الاهتمام باللغة ، وتحقيقها هو صنيع الاكابر من أجدادنا الاوائل ، فهي لغتنا التي أُنْزِلَ بها القرآن ، و تحدَّثَ بها النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحبُهُ الكرام ، فمن نادى بالرجوع اليهم فلا يغفل عنها ، فهي زينةٌ لم أتقنها ، وأجرٌ لمن احتسب نشرها وبعثها .
ومن هذا الباب ، أحببا نشرَ المعنى الصحيح لكلمةٍ راجتْ على ألْسِنَةِ المثقفين والعوام ، في نطقهم وكتاباتهم ، وهي كلمة : (سائر ) ، فالكثرة الكاثرة يذهبون إلى أن معناها : ( الجميع ) ! فيقولون : ( جاء سائرُ الناس ) أي جميعهم .
وَلِنُعْطِ الكلمةَ حَقَّها من التَّصْحيحِ كما جاء عن اللغويين الأوائل ، واللهُ المُسْتعان .
قال الامام الحافظ أبو موسى الأصفهاني في ( المجموع المُغيث في غريبي القرآن والحديث ) ( 2 / 42 ) :
( سَأَر في الحديث : قال ابن عباس – رضي الله عنهما – : " لا أُوثِرُ بسؤرِكَ أحدا " السؤر – مهموز – فضلُ الشَّراب والطهور ؛ أي لا أتركُه لأحدٍ دوني . .. والعامة تغلط فتضع السائر موضع الجميع ) .
والحافظ يقصد بالعامة أي المثقفين من الخطباء وغيرهم ، لا عامة اليوم الذين ليسوا من أهل العلم ، ومما يؤكد هذا ، تأليفُ الزبيدي كتابَه ( لحن العوام ) اي المثقفين الذين تصدروا للناس .
فقد نصَّ الحافظ الأصفهاني على أن الصواب هو ( بقية ) مأخوذٌ من ( سؤر الشيء ) أي بقيتُه .
قال الجواليقي في ( شرح أدب الكاتب ) ( 48 ) :
( وسائر عند البصريين مأخوذ من سؤر الشيء ، وهو بقيتُه ، فيرون أنَّه يجب أن يقدم قبل هذه الكلمة بعضُ الشيء الذي هي مضافةٌ اليه ، فيقال : ليقتُ الرجل دون سائر بني فلان ، لأن الرجل بعضُهم ... ) .
فالبصريون يذهبون الى أنها بمعنى ( البقية ) ، ووضعوا لها شرطاً كما ذكروه آنفاً .
وقال الحريري ( في درة الغواص ) :
( يقولون: " استوفى سائر الخراج " .
فيستعملون سائراً بمعنى الجميع وهو في كلام العرب بمعنى الباقي والدليل على صحة ذلك أن النبي عليه السلام قال لغيلان حين أسلم وعنده عشر نسوةٍ اختر أربعاً منهن وفارق " سائرهن " . أي من بقي بعد الأربع الائي تختارهن ) .
قال الصفدي في ( الغيث المُسْجَم ... ) ( 1 / 351 ) :
(... وهو مأخوذ من قول عنترة العبسي :
إني امرؤ من خيرِ عبسٍ مَنْصِبَاً
................ نِصْفي ، وأحمي " سائري " بالمنصلِ .
وهذا البيتُ يؤيدُ قولَ مَنْ لَحَّنَ الناسَ في إطلاقهم " سائراً " على معنى الجميع ، وإنما هو بمعنى الباقي ، فمن قال : " قدم سائرُ الحاج " ويريدُ جميعهم ؛ فقد لَحَنَ ... وغالبُ الناس لا يكادُ يسلمُ من هذا اللحن ... ) .
