حكم الإسلام في شدالرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين
حكم الإسلام في شد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه
أما بعد :
فإني قد اطلعت على ما دار بين معالي الشيخ العلامة صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان عضو هيئة كبار العلماء وبين أناس خالفوه في موضوع شد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ورأيت ما في كلامهم من المخالفة للحق ولما قرره السلف الصالح ورأيت أنهم ليس لهم مستند صحيح من الكتاب والسنة ولا من أقوال أئمة الإسلام السابقين أهل القرون المفضلة وإنما يتعلقون بهفوات المتأخرين التي لا سند لها من نصوص القرآن والسنة الصحيحة ولا أقوال ولا أعمال السلف الصالح وعلى رأسهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان ولا أقوال أئمة العلم والهدى ومنهم الأئمة الأربعة .
وقبل الخوض في هذه المسألة أقول : إن محبة الرسول الكريم وخاتم النبيين وإجلاله وتوقيره وطاعته واتباعه والإشادة بمنزلته العظيمة عند الله لمن أوجب ما افترضه الله على الناس عموماً؛ لأنه رسول رب العالمين إلى الناس والجن أجمعين، قال الله تعالى : )قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31)فعلامة محبة الله الصادقة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الله تعالى: )مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء:80)فجعل طاعته طاعة له وقرن طاعته بطاعته فقال تعالى : ) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (النساء:13) .
ومن أعظم طاعته التمسك بما جاء به قال تعالى : )وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النساء:14) ومن أعظم التجاوز لحدود الله الابتداع في دين الله.
ومن صحيح سنته صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم : "لا يؤمن أحدكم أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين "
فلا يكتفى في حقه بمجرد الحب بل لا بد من حب يفوق حب الأبناء والآباء والأقربين والناس أجمعين.
وبرهان ذلك الحرص على اتباع كل ما جاء به وتصديقه وعدم تحريفه أو معارضته بقول أحد كائنا من كان، فلا يعارض قوله بقول أحد ولا يقدم على هديه هدى أحد صلى الله عليه وسلم وهذا مطلوب من كل مسلم فما ثبت من قوله أو فعله أو تقريره أخذناه وتقربنا به إلى الله، وما لم يثبت من قوله وتقريره في أبواب القرب فلا يجوز لمسلم أن يتقرب به إلى الله لأنه من الدين الذي لم يأذن به الله .
فزيارة القبور مشروعة وشد الرحال إليها غير مشروع لا بقول النبي صلى الله عليه وسلم ولا بفعله ولا بتقريره بل الصواب أنه منهي عنه ونهى عنه أصحابه بناء على نهيه وتوجيهه فلا يكون مشروعاً بحال من الأحوال فقد روى كل من أبي هريرة وأبي سعيد وأبي بصرة الغفاري وابن عمر حديث :
"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى "
أما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما
وأما حديث أبي سعيد فأخرجه الشيخان وغيرهما بلفظ لا تشدوا الرحال ... الخ
وأما حديث أبي بصرة فأخرجه مالك وأحمد وأبو دواد الطيالسي والنسائي والترمذي بأسانيد بعضها صحيح وبعضها حسن .
وأما حديث ابن عمر فأخرجه الأزرقي في أخبار مكة بإسناد رجاله رجال الصحيح والطبراني في الكبير وفي الأوسط من طريق أخرى قال الهيثمي : رجاله ثقات .
ولمَّا ذهب أبو هريرة إلى الطور قال له أبو بصرة: من أين جئت ؟ قال : جئت من الطور صليت فيه قال : أما إني لو أدركتك لم تذهب إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد .. الحديث
ونهى ابن عمر قزعة عن الذهاب إلى الطور محتجاً بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة.
فاتفق فهم هؤلاء الثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة لأجل التقرب إلى الله ولا نعرف لهم مخالف من الصحابة وفقه الصحابة مقدم على فقه من خالفهم مهما بلغوا من العلم ومن الكثرة، هذا مسلم لدى كل من يحترم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقه أصحابه وعلمهم أما من اتبع هواه فله شأن آخر .
