باب من رخص الشارع له في الإفطار ن : ورخصة الشارع في الإفطار*****في الســفر اقبــلها بــلا إنكـــار والخلف في الأفضل والنص يـدل ***** أن الــذي يقــرب لليسر فضــل إن تســــــاويا بتيســـــــيرفــــــلا *****تفضــيل بــل أيهمــا شــا فعــلا ش : هذه الأبيات الثلاثة تتعلق بصنف من الأصناف الذين رخص الشارع لهم في الفطر ، وهم المسافرون سفر طاعة وقد جرى الخلاف بين أهل العلم في هذه المسألة كما سيأتي : فقوله : ورخصة الشارع في الإفطار *****في السفر اقبلها بلا إنكار معناه : أن الإفطار في السفر في نهار رمضان رخصة من الله لعباده ينبغي للمسلمين أن يأخذوا بها مغتبطين وشاكرين ربهم على نعمته ورحمته ، ولا يجوز لهم أن يقابلوها بالرد لها والإعتراض عليها ؛ لأن فيها تيسيرا ورحمة ونفيا للحرج والمشقة وما كان كذلك فهو حري بالمحبة والقبول . ففي البيت الثاني والثالث توضيح للخلاف الحاصل بين العلماء ، وهذه المسألة من حيث وجوب الفطر أو استحبابه أو أفضلية الصوم أو عكسه أو استواء الأمرين تحتاج إلى تحرير سأختصره فيما يلي : 1 : ذهب الجمهور من أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة إلى جواز الصوم والفطر في السفر ، واستدلوا على ذلك بأدلة صريحة أذكر منها مايلي : ا - قوله تعالى : (( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر )) . ب : ما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها : " أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أأصوم في السفر ؟ وكان كثير الصيام - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئت فصم وإن شئت فأفطر " . ج - وفي الموطأ والصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال :" سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم " . د - ما أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه قال :" كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم " . فهذه النصوص تدل على جواز الأمرين على حد سواء وهو أمر متفق عليه بين الأئمة الأربعة ، وإنما اختلفوا في الأفضل منهما ، فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أفضلية الصوم لمن لا يلحقه مشقة لئلا يبقى دينا على صاحبه ، وذهب الإمام أحمد وسعيد بن المسيب والأوزاعي وإسحاق إلى أن الفطر أفضل ولو لم يلحق الصائم مشقة وكلفة ، ومن أمعن النظر في نصوص الباب ترجح لديه ما ذهب إليه هؤلاء الأربعة وذلك للأدلة الآتية : ا - حديث :" إن الله يحب أن تؤتى رخصه ، كما يحب أن تؤتى عزائمه ." ب - حديث :" عليكم برخصة الله التي أرخص الله لكم فاقبلوها " رواه الطبراني بإسناد حسن . ج - ما رواه الشيخان عن جابر بن عبد الله قال :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : صائم ، فقال : ليس من البر الصوم في السفر ." ففي هذه النصوص ترغيب في الأخذ بالرخصة على أي حال سواء حصلت مشقة أم لم تحصل لأن الرخصة أمر محبوب إلى الله فينبغي للمؤمن أن يحب ويتفاعل مع ما يحبه الله ويرضاه . 2 - وذهب جماعة من السلف مذهب التشديد البعيد عن الصواب كالزهري والنخعي ومن وافقهما : فقالوا : ولو صام المسافر في سفره فإنه لا يجزئه بل لابد من القضاء وقت الإقامة واستدلوا بالآية الكريمة ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر )) وهذا مذهب الظاهرية . 3 - وذهب جماعة من العلماء منهم عمر بن عبد العزيز أن أفضلهما أيسرهما فمن يسهل عليه حينئذ ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل . 4 - وذهب آخرون إلى التخيير مطلقا عملا بحديث :" فمنا الصائم ومنا المفطر " . هذه أشهر الآراء في هذه المسألة ، وقد علمت الراجح منها بدليله كما ظهر لنا ، ومن ظهر له رأي آخر بدليله واقتنع به فليقل به ولا تثريب عليه يغفر الله لنا وله وهو أرحم الراحمين وخير الغافرين . هذا التفصيل الذي رأيت في غير وقت ملاقاة العدو أو خشية الضعف الذي يلحق بسببه ضرر ، أما إذا كان المسلم في معركة مع العدو أو قرب وقت خوضها أو يخاف ضعفا يؤثر على قوته فإنه والحالة هذه يتحتم عليه الفطر ولا خيرة له في الأمر كي يكون قويا ونشيطا في وجه العدو ، وإلى هذه العزيمة أشار الناظم بقوله : وقد روى عزيمة الفطر إذا *****حان اللقاء خشية الضعف خذا وقد اعتمد الناظم في ذلك على ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه قال :" سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام قال : فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم ، فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر ، ثم نزلنا منزلا آخر فقال : إنكم مصّبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا ، فكانت عزمةفأفطرنا ، ثم رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ." أما مقدار السفر الذي يباح فيه الفطر : فهو السفر الذي تقصر فيه الصلاة ،وقد اختلف العلماء اختلافا كثيرا في تحديده ، والخلاصة أن الشارع أطلق السفر ونحن نتأس به فنطلقه ، فما عُدّ سفرا أبيح فيه الرخص السفرية ، وقد بحثت التحديدات والإستدلالات لها ووقت الإقامة في كتاب الصلاة . ن : وهكذا المريض قد رخص له *****ومثله من لم يطق تحملــه لضـــــعفه كحـــامل ومرضــــــع *****وهكـذا الكبير فاحفظـــه وع وحـــائض والنفســا قــد قدمــــا *****في الباب أنه عليهما حرما ش : في هذه الأبيات الثلاثة ذكر بقية الأصناف الذين يجوز لهم الفطر في نهار رمضان كما جاز للمسافر سفر طاعة أن يفطر كذلك ، وهم كمايلي : 1 - المرضى من ذكر وأنثى فقد رخص الله لهم في قوله الحق ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر )) أي : فأفطر فعليه قضاء الأيام التي أفطرها في نهار رمضان سواء بسبب مرضه أو بسبب سفره . 2 - الحامل والمرضع لهما الرخصة في الفطر وعليهما القضاء لما روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن أنس بن مالك :" أن رجلا من بني عبد الله بن كعب قال : أغارت علينا خيل رسول صلى الله عليه وسلم فأتيت رسول الله صلى الله عله وسلم فوجدته يتغذى فقال : ادن فكل ، فقلت : إني صائم ، فقال : ادن أحدثك عن الصوم أو الصيام إن الله - تبارك وتعالى - وضع عن المسافر شطر الصلاة ، وعن الحامل والمرضع الصوم أو الصيام . والله لقد قالهما النبي صلى الله عليه وسلم كليهما أوأحدهما فيا لهف نفسي ألّ أكون طعمت من طعام النبي صلى الله عليه وسلم " . قال الترمذي هذا حديث حسن والعمل عليه عند أهل العلم أن الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما تفطران وتقضيان ، وقد اختلف الفقهاء مع القضاء كفارة أم لا ؟ ا - فذهب جماعة إلى القول بوجوب الإطعام مع القضاء ومقداره عن كل يوم مد لمسكين ، روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وهو قول الشافعي وأحمد . ب - وذهب آخرون إلى القول بوجوب القضاء بدون إطعام إذ لا نص يوجبه وهما بمنزلة المريض وهذا قول الأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي . ج - وفصل بعضهم فقال : إن خافتا على ولديهما قضتا وأطعمتا ، وإن خافتا على نفسيهما قضتا فقط ، لأنهما في حكم المريض سواء بسواء . د - وأبعد النجعة إسحاق بن راهوية فقال : إن شاءتا أطعمتا ولا قضاء عليهما وإن شاءتا قضتا ولا إطعام عليهما . والذي أستحسنه هو الأخذ بالقول الأول خروجا من الخلاف واحتياطا في العبادة ، وهذا معنى قول الناظم : وهكذا المريض قد رخص له *****ومثله من لم يطق تحمله لضـــعفه كحـــامل ومرضـــع *****................................ فقوله : .............................*****وهكذا الكبير فاحفظه وع 3 - الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة اللذان لا يطيقان الصوم ومثلهما المريض الذي لا يرجى برؤه فهؤلاء يطعم عن كل واحد عن كل يوم مسكينا ، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين )) أنها ليست بمنسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا ، وإلى هذا الحكم أشار الناظم بقوله : ..................*****وهكذا الكبير فاحفظه وع أي : ومثل ما تقدم ذكرهم ممن رخص لهم في الإفطار في نهار رمضان الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة ويقاس عليهما المريض الذي لا يرجى برؤه ، فاحفظ الأحكام وعها تكن فقيها فيها . 4 - الحائض والنفساء لهما الرخصة الشرعية في الفطر بل فطرهما واجب ؛ إذ لا يصح الصوم منهما في حال الحيض والنفاس ولا يجزىء عنهما كما مر معنا في أول الباب عند قول الناظم : واستثن من ذا من يكن معذورا*****شرعا ويأتي حكمهم مذكورا وقال هنا : وحائض والنفسا قد قدما *****في الباب أنه عليهما حرما باب ما يلزم كل واحد ممن ذكر ن : ومفطر في مرض أو للسفر ***** علـــيه عدة مــن أيام أخــر تصـــح بالســــرد وبالتــــــفريق *****والسرد قد أوجب عن فريق كـــــذاك ذات الحيــض والنـــفاس *****حـــتم قضاؤها بـــلا التـباس وعاجـــز عــن القضا بالصــوم *****يطعــــم مســــكينا لكــل يـوم وحــامل ومرضــع هــل تطعــم *****أو تقض أو تجمع خلــف لهم ش : في هذه الأبيات بيان لما يلزم من رُخَّص لهم في الفطر في نهار