عرض مشاركة واحدة
حفيد الصالحين غير متواجد حالياً
 رقم المشاركة : ( 2 )  أعطي حفيد الصالحين مخالفة
حفيد الصالحين
عضو مميز
رقم العضوية : 34
تاريخ التسجيل : Oct 2010
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 171 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 10
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع
افتراضي

كُتب : [ 07-08-2011 - 11:21 PM ]


فـصل
[ في اقتضاء الأمر المطلق الفور ]


• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 170] في مسألة الأمر المطلق هل يقتضي الفور ؟ ما نصّه: «…وَقَالَ أَكْثَرُ المَالِكِيِّينَ مِنَ البَغْدَادِيِّينَ إِنَّهُ يَقْتَضِي الفَوْرَ».

[م] وهذا المذهب هو اختيار ابن قدامة وابن القيم(48 ) والفتوحي من الحنابلة، واختار المصنِّف مذهب الباقلاني وابن خويز منداد والمغاربة من المالكيين أنَّ الأمر المطلق لا يقتضي الفور، ويظهر من الروايات المختلفة في الأوامر المطلقة عن مالك(49) ‑رحمه الله‑ أنَّ دلالة الأمر ‑عنده‑ تدلُّ على مجرَّد الطلب والامتثال وهو ما قرَّره ابن العربي عنه ورجَّحه بقوله: «واضطربت الروايات عن مالك في مطلقات ذلك، والصحيح ‑عندي‑ من مذهبه أنه لا يحكم فيه بفور ولا تراخ ‑كما تراه‑ وهو الحقُّ»(50). وهذا المذهب هو اختيار الغزالي(51 ) والفخر الرازي والآمدي ونسبه التلمساني لأهل التحقيق(52)، أمَّا قياس المصنِّف الأمر على الخبر في استدلاله على أنَّ الأمر المطلق لا يقتضي الفور، فأجيب عنه بأنه قياس مع ظهور الفارق بينهما من ناحية أنَّ الخبر يحتمل الصدق والكذب والأمر لا يحتملهما؛ لأنَّه حثٌّ ووجوب واستدعاء، ولأنَّ الخبر لا يوجد إلاَّ بعد أن تَيَقَّن الحكيم أن المخبر يكون على ما أخبر فيه فلا يقع الغرر عليه بالتأخير، بخلاف الأمر فإنَّ التأخير في الفعل خطر وغرر فيجهل المأمور مباغتة الموت له قبل الامتثال، فكان إيقاعه للفعل أول الوقت أحوط له، ولأنَّ الآمر لو أراد التأخير لأَخَّر الأمر بالفعل.
هذا، ويترتَّب على القول بفورية الأمر من عدمه جملة من الآثار منها: في الحجّ، والزكاة عند استكمال شرائطهما، هل يجبان على الفور أم على التراخي ؟ ومنها: في قضاء فوائت رمضان فهل يجب على الفور، ولا يجوز فعل النوافل من الصيام حتى يقضي الواجب، أم يجوز له التأخير بلا إثم كما يجوز له فعل النوافل من الصيام ؟ ومن ذلك أيضًا وجوب الكفارة هل هي على الفور أم على التراخي ؟(53).

فـصل
[ في الاحتجاج بأمر نسخ وجوبه ]


• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 172]:
«إِذَا نُسِخَ وُجُوبُ الأَمْرِ جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ بهِ عَلَى الجَوَازِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابنَا مِنْهُمْ القَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ».