ولقد بذل أئمة السنة جهوداً عظيمة في بيان الحق في هذه المسألة ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في عدد من الكتب، منها: الجواب الباهر، وجولات في كتابه قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة وسوف اختار من الأخير فقرات كنت علقت عليها أيام تحقيقي ودراستي له في حدود عام 1412هـ أسأل الله أن ينفع المسلمين بهذه الفقرات القيمة وما يتبعها من تعليقات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
406- فإن أحاديث زيارة قبره كلها ضعيفة، لا يعتمد على شيء منها في الدين؛ لهذا لم يرو أهل الصحاح والسنن شيئاً منها، وإنما يرويها من يروي الضعاف كالدارقطني والبزار وغيرهما.
وأجود حديث فيها ما رواه عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، والكذب ظاهر عليه.
مثل قوله: "من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي، فإن هذا كذبه ظاهر مخالف لدين المسلمين، فإن من زاره في حياته، وكان مؤمناً به، كان من أصحابه، لاسيما إن كان من المهاجرين إليه، المجاهدين معه.
أقول :
عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبوعبد الرحمن العمري المدني، ضعيف عابد من السابعة/ م4. تقريب (1/435). وضعف عبد الله عدد من أئمة الحديث مثل يحيى القطان، وعلي بن المديني، وابن حبان.
لكن هذا الحديث الذي نسبه إليه شيخ الإسلام بهذا اللفظ ليس هو حديث عبد الله العمري، وإنما هو حديث حفص بن سليمان عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر. ولفظ حديث عبد الله بن عمر العمري الضعيف هكذا: "من زار قبري وجبت له شفاعتي".
وقد أورد الشيخ نفسه الحديثين في الرد على الأخنائي (ص 42، 43) بحاشية الرد على البكري ناسباً كل حديث إلى راويه على الصواب. وكذلك ذكر ابن عبد الهادي الحديثين في كتابه الصارم المنكي، أورد حديث عبد الله العمري في ص 11 - وناقشه مناقشة علمية إلى (ص 27). وأورد حديث حفص بن سليمان في (ص 4 وناقشه إلى (ص 69).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
407 - وقد ثبت عنه e أنه قال: "لا تسبُّوا أصحابي، فوالدي نفسي بيده لو أنفق أحدُكم مثل أُحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". أخرجاه في الصحيحين.
408 - والواحد من بعد الصحابة لا يكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة؛ كالحج والجهاد والصلوات الخمس والصلاة عليه، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين، بل ولا شرع السفر إليه، بل هو منهي عنه.
409 - وأما السفر إلى مسجده للصلاة فيه، والسفر إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه فهو مستحب، والسفر إلى الكعبة للحج فواجب. فلو سافر أحد السفر الواجب والمستحب لم يكن مثل واحد من الصحابة الذين سافروا إليه في حياته، فكيف بالسفر المنهي عنه؟.
410 - وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره بل ينهى عن ذلك.
أقول:
في مجمع الأنهر للشيخ عبد الله بن محمد بن سليمان المعروف بداماد آفندي الحنفي (1/547):
"ومن نذر بما هو واجب قصداً من جنسه، وهو عبادة مقصودة (نذراً مطلقاً) غير معلق بشرط بقرينة التقابل، مثل أن يقول: لله عليّ حج أو عمرة، أو اعتكاف، أو لله علي نذر، وأراد شيئاً بعينه كالصدقة؛ فإن هذه عبادات مقصودة، ومن جنسها واجب، وإنما قيد النذر به؛ لأنه لم يلزم الناذر ما ليس من جنسه فرض؛ كقراءة القرآن، وصلاة الجنازة، ودخول المسجد، وبناء المساجد والسقاية وعمارتها. وإكرام الأيتام، وعيادة المريض، وزيارة القبور، وزيارة قبر النبي e وإكفان الموتى، وتطليق امرأته، وتزويج فلانة. لم يلزمه شيء من هذه الوجوه؛ لأنها ليس لها أصل في الفروض المقصودة، كما في كثير من الكتب".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
411 - ولو نذر السفر إلى مسجده والمسجد الأقصى للصلاة ففيه قولان للشافعي.
أظهرهما عنه: يجب ذلك، وهو مذهب مالك وأحمد .