رمضان بالتفصيل ، فأما المسافر فإنه يلزمه قضاء الأيام التي أفطرها من الشهر امتثالا لقول الله تعالى ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر )) وقد اختلف العلماء في كيفية القضاء : هل يلزم فيه التتابع أو يجوز فيه التتابع والتفريق ، فذهب إلى الأول جماعة من السلف كعائشة رضي الله عنها وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما وهو أحد قولي الشافعي ، واستدلوا بما رواه الدارقطني وقال : إسناده صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : نزلت : " فعدة من أيام أخر متتابعات " فسقطت متتابعات . وذهب إلى الثاني الجمهور من السلف والفقهاء واستدل لهم بأن الآية الكريمه أطلقت أيام القضاء ولم تقيدها بالتتابع في القراءة المتواترة التي وقع عليها الإجماع ، وهو الحق الذي يتفق مع يسر الدين وسماحة الشريعة. وقد أجابوا عن حديث عائشة بجوابين : الأول : قولها عن كلمة " متتابعات " أنها سقطت . والثاني : اختلاف العلماء في الإحتجاج بقراءة الآحاد كهذه القراءةالتي قال فيها الإمام مالك : أنها قراءة أبي بن كعب . هذا مع اتفاق الجميع أن التتابع أفضل ؛ لأن فيه خروجا من الخلاف وتعجيلا بالوفاء بالدين ، وإلى ذلك أشار الناظم بقوله : ومفطر في مرض أو للسفر *****عليه عدة من أيام أخر تصح بالسرد وبالتفريق *****والسرد قد أوجب عن فريق وأما ذات الحيض والنفاس فليس عليها إلا القضاء فقط لما روى الجماعة عن معاذة قالت : سألت عائشة رضي الله عنها فقلت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ قالت :" كان يصيبنا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة " : وإلى هذا المعنى أشار الناظم بقوله : كذاك ذات الحيض والنفاس *****حتم قضاؤها بلا التباس وأما العاجز عن الصيام : سواء بكبر أو مرض لا يرجى برؤه وسواء كان الصيام أداء أم قضاء فعليه أن يطعم أو يُطعم عنه غيره عن كل يوم مسكينا ولا قضاء إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . وأما الحامل والمرضع : فقد تقدم تفصيل القول فيما يجب عليهما ، وذكر الخلاف فيه في الباب الذي قبل هذا . وإلى هذين الصنفين وما يجب عليهما أشار الناظم بقوله : وعاجز عن القضا بالصوم *****يطعم مسكينا لكل يوم وحامل ومرضع هل تطعم *****أو تقض أو تجمع خلف لهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ ن : وجاء في من للقضا يؤخر *****حتى أتاه رمضان الآخر عن فرقة من الصحابةالقضا ***** مع فدية الإطعام عنهم حفظا ش :في هذين البيتين بيان حكم من أخر قضاء ما فاته من شهر رمضان من غير عذر حتى دخل عليه شهر رمضان من قابل ، فإن عليه أن يصوم الشهر الذي حدث ، فإذا انتهى منه فعليه أن يشرع في قضاء ما فاته من شهر رمضان الماضي ، وعليه عند الجمهور كفارة إطعام مسكين مع كل يوم . أثر ذلك عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وعطاء ، والقاسم بن محمد ، وبه قال الزهري ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وقال جماعة آخرون : عليه القضاء فقط بدون فدية ، إذ لا دليل على وجوبها أو مشروعيتها من كتاب ولا سنة . أثر هذا القول عن الحسن البصري ، وإبراهيم النخعي ، والبخاري ، وأصحاب الرأي . والقول الأول هو الراجح لما يؤيده من آثار عن السلف. ن : ومفطر يوما بدون عذر *****لم يقضه عنه صيام الدهر ش : في هذا البيت بيان للخطر العظيم الذي يقع فيه من يتعمد الفطر في نهار رمضان وأنه مهما صام ليقضى ما فاته عمدا فلن يتسنى له التمام والوفاء كمن أفطر معذورا وقضى من أيام أخر . قال البخاري - رحمه الله - :باب إذا جامع في رمضان ، ويذكر عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه :" من أفطر يوما من رمضان من غير علة ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه " . وبه قال ابن مسعود ، ورواية البخاري هذه وإن كانت معلقة إلا أنها تشهد لما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه صوم الدهر وإن صامه " . غير أن العلماء مجمعون على أنه يقضي يوما مكانه وكذا حديث :" انظروا هل لعبدي من تطوع " الحديث يبشر بخير وقد تقدم باب صوم التطوع ن: يشرع صوم الست من شوال *****وعشر ذي الحجة باستكمال لا سيــــما تـــاسعها تـــأكــــــــدا *****لغــــير أهـل الحج نصّا وردا وتـــاسع وعــــــاشر المحـــــرم *****بل كله بل صوم كل الحـــرم كـــــذا ثلاثـــــة بـــــكل شـــــــهر***** وفعلها في البيض خير فادر كــــذاك كل اثــنين أو خمـــيس قد *****سن صيامه بـــنص لا يــرد ش : في هذه الأبيات