فضيلة العلامة محمد بن صالح العثيمين : إن التقرب إلى الله تعالى بذبح الأضاحي من أفضل الأعمال المقربة إلى الله . فقد قرن الله النحر له بالصلاة له ، فقال تعالى : ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ . وقال تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ .
فذبح الأضاحي قربة إلى الله تعالى بنفسه يقصد بها : التعبد لله قبل كل شئ ، ولهذا كان لها حرمات كثيرة .
أيها المسلمون : إن بعض الأخوة الذين يحبون الخير يظنون أن المقصود بالأضاحي ، هو : نفع الفقراء بلحمها ، ولذلك نجدهم في هذه المناسبة يبثون أوراقًا يحثون الناس على أن يأخذوا منهم الأضاحي ليضحوها في أفغانستان ، أو في غيرها من البلاد الفقيرة . ولا أظن هؤلاء إلا يريدون الخير ، ولكنهم أرادوا الخير واجتهدوا ، وأخطأوا في اجتهادهم .
والذي ينبغي للإنسان الذي يريد الخير : أن يجعل إرادته مبنية على قواعد الشريعة حتى لا يضل ولا يضل . إن الدين الإسلامي ليس مبنيًا على العاطفة ، وليس مبنيًا على الهوى : ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ﴾ .
إن الدين الإسلامي مبني على قواعد عظيمة متينة ، وهي ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وإن هذه الدعوى بل هذه الدعاية : أنه يحصل بها فوات مقصود كبير في الأضاحي ، لذلك فإني أنصح أخواني المسلمين ألا يقبلوا هذه الدعاية ، وألا يبعثوا بدراهمهم ليشترى بها أضاحي في أفغانستان أو في غيرها ، بل يضحون بأنفسهم في بلادهم . وإذا أرادوا التبرع لهذه البلاد فإن باب التبرع واسع ، وباب التبرع مفتوح لهم أن يتبرعوا بما شاءوا . أما الشعائر الدينية فإنه يجب أن تكون محترمة معظمة .
أيها المسلمون : إن نقل الأضاحي إلى خارج البلاد يفوت به مصالح كثيرة :
• الأولى : أنه يفوت به إظهار شعيرة من شعائر الله ، وهي الأضاحي فتصبح البلاد معطلة من هذه الشعيرة في بعض البيوت ، وربما أدى ذلك إلى التوسع ، فتعطلت كثير من البيوت من هذه الشعيرة ، ومن المعلوم أن الأضاحي من شعائر الله ، وليس المقصود منها مجرد الإنتفاع باللحم ، قال الله - عز وجل - : ﴿ لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾ .
وفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الأضحية واللحم ، فقال : ( من صلى صلاتنا ونسك نسكنا ، فقد أصاب النسك ، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم ) ، فقال رجل : يا رسول الله : نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( تلك شاة لحم ) . وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( من ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه ، وأصاب سنة المسلمين ) .
فتأمل كيف قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( وأصاب سنة المسلمين ) . ليتبين لك أن هذه طريقة المسلمين أن يضحوا . وأن الأضاحي شعيرة من شعائر الاسلام ، وفي هذه الآية وهذا الحديث دليل واضح على أنه ليس المقصود من الأضاحي مجرد الإنتفاع باللحم ، إذ لو كان الأمر كذلك لم يكن فرق بين المذبوح قبل الصلاة وبعدها .
ويدل لذلك أيضًا أن الأضحية خصت بنوع معين من البهائم ، وهي : الابل ، والبقر ، والغنم ، وقيدت بشروط معينة كبلوغ السن والسلامة من العيوب ، وكونها في أيام النحر ، ولو كان المقصود مجرد الإنتفاع باللحم لأجزأت بكل بهيمة حلال كالدجاج ، والظباء ، ولاجزأت بالصغير من الأنعام ، ولاجزأت بالعضو من البهيمة .
فالأضاحي أيها المسلمون لها شأن كبير في الإسلام ، ولهذا جعل لها حرمات ، فمن أراد أن يضحي فإنه لا يأخذ من شعره ، ولا من ظفره ، ولا من بشرته شيئًا ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك ، ولو كان المقصود بها مجرد التصدق باللحم لم تكن لها هذه الحرمة لأن الإنسان إذا أراد أن يتصدق ولو بالملايين من الدراهم ، ولو بالملايين من الغنم ، والابل ، والبقر فانه لا يحرم عليه أن يأخذ شيئًا من شعره ، ولا من ظفره ولا من بشرته .
إذًا فالاضحية عبادة مقصودة بذاتها ، وانني أقف عند هذه النقطة لأبين حكم ذلك ، فإذا كان الإنسان يريد أن يضحي فإنه لا يأخذ من شعره ، ولا من ظفره ، ولا من بشرته يعني جلده شيئًا . وأما أهل البيت المضحى عنهم فإن لهم أن يأخذوا من ذلك ما شاءوا في الحدود الشرعية ، ولا ينهون عن الأخذ ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى من يضحي ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي عنه ، وعن أهل بيته ، ولم ينقل أنه كان ينهى أهل بيته أن يأخذوا شيئًا من ذلك .
• الثانية : أعني من المصالح التي تفوت إذا نقلت الأضاحي إلى خارج البلاد : مصلحة مباشرة المضحي ذبح أضحيته ، فإن السنة أن يذبح المضحي أضحيته بنفسه تقربًا إلى الله ، واقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يذبح أضحيته بنفسه .