والثاني: لا يجب، وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأن من أصله أنه لا يجب النذر إلا ما كان واجباً بالشرع، وإتيان هذين المسجدين ليس واجباً بالشرع فلا يجب بالنذر عنده .
وأما الأكثرون فيقولون: هو طاعة لله.
أقول: ويحسن أن نورد أقوال الأئمة الأربعة حول هذه المسألة
مذهب الشافعية :
قال الشافعي - رحمه الله - في الأم (2/256): "ولو نذر، فقال عليّ المشي إلى إفريقية أو العراق أو غيرهما من البلدان لم يكن عليه شيء، لأنه ليس لله طاعة في المشي إلى شيء من البلدان، وإنما يكون المشي إلى المواضع التي يرتجى فيها البر، وذلك المسجد الحرام، وأحبّ إليَّ لو نذر أن يمشي إلى مسجد المدينة أن يمشي، وإلى مسجد بيت المقدس أن يمشي؛ لأن رسول الله e، قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس"، ولا يبين لي أن أوجب المشي إلى مسجد النبي e ومسجد بيت المقدس، كما يبين لي أن أوجب المشي إلى بيت الله الحرام؛ وذلك أن البر بإتيان بيت الله فرض، والبر بإتيان هذين نافلة". وانظر حلية العلماء للقفال الشاشي (3/342).
وقال أبو إسحاق الشيرازي في المهذب: "وإن نذر المشي إلى المسجد الأقصى ومسجد المدينة ففيه قولان؛ قال في البويطي يلزمه، لأنه مسجد ورد الشرع بشد الرحال إليه، فلزمه المشي إليه بالنذر، كالمسجد الحرام. وقال في الأم: لا يلزمه، لأنه مسجد لا يجب قصده بالنسك، فلم يجب المشي إليه بالنذر كسائر المساجد". وانظر حلية العلماء (3/342). وذكر النووي هذين القولين في الإيضاح (ص 518 - 519) مع شرح ابن حجر الهيتمي. وقال ابن حجر الهيتمي هنا (ص 519): "ولو نذر زيارة قبره e لزم الوفاء به؛ لما علمت أنها في القرب المؤكدة، وكذا زيارة قبر غيره e مما تسن زيارته؛ لأنها قربة مقصودة".
وهذا من العجائب والغرائب، لقد علم ابن حجر أن مذهب الشافعي استحباب الوفاء بالنذر بالذهاب إلى مسجد رسول الله e وبيت المقدس وتهيبه من القول بالوجوب خوفاً من الله وورعاً، وأكد ذلك النووي في الإيضاح بأن أصح القولين الاستحباب، وأقرهما ابن حجر على ذلك، ثم بعد كل هذا يرى وجوب الوفاء بالنذر بزيارة القبور؛ لأنها في نظره من القرب المؤكدة، فهل لا يلزم الوفاء بنذر شد الرحال إلى مسجد رسول الله وإلى بيت المقدس لأنه لا يرقى إلى درجة القرب المؤكدة، وقد حضنا رسول الهدى e إلى شد الرحال إليهما مع أعظم بيوت الله المسجد الحرام.
وإني لأخشى أن يكون هذا الكلام مدسوساً عليه، فإن كان منه فأرجو أن يكون قد رجع عنه.