[م] المراد بالجواز الاشتراك بين الندب والإباحة، فيبقى الفعل إمَّا مباحًا أو مندوبًا؛ لأنَّ الماهية الحاصلة بعد النسخ مركَّبة من قيدين: أحدهما زوال الحرج عن الفعل وهو المستفاد من الأمر، والثاني: زوال الحرج عن الترك وهو المستفاد من الناسخ، وهذه الماهية صادقة على المندوب والمباح فلا يتعيَّن أحدهما بخصوصه، وهو اختيار المجد بن تيمية(54 ) ورجَّحه الرازي وأتباعه وحكي عن الأكثر، ومذهب أبي الوليد الباجي من خلال استدلاله أنَّ الجائز أعمُّ من الوجوب لشموله للإباحة والندب والوجوب والكراهة التنزيهية، فإذا نسخ الوجوب فقد نسخ أحد أفراد عموم الجواز، وتبقى الإباحة والندب يشتركان في الجواز، أمَّا الكراهة فلا تدخل في الجواز بهذا الاعتبار؛ لأنَّ الشرع لا يأمر بالمنهي عنه.
هذا، ويذهب أبو يعلى(55 ) والكلوذاني وابن عقيل من الحنابلة إلى أنَّ وجوب الأمر إذا نسخ فيبقى الاحتجاج به على الندب؛ لأنَّ المرتفع التحتُّم بالطلب فإذا زال التحتُّم بقي أصل الطلب وهو الندب، ويبقى الفعل مندوبًا إليه، وذهب الغزالي من الشافعية وابن بَرهان(56 ) من الحنابلة والحنفية إلى أنه لا يدلُّ على الندب ولا على الإباحة، وإنما يرجع إلى ما كان عليه من البراءة الأصلية أو الإباحة أو التحريم؛ لأنَّ اللفظ موضوع لإفادة الوجوب دون الجواز، وإنما الجواز تبع للوجوب، إذ لا يجوز أن يكون واجبًا لا يجوز فعله، فإذا نسخ الوجوب وسقط، سقط التابع له، وهو نظير قول الفقهاء: «إِذَا بَطَلَ الخُصُوصُ بَقِيَ العُمُومُ»(57).
وبناءً عليه يكون الخلاف معنويًّا كما يذهب إليه بعض أهل العلم كالتلمساني(58 ) والهندي(59 ) وغيرهما؛ لأنه -على هذا الرأي الأخير- إذا كان الحكم قبل مجيء أمر الإيجاب على التحريم، فإنَّه يعود الحكم إلى ما كان عليه بعد نسخ الوجوب وهو التحريم، ومن يقول يبقى على الجواز لا يقضي بالتحريم، وتختلف الفروع حكمًا باختلاف تقرير هذا الأصل.
هذا، والذي يظهر لي في هذه المسألة وجوبُ التفريق بين العبادات والمعاملات، فإذا نُسخ الوجوبُ في العبادات فيُحمل على الندب إذا لم يرد من الشرع إبطال الفعل كلية؛ لأنه أدنى ما يكون عليه أمر العبادة والتقرُّب إلى الله تعالى، مثل نسخ وجوب صوم عاشوراء فيجوز أن يحتجَّ به على الندب، أمَّا إن كان في المعاملات فيرجع فيه إلى ما كان عليه الحكم قبل نسخ وجوب الأمر. والعلم عند الله تعالى.

فـصل
[ في تكليف المسافر والمريض ]


• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 173 - 174]:
«المُسَافِرُ وَالمَرِيضُ مَأْمُورَانِ بصَوْمِ رَمَضَانَ، مُخَيَّرَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَوْمِ غَيْرِهِ… فَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُخَاطَبٍ بصَوْمِهِ لَمَا أُثِيبَ عَلَيْهِ كَالحَائِضِ لَمَّا لَمْ تُخَاطَبْ بالصَّوْمِ لَمْ تُثَبْ عَلَيْهِ فِي حَالِ حَيْضِهَا».