وقد قال أهل العلم : إذا كان المضحي لا يحسن الذبح بنفسه ، فليحضر الذبح .
• الثالثة : من المصالح التي تفوت بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد : شعور المضحي بالتعبد لله تعالى بالذبح نفسه ، فإن الذبح نفسه عبادة عظيمة قرنها الله - عز وجل - بالصلاة في قوله تعالى : ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ . وفي قوله : ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ .
فأين التعبد للإنسان الذي أخرج أضحيته عن بلاده ، ولم يشهدها ، ولم يباشرها بنفسه ؟
أين التعبد الذي يحصل للقلب إذا كانت أضحيتك تذبح في المشرق ، أو في المغرب .
• الرابعة : من المصالح التي تفوت بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد : مصلحة ذكر المضحي اسم الله على أضحيته ، وقد أمر الله - عز وجل - بذكر اسمه عليه فقال : ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ﴾ . وقال تعالى : ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ﴾ . وفي هذا دليل على أن ذبح الأضحية وذكر اسم الله عليها عبادة مقصودة بذاتها ، وأنها من توحيد الله ، وتمام الإستسلام له ، وربما كان هذا المقصود أعظم بكثير من مجرد انتفاع الفقير بها . ومن المعلوم أن من نقلها إلى خارج البلاد لم يحصل له هذا الشعور العظيم الذي به تمام التوحيد والإستسلام لله - عز وجل - .
• الخامسة : من المصالح التي تفوت بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد : مصلحة الأكل من الأضحية ، فإن المضحي مأمور بالأكل من أضحيته إما وجوبًا ، وإما استحبابًا على خلاف في ذلك بين العلماء ، بل أن الله - عز وجل - قدم الأكل منها على إطعام الفقير ، فقال تعالى : ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ . وقال تعالى : ﴿ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ﴾ .
ومن المعلوم أن نقلها إلى خارج البلاد يؤدي إلى عدم الاكل منها ، فيكون الناقل لها مخالفًا لأمر الله ، ويكون آثمًا على قول من قال بوجوب الأكل منها من أهل العلم .
• السادسة : وإذا كانت الأضاحي وصاية ، فإن نقلها قد يفوت به مصلحة سادسة وهي مقصود الموصين ، لأن الموصين لم يكن في بالهم حين أوصوا بالأضاحي إلا أن تتمتع ذريتهم وأقاربهم بهذه الأضاحي ، وأن يباشروا بأنفسهم تنفيذها ، ولم يخطر ببالهم أبدًا أن أضاحيهم ستنقل إلى بلاد أخرى قريبة أو بعيدة ، فيكون في نقل أضاحي الوصايا مخالفة لما يظهر من مقصود الموصين .
ومع فوات هذه المصالح بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد ، فإن فيه مفسدة قد تكون كبيرة جدًا لدى الناظر المتأمل ، ألا وهي أن الناس ينظرون إلى العبادات المالية نظرة اقتصادية محضة ، أو نظرة تعبدية قاصرة بحيث يشعر أنه استفاد منها مجرد الإحسان إلى الغير . مع أن الفائدة الكبرى من هذه العبادات المالية هي التعبد لله ، وابتغاء مرضاته ، والتقرب إليه بحيث يشعر الانسان أنه بهذا الفعل متعبد لله متقرب إليه لا مجرد أنه محسن إلى أخيه ونافع له ، لأن العبادات المالية المتعدية للغير لها جهتان : جهة تعبد لله تعالى ، وجهة احسان إلى الغير ، والجهة الاولى أعظم وأحق بالمراعاة من الجهة الثانية .
اذًا فنقل الأضاحي إلى أفغانستان أو إلى غيرها من البلاد المحتاجة تفوت به ست مصالح : تفوت به إظهار شعيرة الأضحية ، ويفوت به ذبح المضحي أضحيته بنفسه أو حضوره ذبحها ، ويفوت به شعور المضحي بالتعبد لله بالذبح نفسه ، ويفوت به ذكر المضحي اسم الله على أضحيته ، ويفوت به الأكل من الأضحية الذي قدمه الله على إطعام الفقير . وقال بعض العلماء بوجوبه ، ويفوت به أن كانت الأضحية وصية ما يظهر من مقصود الموصين .
وبالاضافة إلى فوات هذه المصالح يحصل به مفسدة نظر الناس إلى العبادات المالية المتعدية للغير نظرة اقتصادية محضة ، وهذا بلا شك يخل بجانب التعبد .
فيا عباد الله أوصيكم ، ونفسي بتقوى الله - عز وجل - ، وألا نقدم على أمر إلا إذا وزناه بميزان الكتاب والسنة حتى نكون بذلك على بصيرة من الله وعلى بينة وبرهان .
وإني اقول أخيرًا كما قلت أولاً : لا تبذلوا دراهم لتضحوا في أفغانستان ولا غيرها ، ولكن ضحوا في بلادكم ، وعلى مشهد من أهليكم : ضحوا لأنفسكم ، وضحوا لأهليكم ، أما أفغانستان ، وغيرها من البلاد الاخرى المحتاجة إلى معونتكم فإني أحثكم على معونتهم بقدر ما تستطيعون .
فالمعونة شئ ، والعبادات شئ آخر . والأضحية عبادة لا ينبغي للإنسان أن يخل بها .
أسأل الله تعالى أن يجعلني واياكم ممن يعبد الله على بصيرة ، وممن يدعو اليه على بصيرة .