وله كلام جيد في هذا الباب من الإنصاف أن نذكره
قال في كتابه الزواجر: ( الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتِّسْعُونَ : اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ ، وَإِيقَادُ السُّرُجِ عَلَيْهَا ، وَاِتِّخَاذُهَا أَوْثَانًا ، وَالطَّوَافُ بِهَا ، وَاسْتِلَامُهَا ، وَالصَّلَاةُ إلَيْهَا )
أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { عَهْدِي بِنَبِيِّكُمْ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِخَمْسِ لَيَالٍ فَسَمِعْته يَقُولُ : إنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ إلَّا وَلَهُ خَلِيلٌ مِنْ أُمَّتِهِ وَإِنَّ خَلِيلِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ ، وَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا ، أَلَا وَإِنَّ الْأُمَمَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ وَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ ، اللَّهُمَّ إنِّي بَلَّغْتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } الْحَدِيثَ . وَالطَّبَرَانِيُّ { لَا تُصَلُّوا إلَى قَبْرٍ ، وَلَا تُصَلُّوا عَلَى قَبْرٍ } . وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ } . وَمُسْلِمٌ : { أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَأَحْمَدُ : { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءُ ، وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } . وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ : { الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ } . وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد : { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } . وَأَحْمَدُ عَنْ أُسَامَةَ ، وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } . وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ : { أُولَئِكَ إذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ : { نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ إلَى الْقُبُورِ } . وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءُ ، وَمَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } . وَابْنُ سَعْدٍ : { أَلَا إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ { إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } . وَأَيْضًا : { كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ فَلَعَنَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى } . تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ السِّتَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْته مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ، وَوَجْهُ أَخْذِ اتِّخَاذِ الْقَبْرِ مَسْجِدًا مِنْهَا وَاضِحٌ ، لِأَنَّهُ لُعِنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِقُبُورِ أَنْبِيَائِهِ وَجُعِلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِقُبُورِ صُلَحَائِهِ شَرَّ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَفِيهِ تَحْذِيرٌ لَنَا كَمَا فِي رِوَايَةِ : { يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا } : أَيْ يُحَذِّرُ أُمَّتَهُ بِقَوْلِهِ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَصْنَعُوا كَصُنْعِ أُولَئِكَ فَيُلْعَنُوا كَمَا لُعِنُوا ؛ وَاِتِّخَاذُ الْقَبْرِ مَسْجِدًا مَعْنَاهُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ أَوْ إلَيْهِ ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ " وَالصَّلَاةُ إلَيْهَا " مُكَرَّرٌ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِاِتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا فَقَطْ ، نَعَمْ إنَّمَا يُتَّجَهُ هَذَا الْأَخْذُ إنْ كَانَ الْقَبْرُ قَبْرَ مُعَظَّمٍ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ كَمَا أَشَارَتْ إلَيْهِ رِوَايَةُ : { إذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ } وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَصْحَابُنَا : { تَحْرُمُ الصَّلَاةُ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ تَبَرُّكًا وَإِعْظَامًا } فَاشْتَرَطُوا شَيْئَيْنِ أَنْ يَكُونَ قَبْرَ مُعَظَّمٍ وَأَنْ يَقْصِدَ بِالصَّلَاةِ إلَيْهِ - وَمِثْلُهَا الصَّلَاةُ - عَلَيْهِ التَّبَرُّكَ وَالْإِعْظَامَ ، وَكَوْنُ هَذَا الْفِعْلِ كَبِيرَةً ظَاهِرٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ لِمَا عَلِمْت ، وَكَأَنَّهُ قَاسَ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ تَعْظِيمٍ لِلْقَبْرِ كَإِيقَادِ السُّرُجِ عَلَيْهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَبَرُّكًا بِهِ ، وَالطَّوَافُ بِهِ كَذَلِكَ وَهُوَ أَخْذٌ غَيْرُ بَعِيدٍ ، سِيَّمَا وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا بِلَعْنِ مَنْ اتَّخَذَ عَلَى الْقَبْرِ سُرُجًا ، فَيُحْمَلُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا بِكَرَاهَةِ ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ تَعْظِيمًا وَتَبَرُّكًا بِذِي الْقَبْرِ . وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا أَوْثَانًا فَجَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ بَعْدِي } أَيْ لَا تُعَظِّمُوهُ تَعْظِيمَ غَيْرِكُمْ لِأَوْثَانِهِمْ بِالسُّجُودِ لَهُ أَوْ نَحْوِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ : { وَاِتِّخَاذُهَا أَوْثَانًا } هَذَا الْمَعْنَى اُتُّجِهَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ بَلْ كُفْرٌ بِشَرْطِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مُطْلَقَ التَّعْظِيمِ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ كَبِيرَةٌ فَفِيهِ بُعْدٌ (1)، نَعَمْ قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ : قَصْدُ الرَّجُلِ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْقَبْرِ مُتَبَرِّكًا بِهَا عَيْنُ الْمُحَادَّةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِبْدَاعُ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ لِلنَّهْيِ عَنْهَا ثُمَّ إجْمَاعًا ، فَإِنَّ أَعْظَمَ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَسْبَابِ الشِّرْكِ الصَّلَاةُ عِنْدَهَا وَاِتِّخَاذُهَا مَسَاجِدَ أَوْ بِنَاؤُهَا عَلَيْهَا . وَالْقَوْلُ بِالْكَرَاهَةِ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ إذْ لَا يُظَنُّ بِالْعُلَمَاءِ تَجْوِيزُ فِعْلٍ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعْنُ فَاعِلِهِ ، وَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ لِهَدْمِهَا وَهَدْمِ الْقِبَابِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ إذْ هِيَ أَضَرُّ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ لِأَنَّهَا أُسِّسَتْ عَلَى مَعْصِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَدْمِ الْقُبُورِ الْمُشْرِفَةِ ، وَتَجِبُ إزَالَةُ كُلِّ قِنْدِيلٍ أَوْ سِرَاجٍ عَلَى قَبْرٍ وَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُ وَنَذْرُهُ انْتَهَى .