[م] المسافر والمريض يتعلَّق بهما التكليف لتوفُّر شرط العقل وفهم الخطاب فيهما، وهما من شروط التكليف العائدة على المحكوم عليه وهو: «المكلَّف»، غير أنه رُخِّصَ لهما الإفطار لمظنَّة المشقَّة الحاصلة لهما إذا صاما، فحكمهما ثابت للعذر على خلاف الدليل المعارض لهما والذي يتمثَّل في وجوب صوم رمضان عليهما، هذا عند ظنِّ المشقَّة، أمَّا مع تحقُّقها فإنَّ رخصة الإفطار تصير عزيمة في حقِّهما، فيحرم الصوم حينئذٍ، ويجب فيه الإفطار.
هذا، وإن كان المصنِّف -رحمه الله- يرى أنَّ المسافر والمريض مخيَّران بين صوم رمضان وبين صوم غيره كالنذر والقضاء وهو مذهب أبي حنيفة ومن وافقه فيقع محقِّقًا ما نواه إن كان واجبًا؛ لأنَّه شغل الوقت بالأهمِّ ورخصته متعلِّقة بمطلق السفر وقد وجد، والأعمال بالنيات وأنَّ لكلِّ امرئ ما نوى(60).
فالصحيح مذهب الجمهور من أنه لا يصحُّ أن يصوم رمضان عن غيره بوجه من نذر أو قضاء أو تنفل؛ لأنَّ الفِطر ما دام قد أبيح رخصةً وتخفيفًا للعذر فلا يصحُّ أن يصام عن غيره، فإن كانت فيه المشقَّة فالظاهر وجوب الإفطار، وإن كانت القدرة على الصيام ولم يرد التخفيف عن نفسه لزمه أن يأتي بالأصل وهو: صوم رمضان، وكذلك إن نوى المريض أن يصوم عن واجب آخر(61). ونية العامل لا تصحِّحُ فسادَ العمل ولو كانت صالحةً أو حسنةً.
هذا، وينبغي التفريق بين ما ثبت حكمه لعذر، وما ثبت لمانع كوجوب ترك الصوم والصلاة للحائض والنفساء، وضابط الفرق بينهما أنَّ مانع الحيض والنفاس يرفع التكليف مع إمكان اجتماعه به عقلاً ولا يجتمع معه شرعًا، بل يمنع وجوده أصلاً، بخلاف العذر فيجتمع مع المشروع كاجتماع السفر والمرض مع الصوم.
هذا، ومن سافر أو مرض في رمضان فأفطر أو حاضت المرأة فيه فأفطرت، فهل صيام هذه الأيام بعد انقضاء رمضان يعدُّ قضاءً أم أداء ؟ الخلاف في هذه المسألة خلاف في تسمية هذا الفعل والتعبير عنه، لاتِّفاقهم على أنَّ المسافرَ والمريضَ والحائضَ إذا أفطروا في نهار رمضان لمانع الحيض أو لعذر السفر والمرضِ فإنه يجب عليهم صيام تلك الأيام التي تركوها، وما ذهب إليه الجمهور من حيث تسميته قضاء لا أداء أوفق لتطابق حقيقة القضاء عليه وهو: «ما فعل بعد خروج وقته المحدَّد شرعًا مُطلقًا»، ولإجماعهم على أنَّ المسافرَ والمريض والحائضَ بعد انتفاء العذر وزوال المانع يجب في حقِّهم نيَّة القضاء، وما وجبت فيه نية القضاء فهو قضاء، ولما ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كُنَّا نَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلاَ نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ»(62)، فقد ورد في الحديث تسميته بالقضاء، والآمر هو النبي صلى الله عليه وآله وسَلَّم فلا يُعدل عنه إلى الأداء لاشتهاره به. والعلم عند الله.

فصل
[ في مخاطبة الكفار بفروع الإيمان ]


• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 174] في هذه المسألة:
«…وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ -رحمه الله- أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ شَرَائِعِ الإِيمَانِ».


