المقالة الرابعة : إصلاح الأغلاط الشائعة (4) (*)
و الآن أيها السادة نلتقي في رحاب العربية الشريفة التي تهوى إليها قلوب أبنائها على اختلاف الديار و بعد الآفاق, و التي نعدها بحق الرمز الصادق لتاريخنا المجيد, و النبع الفياض لثقافتنا الحديثة , العروة الوثقى لآمالنا المتفرقة و عواطفنا المتزاحمة . وقد ألقينا قبل ذلك من هذا المكان الذي يشرف على ديار العروبة جميعا أحاديث و أحاديث في تنقية العربية مما أصابها من دون , و تطهيرها من وضر اللحن و من كل ما أجلبت به عليها العجمة من دخيل في اللفظ و التواء في الأسلوب . و أهبنا بالشبان الأمجاد أن يصغوا إلى أحاديثنا , و أن يقتطعوا من أوقات لههوهم جزءا للتفقه في اللغة و الإلمام بصحيح أوضاعها , و أنهم إن فعلوا و تفضل الله علينا بأن نستمر في أحاديثنا قضوا على كل ما تتعثر به الألسن من خطأ شائع , و تتطرف به أقلام بعض الكاتبين من عربية مدخولة و لكنا بعد أن مضينا شوطا في إصلاح الخطأ في الكلمات و الأساليب لمحنا أن هناك داهية أدهى , و أن وراء الأكمة خطرا أعظم , ذلك هو تشبث بعض المعلمين بالحكم على كلمات صحيحة فصيحة بأنها خطأ , و قيام نابتة من المبتدئين تتعالم على الناس و ترمي بالخطأ كل تركيب أو لفظ صحيح.
مسكينة أنت أيتها العربية .ماذا تصنعين بيم مجازف باللحن لا يبالي ما يصنع , و جريء اللسان و القلم لا يريد أن يترك لك أديما صحيحا ؟ و ماذا يكون حالنا أيها السادة و قد أردنا أن نرأب صدعاً في البناء فإذا بنا نرى في الجانب الآخر معاول تهدم القوى المتماسك من هذا البناء . ألقينا بكل شيء كان في أيدينا و تركنا الحديث في الأغلاط الشائعة إلى حين , و أسرعنا إلى هذه المعاول نحطمها و إلى تلك الأيدي العادية على العربية نغلها.
رحماك اللهم . أردنا أن نعالج في العربية داء قديما فإذا نحن من هؤلاء الهدامين أمام داء جديد.
و قد ذكرنا في حديث سابق أن الحكم بخطأ الصحيح من الألفاظ يرجع إلى أسباب منها : الجمود عند عبارة المعجمات من غير ذوق لغوي و ملكة سليمة تدرك ما وراء هذه العبارات , و منها : الجهل بعلم الاشتقاق و قواعد التصريف , و منها : الاقتصار أحيانا على معجم من غير استقصاء غيره من كتب اللغة و الأدب . و نحن الليلة متناولون أربع كلمات نفاها بعض المتحذلقين من حظيرة العربية و أهابوا بالأدباء و الكتاب أن يجتنبوها , منها كلمتا الفطور و الغذاء , و أظن أن إنسانا لا يستغني عن استعمال هاتين الكلمتين في كل يوم من أيام حياته , قالوا لنا : إنها خطأ لا يصح أن تتداوله الألسنة بحال , فلا يصح أن تستعمل كلمة الفطور إلا لطعام الصائم عندما تغرب الشمس , أما في غير رمضان فطعام الصباح لا يسمى فطورا . و لكننا أيها السادة اللغويون نحتاج إلى هذا الاسم أشد الحاجة و كيف تكون لنا لغة تصح أن تسمى لغة إذا لم يكن بها اسم لطعام الصباح ! قالوا : سمه غداء. سم الفطور غداء , لأن القاموس يقول (( و الغداء طعام الغدوة)) و الغدوة أول النهار أو ما بين صلاة الفجر و طلوع الشمس قلت : إن الناس لا يقبلون أن تسموا لهم الفطور غداء , قالوا : و ما لنا و للناس إننا نأخذ اللغة من نصوصها , قلت : و بم تسمون طعام ما بعد الظهر الذي يسميه الناس جميعاً غداء ؟ قالوا سمها الكرزمة . فلم أسغ الكلمة و علمت أن شيئاً ما من هذا الخلط لن يكون صحيحا , فرجعت إلى المعجمات فماذا رأيت . رأيتها تقول :