مذهب المالكية :
في المدونة (2/87): "وقال مالك: ومن قال: لله عليَّ أن آتي المدينة أو بيت المقدس أو المشي إلى المدينة أو المشي إلى بيت المقدس، فلا شيء عليه، إلا أن يكون نوى بقوله ذلك أن يصلي في مسجد المدينة أو في مسجد بيت المقدس. فإن كان تلك نيته وجب عليه الذهاب إلى المدينة أو إلى بيت المقدس راكباً". وانظر الكافي لابن عبد البر (1/45.
ويفهم من استثناء مالك الصلاة فقط من صور الأعمال التي يشملها نذر المشي إلى المدينة وإلى بيت المقدس، ومنها مثلاً زيارة قبر النبي e وقبور الشهداء في المدينة وقبر الخليل وسائر قبور الأنبياء في بيت المقدس، أنه لا يجب ولا يشرع شد الرحال إلى قبر نبينا محمد e ولا إلى قبر غيره من الأنبياء والصالحين ولا يجب ولا يستحب الوفاء بالنذر بالمشي إليها ولو كان يرى شيئاً من هذا لاستثناه كما استثنى الصلاة، وهذا يدل على قوة اتباعه للكتاب والسنة وتمسكه بهما وبعده عن الغلو والبدع التي قال الله في شأنها: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وقول رسول الله e: "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". وقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". فليت أتباعه يقفون حيث وقف لأن الدين توقيفي.
مذهب الحنابلة :
قال ابن قدامة في المغني (10/16): "وإن نذر المشي إلى مسجد النبي e، أو المسجد الأقصى لزمه ذلك. وبهذا قال مالك والأوزاعي، وأبوعبيد، وابن المنذر، وهو أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر: "ولا يبين لي وجوب المشي إليهما؛ لأن البر بإتيان بيت الله فرض والبر بإتيان هذين نفل".
مذهب الأحناف :
في البحر الرائق (3/81): "ولو قال عليَّ المشي إلى بيت الله الحرام، ولم يذكر حجاً ولا عمرة لزم أحد النسكين استحساناً، فإن جعله عمرة مشي حتى يحلق، إلا إذا نوى به المشي إلى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس أو مسجد من المساجد، فإنه لا يلزمه شيء". ويفهم من موقفهم هذا ما يفهم من موقف مالك رحم الله الجميع ووفق الأمة لسلوك منهجهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
412 - وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي e أنه قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه".
413 - وأما السفر إلى زيارة قبور الأنبياء الصالحين فلا يجب بالنذر عند أحد منهم لأنه ليس بطاعة.
فكيف يكون من فعل هذا كواحد من أصحابه؟ وهذا مالك كره أن يقول الرجل: زرت قبر رسول الله e واستعظمه.
وقد قيل: إن ذلك لكراهية زيارة القبور.
وقيل: لأن الزائر أفضل من المزور.
وكلاهما ضعيف عند أصحاب مالك.