الخمسة بيان لأيام معلومات وأشهر كريمة رغب النبي صلى الله عليه وسلم في صيامها احتسابا لوجه الله ، ففي الشطر الأول من البيت الأول ترغيب في صيام ستة أيام من شهر شوال فقد جاء بيان فضلها والترغيب في صومها في حديثين ثابتين : الأول : ما رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي عن أبي أيوب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فذاك صيام الدهر " . ورواه أحمد من حديث جابر بن عبد الله . الثاني : ما رواه ابن ماجه عن ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من صام رمضان وستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة ، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " . ففي هذين الحديثين دليل قائم على مشروعية صيام ستة أيام من شهر شوال سواء متواليات أو متفرقات وبيان ما يترتب عليها من الأجر العظيم ويكفي أنها تعدل صيام الدهر ووجه ذلك أن الحسنة كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى بعشر أمثالها ، فرمضان بعشرة أشهر وستة أيام بشهرين وذلك تمام السنة ، وقد قال بالاستحباب الجمهور من أهل العلم سلفا وخلفا ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة ومالك - رحمهما الله - حيث كرها صيامها ظنا منهما أن صيامها يسبب التباسا على الأمة فيظنوا أنها من رمضان ، وهي نظرة منهما من زاوية بعيدة عن الصواب كيف لا وهو رأي منهما في مقابلة السنة الصحيحة ، وكل رأي يتعارض مع النصوص الصريحة فإنه يجب أن يطرح ، والعمل بما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم هو المتعين ، وبه كلّفت البشرية وعنه تُسأل . وفي قوله : .............................. *****وعشر ذي الحجــة باستكمــال لا سيــــما تـــاسعها تـأكـدا ***** لغير أهل الحج نصّا وردا أي : من الأيام الفاضلةالتي يستحب أن يكثر فيها المسلم من أعمال الخير ومن جملتها الصوم تطوعا : عشر ذي الحجة ؛ فقد أتى الترغيب في العمل الصالح فيها عموما وفي صيام يوم التاسع منها لمن لم يكن بعرفة وما في ذلك من الأجر والثواب . فقد روى الجماعة إلا مسلما والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام - يعني : أيام العشر - قالوا : يا رسول الله ، ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله ؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله ، ثم لم يرجع بشيء من ذلك ." قلت : ومن جملة الأعمال الصالحة الصوم ، كما روي أيضا في مشروعية استكمالها صياما ما رواه أحمد والنسائي من حديث حفصة قالت : " أربع لم يكن يدعها رسول الله صلى الله عليه وسلم : صيام عاشوراء ، والعشر ، وثلاثة أيام من كل شهر ، والركعتين قبل الغداة " وفيه ضعف . وثبت الترغيب في صيام يوم عرفة خاصة وهو اليوم التاسع من ذي الحجة ولكن لغير الحاج فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة ، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية " . وأما الحاج فينبغي له أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أسوته فإنه كان مفطرا يوم عرفة وفعله تشريع لأمته ، والتأسي به في ترك صوم عرفة لمن هو بها أولى ، فقد روت أم الفضل :" أن الناس شكّوا في صوم النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ، فأرسلت إليه بلبن فشرب وهو يخطب الناس بعرفة " متفق عليه . وقد روى أحمد وغيره حديثا في النهي الصريح عن صوم يوم عرفة من كان بها ، ولفظه :عن أبي هريرة رضي الله عنه :" أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة " إلا أنه معلول ؛ لأن في إسناده مهدي بن حرب الهجري وهو مجهول ،و رواه العقيلي في الضعفاء من طريقه وقال : لا يتابع عليه ، أما ابن خزيمة والحاكم فقد صححاه، وإلى ما تقدم في هذا الباب أشار الناظم بقوله : يشرع صوم الست من شوال *****وعشر ذي الحجة باستكمال لاسيـــما تــاسعها تــأكــــــدا ***** لغـير أهل الحج نصّــا وردا قوله :" وتاسع وعاشر المحرم : أي : أنه يستحب للمسلم أن يحافظ عل صيام يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من شهر الله المحرم ، وكذا اليوم التاسع ، فإن لم يتيسر صوم التاسع صام يوما بعد العاشر مباشرة . وقد وردت نصوص على استحباب صيام يوم عاشوراء ويوما قبله أو يوما بعده فمن ذلك : ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :" قدم النبي صلى الله عليه وسلم فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال : ما هذا ؟ قالوا : يوم صالح نجّى الله فيه موسى ، وبني إسرائيل من عدوهم ، فصامه موسى ، فقال : أنا أحق بموسى منكم ، فصامه ، وأمر بصيامه ." ومنها : قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس :" فإذا كان العام المقبل صمنا يوم التاسع إن شاء الله ، قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم . ومنها : ما جاء عن ابن عباس موقوفا بسند صحيح :" صوموا اليوم التاسع والعاشر وخالفوا اليهود " ، رواه عبد الرزاق ( 7839 )ومن طريقه البيهقي ( ج 4 ص 287 ) . وقوله : .............................. *****بل كله بل صوم كل الحرم أي : أنه يستحب الإكثار من الصوم تطوعا في شهر الله الحرام ، بل إنه ليستحب للمسلم إن وجدت لديه القوة أن يصوم معظم الأشهر الحرم ؛ وذلك لما لها من الفضل ، ولما في الصيام فيها من عظيم الأجر ، والدليل عل استحباب الصوم في شهر الله المحرم ما أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم " . وأما الدليل على استحباب الإكثار من نافلة الصوم في الأشهر الحرم فما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيدهم عن رجل من باهلة قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أنا الرجل الذي أتيتك عام الأول ، قال : فما لي أرى جسمك ناحلا ؟ قال : يا رسول الله ، ما أكلت طعاما بالنهار ، ما أكلته إلا بالليل ، قال : من أمرك أن تعذب نفسك ؟ قلت : يا رسول الله ، إني أقوى ، قال : صم شهر الصبر ويوما بعده، قلت : إني أقوى ، قال : صم شهر الصبر ويومين بعده ، قلت : إني أقوى ، قال : صم شهر الصبر وثلاثة أيام بعده وصم أشهر الحرم ." ففي هذين الحديثين ترغيب في أداء فريضة صوم رمضان والتقرب إلى الله بعد ذلك بنوافل الصوم في الأشهر الحرم التي هي : رجب وذي القعدة وذي الحجة والمحرم، غير أنه لا ينبغي أن يصوم المتطوع الشهر كاملا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يصوم شهرا كاملا إلا رمضان الذي فرضه الله على أمة الإسلام ، فيجب التأسي به فيكون معنى الأمر بصيام الأشهر الحرم صيام معظمها كما في رواية أبي داود التي فيها :" صم من الحرم واترك ، صم من الحرم واترك ، صم من الحرم واترك ." وقوله : كذا ثلاثة بكل شهر *****وفعلها في البيض خير فادر أي : ويستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر فإن ذلك يعدل صيام الدهر ، كم جاء مصرحا به في حديث أبي ذر الذي رواه الترمذي وابن ماجه بلفظ :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر ، فأنزل تصديق ذلك في كتابه ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها )) [ سورة الأنعام 160 ] . اليوم بعشرة ، وكون هذه الثلاثة الأيام أيام البيض أفضل دلّ عليه حديث أبي ذر أيضا عند أحمد والنسائي بلفظ :" من كان منكم صائما من الشهر ثلاثة أيام فليصم الثلاث البيض " غير أنه إذا صامها متقدمة أو متأخرة فقد جاء بالسنة التي يترتب عليها الثواب المنصوص عليه في حديث أبي ذر المتقدم ، بدليل ما رواه مسلم والترمذي من حديث معاذة قالت :" قلت لعائشة رضي الله عنها : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ؟ قالت : نعم ، فقلت لها : من أي أيام الشهر كان يصوم ؟ قالت : لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم ." وما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " أوصاني خليلي بثلاث : صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام " . وللعلماء في تعيين هذه الثلاثة الأيام من كل شهر أقوال ولكل صاحب قول تعليله ، كما لهم في تعيين البيض عشرة أقوال ذكر ذلك كله بالتفصيل الحافظ ابن حجر في الفتح فليراجعه من شاء . أما هنا فحسبك أن تعرف أنك متى صمتها من الشهر فقد نفّذت الوصية التي في حديث أبي هريرة واستحققت المثوبة الكريمة وهي صيام الدهر ، فإذا كانت هي أيام الليالي البيض فهي أفضل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خصها بالذكر كما في حديث أبي ذر بلفظ :" يا أبا ذر ، إذا صمت من الشهر ثلاثة ، فصم : ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ". رواه أحمد والترمذي والنسائي . وقد بوب البخاري - رحمه الله - لذلك فقال :" باب صيام البيض : ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة " ، وصنيعه هذا يدل على تعيينها وأفضليتها لا كمن كرهها أو عيّنها بغير ذلك . قوله : كـــــذا ثلاثة بـــــكل شــــهر ***** وفعلها في البيض خير فادر كذاك كل اثنين أو خميس قد ***** سن صـــيامه بنص لا يـــــرد أي : أن مما يستحب صومه تطوعا من أيام الأسبوع يوم الإثنين ويوم الخميس لما روى الإمام أحمد بسنده عن أسامة بن زيد قال :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد حتى يقال : لا يفطر ، ويفطر الأيام حتى لا يكاد أن يصوم ، إلا في يومين من الجمعة إن كانت في صيامه وإلا صامهما ، ولم يكن يصوم من شهر من الشهور ما يصوم من شعبان ، فقلت : يا رسول الله ، إنك تصوم لا تكاد أن تفطر ، وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما ، قال : أي يومين ؟ قال : قلت : يوم الإثنين ويوم الخميس ، قال : ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ، قال : قلت : ولم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان ؟ قال : ذاك شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين ، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم "وهذا إسناد حسن رجاله ثقات . وقد جاء هذا الحديث عند الترمذي من رواية أبي هريرة ، وعند أبي داود من حديث أسامة بن زيد ولكن بألفاظ أخرى وأسانيد أخرى في بعضها ضعف وطريق أحمد أصحها كما رأيت . قلت : وهذا الحديث بجملته يدل على أمور أهمها مايلي : ا - بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الكمال في العبادة فرائض ونوافل ، ليكون عبدا شكورا ، ثم ليكون قدوة صالحة رشيدة لأمته تتأسى به في أقواله وأفعاله بحسب همم أفرادها وجماعاتها ذكورا وإناثا . ب - الإيمان الثابت الذي لا تردد فيه أن الله حكيم في كل شيء كما سمّى نفسه الحكيم ، ومن جملة ذلك حكمته البالغة فيما شرع لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما يكفّر به خطيئاتهم ويرفع درجاتهم من أقوال وأفعال وأعمال ظاهرة وباطنة من واجبات ومستحبات . ج - الحث على مراقبة الله بحيث يتفقد العبد نفسه وما هي عليه من خير أو شر ، وذلك في كل لحظة من لحظات العمر ، وفي كل عمل من أعمالها اليومية ؛ لأنه عندما يستشعر دائما أن أعماله تُعرض على خالقه وبارئه في أسبوعه مرتين وكان من العقلاء فإنه سيكثر من صالح العمل ويجتنب طرائق الخطأ والغفلة والزلل ؛ طمعا في نيل السعادة والرضا واستحياء من الله رب السموات العلا . د - التحذير من الغفلة والإستعداد ليوم النقلة ، وما أدراك ما يومها ، إنه اليوم الذي يودّع فيه الإنسان دار العمل ويرتحل إلى دار الجزاء على العمل ، فيمكث رهينا في حياته البرزخية حتى يحين مجيء حياته الأخروية ؛ فينكشف الغطاء وتبلى السرائر وتجزى كل نفس ما كسبت ، وتبصر آنذاك ما قدمت وما أخرت ، وما أسرت وما أعلنت ، فطوبى لنفس رضيت برسالة ربّها وشرعة نبيها وتمسكت بعُراها ، وطوبى لنفس ترفعت عن فعل القبيح فلم يضرها شيطانها وهواها ، وطوبى لنفس استشعرت دائما مراقبة ربّها فقلّ ضحكها وكثر حزنها واشتد بكاها ، وطوبى لها غدا إن نجت من عذاب الله ، فرضي عنها ربها وأرضاها . ن : وصح في الحديث خير الصوم *****صيامه يومــا وفطر يــوم وصـــح من فعــــــل النـــبي كانـــا *****أكثر ما يصوم في شعبانا وصـــوم يــــوم فــي سبيـــل اللــه *****بعد عن النار بفضل اللــه ش : قوله : وصح في الحديث خير الصوم *****صيامه يوما وفطر يوم أي : أن أفضل صوم التطوع لمن عنده قدرة على الصوم ورغبة في نافلته أن يصوم يوما ويفطر يوما فإنه خير الصيام ، كما شهد النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صم في كل شهر ثلاثة أيام ، قلت : إني أقوى من ذلك ، فلم يزل يدفعني حتى قال : صم يوما وأفطر يوما فإنه أفضل الصيام وهو صوم أخي داود عليه السلام " متفق عليه . فقد دل الحديث على أن صوم يوم وفطر يوم هو أعلى حد فيما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ، وأن ما زاد عل ذلك فهو مفضول كما هو مقتضى اللفظ . قوله : وصح من فعل النبي كانا *****أكثر ما يصوم في شعبانا أي : أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الإكثار من الصوم في شهر شعبان ؛ لأنه شهر يغفل فيه الناس عن الصيام ، والنبي صلى الله عليه وسلم لا تصيبه الغفلة وهو المشرّع لأمته ، وقد دل على إفراد النبي صلى الله عليه وسلم له ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول : لا يفطر ، ويفطر حتى نقول : لا يصوم ، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان ، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان " . ولفضل الصوم فيه فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصله برمضان كما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول :" كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شهر شعبان ثم يصله برمضان " . قوله : وصوم يوم في سبيل الله *****بعد عن النار بفضل الله في هذا البيت حث وترغيب في التطوع المطلق بعبادة الصوم الفاضلة لما في ذلك من جزيل الأجر والثواب وما فيه من النجاة من عذاب الله ، وقد جاء الترغيب فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يصوم عبد مسلم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا " . حقا إن في هذا الحديث لخير حافز للمسلم على الإكثار من صوم التطوع وإن مما لا شك فيه اختيار المسلم لصوم التطوع وتركه لمألوفاتالنفس من مأكل ومشرب ونحوهما بدون تكليف رباني لدليل صادق وبرهان قاطع على حبه لله وخوفه منه وتعظيمه له وإحيائه سنة نبيه صلى الله عليه وسلم . نعم ، إنه لعلامة من علامات السعادة ، وقربة من أعظم القرب التي ثوابها عند الله يوم يشتد بالأمة العطش لدُنو الشمس من رءوسهم وبروز النار أمام أعينهم وهول المطلع الذي يواجههم ويتحقق أمامهم ما كانوا قد سمعوه وقرءوه في الحياة الدنيا من كلام الله وكلام رسوله - عليه الصلاة والسلام - فهنيئا ثم هنيئا لمن تقرب إلى الله بأداء فرائضه ، وأتبع ذلك بفعل النوافل التي تكمل الفرائض ، ليكون الكل سببا في تخفيف ما سينزل بالخلائق في يومها المشهود الذي أخبرنا الله عنه بقوله ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود. وما نؤخره إلا لأجل معدود . يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد . فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيه زفير وشهيق .خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شآء ربك ، إن ربك فعال لما يريد . وأما الذين سُعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شآء ربك ، عطآء غير مجذوذ )) [ سورة هود 103-108 ] . باب ما نُهي عن صومه ن : وجمعة والسبت كل قد نُهي *****عن صومه منفردا عن غيره كـــذاك ينهى عن صــــيام الدهر *****سردا بدون فصـــــله بفطـــر ش: قوله : وجمعة والسبت كل قد نُهي *****عن صومه منفردا عن غيره أي : أنه يُنهى شرعا عن تخصيص أحد هذين اليومين بصوم على انفراده ، غير أنه يجوز صيامهما فيما يأتي : ا - إذا صيم قبلهما أو بعدهما ب -إذا وافق أحدهما يوم عرفة أويوم عاشوراء فإنه لا كراهة حينئذ في صوم جمعة أو سبت ، وقد اعتمد الناظم في تصريحه بالنهي عن صيام هذين اليومين منفردين على الأدلة التالية : 1 - ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :" سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده " . 2 - ما رواه البخاري بسنده عن أبي أيوب عن جويرية بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي صائمة في يوم الجمعة فقال لها :" أصمت أمس ؟ فقالت : لا . قال : أتريدين أن تصومي غدا ؟ قالت : لا . قال : فأفطري إذن ." 3 - وما رواه الشيخان عن محمد بن عباد قال سألت جابرا رضي الله عنه :" أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة قال : نعم - زاد غير أبي عاصم - : أن ينفرد بصوم ." وفي لفظ لمسلم :" ولا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " . فهذه النصوص تدل على كراهة إفراد يوم الجمعة بصوم أو ليلتها بإحياء ووجه الكراهة - والله أعلم - لأن يوم الجمعة عيد المسلمين وله فضل عظيم ، ويُخشى أيضا أن يُعظم فوق المشروع فقد نهى عن إفراد يومه بالصوم وليلته بالقيام . وأما يوم السبت : فقد جاء في كراهة إفراده بالصوم ما رواه أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض الله عليكم ، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن ، ومعنى كراهته في هذا : أن يخص يوم السبت بصيام ؛ لأن اليهود تعظم يوم السبت فإذا صام قبله أو بعده زالت العلة فزالت الكراهة . قوله : كذاك يُنهى عن صيام الدهر *****سردا بدون فصله بفطر أي : أنه قد جاء النهي في السنة الصريحة عن تعذيب النفس بصيام أيام الدهر سردا متوالية ، ففي المسند والصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا صام من صام الأبد " . ولمسلم من حديث أبي قتادة بلفظ : " لا صام ولا أفطر " وهذا الأسلوب أبلغ في الزجر عن سرد صيام الدهر لما فيه من التشديد على النفس وعدم الرفق بها وتضييع وظائف أخرى ، منها ما يتعلق بحق الله ، ومنها ما يتعلق بحقوق النفس ، ومنها ما يتعلق بحقوق ذوي الحقوق من الآدميين . ثم إن صام الدهر يقع في محظورات أخرى ، فهو قطعا يصوم الأيام المنهي عن صيامها كيومي العيد وأيام التشريق ، وسيأتي الكلام عليها قريبا . أما إذا صام وأكثر وهو قوي وفصل بفطر فهو في حل وأفضل الصيام ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :" صم يوما وأفطر يوما فإنه أفضل الصيام وهو صوم أخي داودعليه السلام . ومن أراد أن يحرز فضل صيام الدهر في رضا وسنة فعليه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر فقد روي عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله . وهذه غنيمة باردة فيها أجر صيام الدهر مع راحة النفس والجسد والقيام بسائر الوظائف الليلية والنهارية والحقوق المتعلقة بما يجب لله ، وما يجب لعباد الله ، فخذها يا بن آدم . ن : كذا عن استقبال شهر الصوم *****بصومه يومين أو بيوم إلا إذا وافـــــق يومــــــا كانـــــــا *****يعتاد صــومه فلا نكرانا ش : في هذين البيتين بيان للنهي عن التعجيل بصيام يوم أو يومين قبل دخول رمضان على سبيل الإحتياط على أساس أن ذلك ربّما يكون من رمضان ، وقد استثنى الناظم من كان له صوم يعتاده فوافق آخر يوم أو يومين من شعبان فإنه محظر في ذلك الصيام ، وقد استند الناظم في تقرير هذا التفصيل في الحكم على ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تقدّموا صوم رمضان بيوم ولا بيومين إلا أن يكون صوم يصومه رجل فليصم ذلك اليوم " . وقد قال الترمذي عقب إيراد هذا الحديث : " والعمل على هذا عند أهل العلم ، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان ." وقال ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد :" وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ألا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية محقة أو بشهادة شاهد واحد ، كما صام بشهادة ابن عمر ، وصام مرة بشهادة أعرابي ، واعتمد على خبرهما ، ولم يكلفهما لفظ الشهادة ، فإن كان ذلك إخبارا فقد اكتفى في رمضان بخبر الواحد ، وإن كان شهادة فلم يكلف الشاهد لفظ الشهادة فإن لم تكن رؤية ولا شهادة أكمل عدة شعبان ثلاثين يوما " انتهى . قلت : فقد اتفق قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله على تحريم صوم الشك ، فلا يليق بمسلم بعد ذلك أن يصومه بحكم الإحتياط ، والأمر محلول بالحل الشرعي وهو الرؤية الثابتة أو إكمال شعبان ثلاثين يوما : وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ". ن : والصوم للعيدين عنه قد أتى *****نهي كذا التشريق نصّا ثبتا إلا لفـــــــــاقد دم التمـــــــــــــتع *****فصومها رخّص فديـــة فـع ش : في هذين البيتين إيضاح مسألتين : المسألة الأولى : النهي الصريح عن صوم يومي العيدين : الفطر والأضحى ، سواء كان الصوم قضاء أو نذرا أو تطوعا ، لما روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه :" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين ، أما يوم الفطر : ففطركم من صومكم ، وأما يوم الأضحى : فكلوا من نسككم " رواه البخاري ومسلم والترمذي . ففي هذين النصين دليل صريح على تحريم الصوم في يومي العيدين وإنما ينبغي فيهما التوسعة على النفس والعيال في حدودها الشرعية، وهذه من سماحة دين الإسلام الذي جعله الله رحمة واسعة لمن رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا . المسألة الثانية : النهي الصريح أيضا عن صيام أيام التشريق الثلاثة بعد عيد الأضحى ، وقد استند الناظم في النهي عن صيامها إلا لمن كان عليه دم تمتع ولم يتمكن من صيام الثلاثة الأيام قبل الحج إلى ثلاثة أحاديث : الأول : رواه أحمد ومسلم عن كعب بن مالك :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق فناديا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، وأيام منّى أيام أكل وشرب . الحديث الثاني : رواه أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال : " أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أنادي أيام منّى : إنها أيام أكل وشرب ولا صوم فيها - يعني : أيام التشريق - " الحديث الثالث : ما أخرجه أبو داود والترمذي عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب " . قال أبو عيسى : هذا حديث صحيح . فهذه النصوص الثلاثة دلت على تحريم الصوم في أيام التشريق باتفاق أهل العلم ، ولم يختلفوا إلا في المتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم ثلاثة أيام قبل الحج . فذهب بعضهم إلى عدم الجواز : كعلي بن أبي طالب ، والحسن البصري ، وعطاء ، والثوري ، وأصحاب الرأي ، وظاهر مذهب الشافعي . وذهب إلى الجواز كثير من السلف والأئمة : كعائشة ، وعروة بن الزبير ، وابن عمر ، وهو قول مالك ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وهو الراجح - إن شاء الله - .