الفطر الشق , تقول : فطر فلان الحائط يفطره شقه , و الفطر البدء بالشيء , تقول : فطر الله السموات , أي : بدأ خلقها – فالفَطر للصائم بفتح الفاء و هو المصدر و بكسرها و هو الاسم – مأخوذ من هذين المعنيين فالصائم بفطره يشق الصوم , أي يصدعه : أو يبتدئ الأكل بعد أن كان محظوراً , و الطعام الذي يبتدئ به يسمى فطوراً , لأن يكسر الصوم أو يجيء أول الطعام . و إذا جاء الفطر و الفطور في حديث أهل اللغة عن الصوم و الصائم . ألا يسوغ لنا أن ننقله إلى غير الصائم ما دام الأصل اللغوي يعاضدها و الحاجة إلى الكلمة تستحثنا ؟ نعم يسوغ , إما على ضرب من المجاز بالاستعارة و إما بإطلاق الخاص بتوسيع معناه و إما بالرجوع إلى الأصل اللغوي المحض , لأن طعام الصباح و هو الفطور أول طعام يبتدئ به فهو من الفطر بمعنى الابتداء , أو لأنه يشق ما كان عليه الآكل طول الليل فيكون من الفطر بمعنى الشق و الصدع , و توافق اللغات هنا عجيب جدا بين العربية و الانجليزية فإن فطور يسمى بالإنجليزية « breakFast » أي صدع الصيام.
انتهينا إلى أن نسمي طعام الصباح فطوراً كما يسميه جميع الناس . بقى الغداء و ما قالوه من أنه طعام الصباح , و كانت عبارة صاحب القاموس تشهد لهم , لأنه يقول : و الغداء طعام الغدوة و هي ما بين صلاة الفجر إلى طلوع الشمس و لكننا حين ذكرناهم بقوله تعالى في شأن موسى عليه السلام (( فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا)) و قلنا : كيف يلقيان نصبا من السير و السفر وقت الغدوة في بكرة النهار ؟ قالوا: لعله كان يسير ليلا . فذهبنا إلى المعجمات فرأينا صاحب المصباح يقول : غدا غدوا ذهب غدوة , هذا أصله ثم كثر حتى استعمل في الذهاب في أي وقت . و إذاً يجوز أن تقول : غدا فلان إلى الاسكندرية في قطار العصر , بمعنى : ذهب . ثم رأينا صاحب الصحاح يقول : و الغداء الطعام بعينه و هو خلاف العشاء , فهو لم يقيده بأن يكون أول النهار , فطعام الظهر عنده غداء من غير شك . و هناك دليل آخر على ذلك لطيف , و هو ما قاله شارح القاموس , قال : و يسمى السحور غداء , لأنه العرب تجوزوا و سموا سحور الصائم غداء . و إذا تجوزوا في الصائم فلم لا نتجوزر في المفطر ؟ و هو ثانيا : يفيد أن طعام الغداء هو طعام ما بعد الظهر , أو الذي يلي الفطور , لأنهم استعملوه للصائم فيما يلي الفطور و في طعام نصف الليل و في طعام نصف الليل . أما ( الكرزمة) هذه و هي أكل نصف النهار , فهي على غرابتها و ثقلها و نبوها لم نرها في كتب الأدب و لا في شعر الشعراء , على أن ابن الأعرابي ينكرها و يقول : لم أسمعه لغير الليث.
و من هذه الكلمات التي لا تزال محكوما عليها بالخطأ من جميع المعلمين و المتأدبين ((كلمة يدعوه كذا )) . و ((تعود على كذا)) فلا يجوزون مطلقا أن يكتب كاتب مثلا إن التغاضي عود فلانا على الكسل.