أقول :
زيارة القبور مشروعة وكان رسول الله قد نهى عنها من باب سد الذرائع؛ لأن الأمم السابقة فتنت بقبور أنبيائها وصالحيها حتى أوقعهم الشيطان كرات ومرات في هوة الشرك بهم واتخاذهم أنداداً مع الله، وأول فتنة من فتن الشرك وقعت لقوم نوح إذ تعلقت قلوبهم بود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهم رجال صالحون فجعلوهم أنداداً مع الله.
من أجل ذلك وأمثاله نهى رسول الله أولاً عن زيارة القبور، ولما رسخت عقيدة التوحيد في قلوب أصحابه الكرام وأمن عليهم الفتنة رخص لهم في زيارتها، وبين لهم الغاية من زيارتها وهي أنها تذكرهم الآخرة، هذه واحدة، والأخرى ليستفيد الأموات من دعاء إخوتهم الأحياء.
وإذا كان الأمر كذلك، والهدف الأول وهو تذكرة الآخرة، أمر يتحقق بزيارة القبور القريبة والمجاورة، حتى ولو كانت قبور قوم مشركين اكتفى الشارع الحكيم بالحد الأدنى الذي يحقق الغرض الشرعي مع تحفظات كثيرة تسد ذرائع الفتنة والشرك:
منها أن لا يقولوا هجراً، ومنها أن لا تتخذ مساجد، ومنها أن لا يبنى عليها، ولا تجصص، ولا يصلى عليها ولا إليها، اكتفى بالحد الأدنى مع هذه الاحتياطات والتحفظات. ولم يشرع أبداً السفر إليها وشد الرحال إليها، لا بقوله ولا بفعله.
وآية ذلك: أن هذا الأمر لم ينزل فيه قرآن، ولم يثبت فيه حديث من قول رسول الله أو فعله، فلو كان مشروعاً لتحقق فيه كل ذلك ولسن لنا رسول الله ذلك برحلات ورحلات إلى قبور الأنبياء والصالحين. ولملئت الدواوين برحلات الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان، ونحن نجد دواوين الإسلام من صحاح وسنن ومسانيد وكتب فقه السلف الصالح قد سجلت كل حقوق الأموات من عيادتهم وهم مرضى إلى غسلهم وتحنيطهم وتشييعهم ودفنهم وزيارتهم والاستغفار لهم والدعاء لهم والنهي عن الجلوس على قبورهم، ومن جهة أخرى لحماية عقيدة الأحياء من المسلمين نهي عن البناء على قبور الأموات بأي شكل وبأي صورة لا مساجد ولا مطلق بناء ولا بتجصيص.
كل هذا قد طفحت به دواوين الإسلام التي نوهنا عنها، خالية خلواً كاملاً من حديث نبوي صحيح أو حسن، ومن أقوال الصحابة والقرون المفضلة، ومن أقوال أئمة الهدى من شيء له تعلق بقضية السفر إلى القبور، فهذا الإمام مالك لا تجد له كلمة في موطأه تشير إلى السفر وشد الرحال إلى قبر رسول الله e ولا إلى قبر غيره، وهذه كتب تلاميذه التي دونوا فيها فقه هذا الإمام لا نجد فيها باباً ولا فصلاً ولا حديثاً يحث المسلمين على شد الرحال والسفر إلى قبر النبي e أو غيره من الأنبياء والصالحين.
وهذا الإمام الشافعي يدون فقهه العظيم في الأم وغيرها، فلم يعقد باباً ولا فصلاً، ولم يذكر حديثاً واحداً بشأن السفر إلى قبور الأنبياء. وهذا الإمام أحمد بن حنبل وهذا مسنده العظيم ومسائله التي دونت في كتب لا تجد لهذه المسألة فيها أثراً ولا خبرا .
وهذان الصحيحان، وبقية الأمهات الست وأخواتها من دواوين الإسلام المعتبرة، خلت خلواً كاملاً عن قضية شد الرحال والسفر إلى قبر النبي e أو إلى قبور غيره من الأنبياء.
وهذه كتب أبي حنيفة وأصحابه أبي يوسف ومحمد نبحث فيها، فلا نجد فيها ذكراً لهذه المسألة.