وجاء قول الدكتور الطَّناحي في ( مقالاته ) ( 2 / 659 ) في ثنائه على الشاعر ( علي الجارم ) ، وأنه يقتفي أثر السابقين في استعمال المفردات الفصيحة :
( واستعمال " سائر " بمعنى باقٍ هو الفصيح الأكثر ، مأخوذ من السؤر ، وهو ما يبقى في الإناء ، ويرى بعضُ اللغويين أنه هو الصوابُ ، ولا صوابَ غيره ، يقول مجد الدين بن الأثير : " السائر : الباقي ، والناس يستعملونه في معنى الجميع ، وليس بصحيح " ، ومثلُ ذلك قال ابن الجوزي ، والحريري ، ولكن المرتضى الزبيدي حكى عن بعض أئمة اللغة والتصريف أنه يجوز استعمال " سائر " بمعنى الجميع .
ويستشهد أصحابُ الرأي الأول بشواهد كثيرة من النثر والشعر ، ومن أحلى شواهده ، قولُ عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي ، ويُعْرَفُ بأبي قطيفة :
لهمْ مُنْتَهى حُبْي ، وَجُلُّ مودتي
................ وصفوُ الهوى مني ، وللناسِ "سائرُهْ " ) .
وسننقلُ من كلام أفصح العرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما يدللُ على أنَّ كلمة " سائر " بمعنى ( البقية ) .
أخرج البخاري ومسلم عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ " سَائِرُ " الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) .
فكلمة " سائر " جاءت في كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمعنى ( البقية ) .
أخرج الطبراني في ( الأوسط ) عن عبد الله بن قرط - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة؛ فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله ) .
فكلمة " سائر " هنا بمعنى ( البقية ) .
وأخرج الترمذي عن الرسول – صلى الله عليه وسلم - :
( فضلُ العالم على العابد كفضل القمر على " سائر" الكواكب ) .
وجاء في الصحيحين عن ابي موسى الاشعري – رضي الله عنه - عن النبي – صلى الله عليه وسلم - :
( كمُل من الرِّجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مَريم بنتُ عمران ، و آسية امرأةُ فرعون ، وفضلُ عائشة على النساء كفضل الثريد على "سائر" الطعام ) .
روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: ( كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ، ثُمَّ تَقْتَرِصُ الدَّمَ مِنْ ثَوْبِهَا عِنْدَ طُهْرِهَا، فَتَغْسِلُهُ، وَتَنْضَحُ عَلَى "سَائِرِهِ " ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ ) .
فكلها جاءت في كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمعنى ( البقية ) .
وَلِنَأْخُذ " سائر " في أشعار العرب:
قال ذو الرُّمَّة يصف وُرُوْدَ الحُمُر الوحشية ماءً نائياً :
فَغَلَّسَتْ ، وعمودُ الصُّبْحِ مُنْصَدِعٌ
................ عنها ، " وسائرُهُ " بالليلِ مُحْتَجَبُ .
عيناً مُطَحْلَبَةَ الأرجاءِ طاميةً
............... فيها الضفادعُ ، والحيتانُ تَصْطَخِبُ .
إني امرؤ من خيرِ عبسٍ مَنْصِبَاً
................ نِصْفي ، وأحمي " سائري " بالمنصلِ .
ألمْ تَرَ أنَّ المرءَ تَدْوَى يَمِيْنُهُ
................. فَيَقْطَعُها عمداً لِيَسْلَمَ " سائرُهْ "
وكيفَ تراه بعدَ يُمْناهُ فاعلاً
............... بِمَنْ ليس مِنْهُ حينَ تبدو سرائرُهْ .
ونقل الشهاب الخفاجي في شرحه على درة الغواص ( 9 ) رأيا آخر نسبه إلى أبي علي الفارسي : أن سائر من السير وليس من السؤر ، ومعناه : جماعة يسير فيها هذا الاسم ويطلق عليها .
ولعله اعتمد على قول الأحوص :
فَجَلَتْها لَنا لُبابَةُ لَمَّا
.............. وقَذَ النَّوْمُ " سائِرَ " الحُرَّاسِ .
فالكثرةُ الكاثرةُ في كلام الفصحاء أن كلمة ( سائر ) بمعنى البقية ، وليس الجميع .
....................................
شريف بن سليمان بن صبَّاح الترباني
شبكة سحاب السلفية