أو أن يقول : إن فلانا تعود على الإهمال , لأنهم رجعوا إلى معجمات اللغة فرأوها مجمعة على تعدية الفعل بنفسه لذلك يحتمون أن يقال : إن التغاضي عود فلانا الإهمال فتعوده . و لكننا نريد أن نفهم نصوص اللغة معهم في هدوء و تؤدة ففيها : و عاد فلان على الشيء و إلى الشيء رجع إليه و فيها و عاد فلان الشيء صار عادة له . و فيها : و عوّد كلبه الصيد جعله يعتاده , فالفعل عاد في كل هذه التعاريف معناه الرجوع إلى الشيء أو العمل فإذا تكرر هذا الرجوع صار عادة, و إذا جاز أن نقول : عاد فلان على الشيء بمعنى رجع . إلا يجوز حينما نريد أن نعدي هذا الفعل إلى المفعول بالتضعيف أن نقول :عوّد فلان فلانا على الشيء , أي : أعاده إليه مرة بعد أخرى. هذا بدهي كما نقول : سار فلان على نهج قويم , و سيرته على نهج قويم . و حينما قالوا : عاد فلان الشيء , و أرادوا تعديته إلى مفعولين قالوا : عودته الشيء , و لكن اللغويين أهملوا ذكر الفعل الأول مضعّفا , و هو عوّده على كذا و أتوا بالفعل التالي و هو عوده كذا . و إهمالهم هذا لا يدل على منع عوده على كذا ما دام التضعيف مسموعا و ما دامت العرب استعملت الفعل المجرد معدىً بعلى فقالوا : عاد فلان على الشيء فإذا لم يؤمن المتأدبون بعد كل هذا , فأظنهم يمتلئون إيمانا عندما يسمعون قول زهير في مدح هرم بن سنان :
و عوّد قومه هرمٌ عليه *** و من عاداته الخلق الكريم
عودهم عليه أي : جعلهم يعودون إليه لطلب المعروف مرة بعد أخرى . و كذلك إذا قلت : عودت فلانا الكرم . كان المعنى : جعله يعود إليه مرات فتعود عليه.
و من الكلمات التي أنكرها عليّ بعض الأدباء كلمة ((نسائم)) جاءت في بيت قلته هو :
يفدّيه غصن الدوح ريّان ناضراً *** إذا اهتز في كف النسائم مائله
قالوا : إن النسيم لا يجمع على نسائم و إنما جمعه أنسام , ولم نجد كتابا في اللغة جمعه على نسائم . و الحق أن هذا الكلام عجيب جدا كأن الجموع القياسية يجب أن تؤخذ أيضا من كتب اللغة مع أنها لا تذكر الجمع القياسي إلا في القليل النادر.
جمع نسيم على نسائم جمع قياسي , لأن فعائل جمعا تطرد في كل رباعي مؤنث ثالثه مدة زائدة , فأجمع سلافة على سلائف , حبيبة على حبائب , و حلوبة على حلائب . و لا تبحث عنها في كتب اللغة , و المؤنث إما أن يكون بالتاء كما سبق , و إما أن تكون العرب عدته مؤنثاً مثل شمال و شمائل و يمين و يمائن و عجوز و عجائر.
و النسيم مؤنثة لأن الريح مؤنثة و كل أسمائها مؤنثة كذلك.
و ذا كانت النسيم مؤنثة فهي رباعية ثالثها مدّة زائدة هي الياء, فهي تجمع على نسائم في قياس مطرد لا يتحلف , و لذا يقول الحسين الواساني من أكثر من تسعمائة سنة :
و لما نضا وجه الربيع نقابه *** و فاضت بأطراف الرياض النسائم
و في هذا القدر ما يكفي هذه الليلة و السلام عليكم و رحمة الله .ص237/240 من جارميات .
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
(*)أذيع هذا الحديث من إذاعة القاهرة في 10/6/1938م.