلمة القلب وقسوته.
اللهم حببِّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبِنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم آتِ نفُوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها، اللهم وفقنا لما يُرضيك عنا، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سُبَل السلام ونجِّهم من الظلمات إلى النور وانصرهم على عدوّك وعدوِّهم يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ .