أبو عمر أسامة العتيبي : الحمد لله، والصلاة والسلام عَلَى رسول الله أما بعد:
فَإِنَّ مشروعية صلاة الجماعة فِي المساجد مما لا خلاف فيه بين العلماء، وكذلك وجوبها عَلَى الرجال الخالين من الأعذار المبيحة لترك الجماعة هُوَ الحق والصواب.
وقد اشتهر بين جماعة من العلماء أن جمهور العلماء وغالبهم عَلَى القول بسنية صلاة الجماعة فِي المساجد عَلَى الرجال الخالين من الأعذار المبيحة لترك صلاة الجماعة فِي المساجد، وهذا فيه نظر لما سأذكره إن شاء الله ..
فأحببت ذكر هذه الفوائد الَّتِي قد تغيب عَلَى كثير من طلبة العلم..
وأدلة وجوب صلاة الجماعة مشهورة معلومة، مبسوطة فِي كتب الفقه وسأذكر بعضها أثناء ذكر الفوائد.
أولاً: نقل بعض العلماء الإجماع أو إجماع الصحابة عَلَى وجوب صلاة الجماعة حَيْثُ ينادى بها، ومن الأماكن الَّتِي هِيَ موطن النداء بها: المساجد.
قَالَ العلامة ابن القيم رحمه الله فِي كتاب الصلاة وحكم تاركها(ص/153) : "الدليل الثاني عشر-أَيْ: من أدلة وجوب صلاة الجماعة-: إجماع الصحابة رضي الله عنهم" ثم ذكر بعض نصوصهم، ثم قَالَ: "فهذه نصوص الصحابة كما تراها صحة وشهرة وانتشاراً، ولم يجيء عن صحابي واحد خلاف ذَلِكَ، وكل من هذه الآثار دليل مستقل في المسألة لو كان وحده، فكيف إذا تعاضدت وتضافرت؟! وبالله التوفيق"
وَلَيْسَ ابن القيم أول من حكى الإجماع، فقد حكاه قبله الإمام البغوي وَهُوَ من أئمة الشافعية وأحد كبار مجتهدي الأمة.
قَالَ فِي شرح السُّنَّة(3/348) : "اتفق أهل العلم على أنه لا رخصة في ترك الجماعة لأحد إلا من عذر"
2- المشهور عن الحنفية أن صلاة الجماعة سنة، وهذا إما غلط عليهم وأظن أن أول من غلط عليهم فِي ذَلِكَ هُوَ الكرخي منهم، والصحيح من مذهبهم أنها واجبة، وإما أنه صحيح عنهم وهم فِي الوقت نفسه يؤثمون تاركها مما يجعل الخلاف معهم لفظياً ويكون قولهم موافقاً لقول من قَالَ بوجوبها، فلا يَصِحُّ نسبة مذهب الحنفية لغير القول بالوجوب أو بما يقتضيه أو يلزم منه ذَلِكَ.
قَالَ الكاساني(1) المتوفى سنة 587هـ فِي بدائع الصنائع فِي ترتيب الشرائع(1/155) : "قال عَامَّةُ مَشَايِخِنَا إنها وَاجِبَةٌ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أنها سُنَّةٌ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ((صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ على صَلَاةِ الْفَرْدِ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً))، وفي رِوَايَةٍ: ((بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً)) جَعَلَ الْجَمَاعَةَ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ وَذَا آيَةُ السُّنَنِ .
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ-يعني عامة علماء الحنفية-: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَتَوَارُثُ الْأُمَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَارْكَعُوا مع الرَّاكِعِينَ} أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالرُّكُوعِ مع الرَّاكِعِينَ وَذَلِكَ يَكُونُ في حَالِ الْمُشَارَكَةِ في الرُّكُوعِ فَكَانَ أَمْرًا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فما رُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ((لقد هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأَنْصَرِفَ إلَى أَقْوَامٍ تَخَلَّفُوا عن الصَّلَاةِ فَأُحَرِّقَ عليهم بُيُوتَهُمْ)) وَمِثْلُ هذا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ
وَأَمَّا تَوَارُثُ الْأُمَّةِ: فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هذا وَاظَبَتْ عليها وَعَلَى النَّكِيرِ على تَارِكِهَا وَالْمُوَاظَبَةُ على هذا الْوَجْهِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ.
وَلَيْسَ هذا اخْتِلَافًا في الْحَقِيقَةِ بَلْ من حَيْثُ الْعِبَارَةُ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ خُصُوصًا ما كان من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَرْخِيَّ سَمَّاهَا سُنَّةً ثُمَّ فَسَّرَهَا بِالْوَاجِبِ فقال الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ لَا يُرَخَّصُ لِأَحَدٍ التَّأَخُّرُ عنها إلَّا لِعُذْرٍ وهو تَفْسِيرُ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْعَامَّةِ".
وَقَالَ ابن نجيم المتوفى سنة 970هـ فِي البحر الرائق شرح كنز الدقائق(1/365) : "وَأَمَّا صِفَتُهَا فما ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ) أَيْ قَوِيَّةٌ تُشْبِهُ الْوَاجِبَ في الْقُوَّةِ.
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الْوُجُوبُ وَنَقَلَهُ في الْبَدَائِعِ عن عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَذَكَرَ هو وَغَيْرُهُ أَنَّ الْقَائِلَ منهم أنها سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ليس مُخَالِفًا في الْحَقِيقَةِ بَلْ في الْعِبَارَةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ خُصُوصًا ما كان من شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ.
وَدَلِيلُهُ من السُّنَّةِ الْمُوَاظَبَةُ من غَيْرِ تَرْكٍ مع النَّكِيرِ على تَارِكِهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ في أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ.
وفي المجتبى: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالتَّأْكِيدِ الْوُجُوبَ لِاسْتِدْلَالِهِمْ بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ بِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ
وَصَرَّحَ في الْمُحِيطِ بِأَنَّهُ لَا يُرَخَّصُ لِأَحَدٍ في تَرْكِهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ حتى لو تَرَكَهَا أَهْلُ مِصْرٍ يُؤْمَرُونَ بها فَإِنْ ائْتَمَرُوا وَإِلَّا يَحِلُّ مُقَاتَلَتُهُمْ وفي الْقُنْيَةِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّهُ يَجِبُ التَّعْزِيرُ على تَارِكِهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ وَيَأْثَمُ الْجِيرَانُ بِالسُّكُوتِ" انتهى.
3- المشهور عن المالكية القول بالسنية، وكثير منهم لا يؤثمون بتركها، ولكن المعتمد عندهم أنها سنة مؤكدة، ولا يجوز تركها بدون عذر فيلتقي قولهم مع من يقول بالوجوب.
قَالَ العلامة ابن جُزَي فِي القوانين الفقهية(ص/48) : "وهي في الفرائض سنة مؤكدة، وأوجبها الظاهرية.
ويجوز تركها لعذر المطر والريح العاصف بالليل والمرض والتمريض والخوف من السلطان أو من الغريم وهو معسر أو لخوف القصاص وهو يرجو العفو وللجوع فيبدأ بالطعام" .
فلو كانت سنة لما خص جواز تركها بالعذر.
وقد قَالَ العلامة ابن القيم فِي كتاب الصلاة وحكم تاركها(ص/137) : "وقالت الحنفية والمالكية هي سنة مؤكدة ولكنهم يؤثمون تارك السنن المؤكدة ويصححون الصلاة بدونه والخلاف بينهم وبين من قال إنها واجبة لفظي".
4- قَالَ الإمام الشافعي فِي كتاب الأم(1/154) : "فَلَا أُرَخِّصُ لِمَنْ قَدَرَ على صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ في تَرْكِ إتْيَانِهَا إلَّا من عُذْرٍ".
وقد سبق نقل كلام الإمام محيي السُّنَّة البغوي رحمه الله –وَهُوَ من أئمة الشافعية- اتفاق العلماء عَلَى أنه لا رخصة في ترك الجماعة لأحد إلا من عذر.
5- قَالَ فِي إعانة الطالبين(2/2) نقلاً عن الشعراني: "وقد كان السلف يعدون فوات صلاة الجماعة مصيبة.
وقد وقع أن بعضهم خرج إلى حائط له -يعني حديقة نخل- فرجع وقد صلى الناس صلاة العصر فقال: إنا لله، فاتتني صلاة الجماعة، أشهدكم علي أن حائطي على المساكين صدقة(2).
وفاتت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما صلاة العشاء في الجماعة فصلى تلك الليلة حتى طلع الفجر جبراً لما فاته من صلاة العشاء في الجماعة(3).
وعن عبيد الله بن عمر القواريري رحمه الله تعالى قَالَ: لم تكن تفوتني صلاة في الجماعة، فنزل بي ضيف فشغلت بسببه عن صلاة العشاء في المسجد، فخرجت أطلب المسجد لأصلي فيه مع الناس فإذا المساجد كلها قد صلى أهلها، وغلقت. فرجعت إلى بيتي وأنا حزين على فوات صلاة الجماعة فقلت: ورد في الحديث إن صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفذ سبعا وعشرين ، فصليت العشاء سبعاً وعشرين مرة، ثم نمت فرأيتني في المنام على فرس مع قوم على خيل وهم أمامي، وأنا أركض فرسي خلفهم فلا ألحقهم، فالتفتَ إِلَيَّ واحد منهم وَقَالَ: تتعب فرسك فلست تلحقنا!
فقلت: وَلِمَ يا أخي؟ قَالَ: لأنا صلينا العشاء في الجماعة وأنت قد صليت وحدك، فاستيقظت وأنا مهموم حزين ( 4 ) .
وقال بعض السلف: ما فاتت أحداً صلاةُ الجماعة إلا بذنب أصابه ( 5 ) .
وقد كانوا يعزون أنفسهم سبعة أيام إذا فاتت أحدهم صلاة الجماعة، وقيل: ركعة، ويعزون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبيرة الأولى مع الإمام.
فاعلم ذلك يا أخي.اهـ.
وقد حصل للقاضي ابن سماعة الحنفي قَالَ الصفدي في الوافي بالوفيات(3/116) : "قَالَ-يعني ابن سماعة-: مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوماً واحداً، ماتت فيه أمي فاتتني صلاة الجماعة، فقمت فصليت خمساً وعشرين صلاة أريد بذلك الضعف، فنمت فقيل لي: قد صليت، ولكن كيف لك بتأمين الملائكة؟!".
وفي الزواجر عن ارتكاب الكبائر للهيتمي(1/277) : "وقال حاتم الأصم: فاتتني مرة صلاة الجماعة، فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لَعَزَّانِي أكثر من عشرة آلاف نفس، لأن مصيبة الدِّيْنِ عند الناس أهون من مصيبة الدنيا".
فأسأل الله أن يعيننا عَلَى ذكْرِهِ وشكره وحسن عبادته، وأن يوفقنا للمحافظة عَلَى صلاة الجماعة فِي بيوت الله .
والله أعلم وصلى الله وسلم عَلَى نبينا محمد
كُتب فِي شهر رمضان المبارك عام 1424هـ
-------------------------------------------------------------
( 1 ) كتاب بدائع الصنائع فِي ترتيب الشرائع شرح للكتاب المعروف بـ"تحفة الفقهاء" للعلامة علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي.
ولما أتم الكاساني تأليف كتاب البدائع عرضه على شيخه السمرقندي فاستحسنه وزوجه ابنته فاطمة الفقيهة.
فقال علماء عصره: شرح تحفته وتزوج ابنته!! انظر: طبقات الحنفية(2/244).
( 2 ) ذُكِرَ ذَلِكَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويحتاج تخريجه إلى مزيد بحث.
( 3 ) رَوَاهُ أبو يعلى فِي معجمه(ص/50رقم18) ، وأبو نعيم فِي حلية الأولياء(1/ 303) وغيرهما وسنده صحيح.
( 4) رَوَاهُ الخطيب فِي تاريخ بغداد(10/ 320) ، وروى أبو نعيم فِي حلية الأولياء(6 / 185) نحوه عن غالب القطان.
ولا ينبغي تكرار قضاء الفريضة فَهُوَ مخالف للسنة، وَالسُّنَّة أن من حصل عنده قصور فِي الفرائض فَإِنَّهُ يتمم ذَلِكَ بكثرة النوافل.
( 5 ) روى ابن عساكر فِي تاريخ مدينة دمشق(34/141) عن أبي سليمان الداراني قَالَ: أقمت عشرين سنة لم احتلم، فدخلت مكة فأحدثت فيها حدثاً، فما أصبحت حتى احتلمت! فقلت له: وأيش كان الحدث؟ قَالَ: فاتتني صلاة العشاء في جماعة.