فما هو السر إذن في عمل هؤلاء الصحابة والتابعين والأئمة من الفقهاء والمحدثين؟ ويجب أن يقف جميع العقلاء متسائلين: هل ينقصهم حب رسول الله e؟ هل كان هناك مادة خصبة وأحاديث وآثار ثرة أهملوها بل كتموها ودفنوها كما فعلوا بوصية علي في نظر الباطنية وغلاة الرفض؟ إن المنتسبين إلى السنة على اختلاف اتجاهاتهم بحمد الله لا يظنون بسفلهم هذا الظن السيئ، ولكنها الغفلة ودغدغة شياطين الإنس والجن لعواطف الحب العمياء التي لا تميز بين حق وباطل، وبين جفاء وإفراط وإطراء، إنه ليس بأيدي المتحمسين لهذه المسألة مسألة شد الرحال إلى القبور التي يبالغون فيها وقد يكفرون من يخالفهم إلا غثاء وسرابٌ من الأحاديث الباطلة لا يدعمها كتاب ولا سنة، ولا قول صحابي ولا إمام من أئمة الإسلام.
إنا نقول لهؤلاء ما نقتبسه من قول الله: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة}. نقول لكم: قوموا مثنى وفرادى وجماعات، وشكلوا لجانا واعقدوا مؤتمرات وفكروا في كل ذلك وقلبوه بطنا لظهر، لماذا أهمل سلفكم الصالح وأقصد بهم القرون المفضلة هذه القضية المهمة؟ ولماذا لم يحتفوا بها ويسجلوها في دواوينهم الفقهية والحديثية والعقائدية؟
هل أصابتهم جنة أو جفاء أو أن القضية لا أساس لها؟ لعل احترامكم لسادة هذه الأمة وسلفها الصالح وحسن ظنكم بهم يدفعانكم إلى الاعتراف بالحقيقة.
والواقع أن رسول الله e لم يفعل ولم يأمر بشيء من هذا، بل عمل عكس هذا تماماً من الاحتياطات والتحفظات التي ذكرناها، وما أروعها وأنصفها وأوضحها وأكثرها وأبركها على الأمة! ونؤكد هذا بقوله e: "لا تجعلوا قبري عيداً". وفعل أصحابه تنفيذاً لهذا التوجيه السديد وأمثاله؛ حيث دفنوه في حجرته خشية أن يتخذ قبره مسجداً، كما قالته عائشة ورواه الشيخان وغيرهما.
وما كانوا يأتون قبره، كما روى ذلك عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع قال: "كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه وأخبرناه عبدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال معمر فذكرت ذلك لعبيد الله ابن عمر فقال : ما نعلم أحداًًٌََُ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر" .
فهذا الإمام عبيد الله بن عمر من كبار البيت العمري وكبراء علماء المدينة لا يعلم أن أحداًَُ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل مثل فعل ابن عمر من إتيانه قبره صلى الله عليه وسلم للسلام عليه وذلك لأنهم كانوا يكتفون بالسلام عليه عند دخول مسجده وعند خروجهم منه وفي أثناء الصلوات المكتوبة والمسنونة في المساجد والبيوت وغيرها ويكتفون بالصلاة عليه في كل مكان ويعلمون أن من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة واحدة في أي مكان أو زمان صلى الله عليه بها عشراً .
هذا بالإضافة إلى ما سمعوه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيدا ولا تجعلوا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني "
وسمعوه يقول : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " قالت عائشة : يحذر ما صنعوا .
وقال مالك إمام دار الهجرة لما سمع أن أناسا يترددون على قبر النبي صلى الله عليه وسلم : "ما علمت أحدا فعل ذلك ممن مضى ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها".
ولا يجوز للمسلمين أن يغلوا في قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا في قبر غيره فيتشبهوا باليهود والنصارى فيستحقون ما استحقوه من اللعن نعوذ بالله من ذلك
وفق الله الأمة الإسلامية للاحتكام إلى كتاب ربها وسنة نبيها واتباع وسلفها الصالح.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
(1) أقول: لا بُعد فيه إلا أن التعظيم الذي لم يأذن به الله قد يكون شركاً وقد يكون غلواً "وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين".
المصدر مكتبة الشيخ الفوزان