[م] وهذا القول مشهور عن أكثر الحنفية وهو قول الشافعي وأحمد، واختاره أبو حامد الإسفرائيني(63) والرازي من الشافعية والسرخسي(64 ) من الحنفية، وعن الإمام أحمد رواية ثالثة مفادها: أنَّ الكفار مخاطبون بالنواهي دون الأوامر وقيل: مُكلَّفون بما سوى الجهاد، وقيل: يُكلَّف المرتدُّ دون الكافر الأصلي وفي المسألة أقوال أخرى(65).
غير أنَّ الأصل الذي لا اختلاف فيه بين الأُمَّة أنَّ الكفَّار مخاطبون بالإيمان، أمَّا فروع الإيمان فالذي ينبغي أن يُعلَم أنَّ الكافر غير مُطالَب بفِعلها حالَ كفره؛ لأنَّه إن أدَّاها -وهو على هذه الحال- لم تقبل منه، ولم يصحّ ما يؤدِّيه من فروع الإيمان إلاَّ بعد تحصيل أصل الإيمان لقوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ [الفرقان: 23]، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ [النور: 39]، ولقوله تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ﴾ [إبراهيم: 18]، ولقوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ﴾ [التوبة: 54].
هذا، وإذا أسلم الكافر فليس عليه قضاء ما فاته من العبادات السابقة؛ لأنَّ الإسلام يَجُبُّ ما قبلَه إلاَّ أنَّه إن بقي على الكفر فيعاقب على أمرين: أحدهما أصل الإيمان، والثاني على تركه لفروع الإيمان، ودليل ذلك ما ذكره المصنِّفُ أنَّ اللهَ أخبر عن المشركين في معرض التصديق لهم تحذيرًا من فعلهم: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ [المدثر: 42-46]. ويدلُّ على معاقبته لهم على أصل الإيمان وفروعه بتضعيف العذاب عليهم في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾ [الفرقان: 68 - 69]، وعليه فالكافر مُطالَب بفروع الإيمان على الراجح من أقوال أهل العلم، لكن مع تحصيل شرط التكليف المتمثِّل في الإيمان الذي هو أصل تلك الفروع، ولا تنفعه تلك الفروع بدونه، ويدلُّ على مخاطبة الكفار بتلك الفروع عموم الآيات والأوامر الإلهية مثل قوله تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ [فصلت: 6-7]، وقوله تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران: 97].
ويتفرَّع عن هذا الأصل مسائلُ: منها المرتدُّ إذا أسلم هل يلزمه قضاء الصلوات الفائتة في أيام ردَّته، وكذلك الزكوات التي عليه هل تسقط عنه أم لا ؟ ومن ذلك استيلاء الكفار على أموال المسلمين وحرزها بدارهم هل يملكونها أم لا ؟(66).
هذا، ويجدر التنبيه إلى أنَّ مسألة مخاطبة الكفَّار بفروع الشريعة ليست قاصرة على الإنس بل شاملة للجِنِّ -أيضًا- وهم مكلَّفون بفروع الدِّين على أرجح قولي أهل العلم، مع اتفاقهم على تكليفهم بالإيمان للإجماع على أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل بالقرآن الكريم إلى الثقلين، وقد اشتملت أوامر القرآن الكريم ونواهيه على الأصول وفروع الدِّين نحو قوله تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللهِ﴾ [الحديد: 7]، ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ﴾ [البقرة: 43]. وقد توجَّه خطاب الله تعالى في القرآن الكريم إلى الجنسين معًا في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وفي قوله تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ﴾ [الأنعام: 130]، وقوله تعالى: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [السجدة: 13]، غير أنَّ تكليفهم قد يختلف عن تكليف الإنس للاختلاف بينهم في الحدِّ والحقيقة كما صرَّح شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-(67).

فــصل
[ فيما يحمل قول الصحابي: أمرنا رسولُ الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بكذا أو نهانا ]


• قال أبو الوليد -رحمه الله- في [ص 176]:
«إِذَا قَالَ الصَّحَابيُّ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بكَذَا وَنَهَانَا عَنْ كَذَا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الوُجُوبِ"».


[م] أي: على وجوب الفعل أو وجوب الترك وهو التحريم، وهو الصحيح؛ لأنَّ الصحابة رضي الله عنهم هم أهل اللغة ومشهود لهم بالعدالة، فإذا كانوا أهل المعرفة بأوضاع اللغة وطرق استعمالها فإنه يبعد أن يقول الصحابي: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمضمضة والاستنشاق، وأمر أن لا توصل صلاة بأخرى، أو فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر، وأمر أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة، وأمر برجم ماعز، والغامدية، وفي النهي: نهى عن المخابرة، ونهى عن الوصال، ونهى عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، ونهى عن القراءة في الركوع والسجود وغيرها، وهو غير متيقَّن بالأمر والنهي حقيقة، ولا يعلم تمام العلم بنوع الإطلاق وطرق استعماله، ثمَّ إنَّ مثل هذه الألفاظ - من جهة أخرى - كانت تنقل إلى الصحابة رضي الله عنهم وينقلونها، ويقبلها صحابة آخرون من غير توقّف ولا تحرٍّ، فكان ذلك منهم إجماعًا سكوتيًّا.

مسـائل النهي
[ في الأمر بالشيء نهيٌ عن أضداده والعكس ]


• قال الباجي -رحمه الله- في بيان مسائل النهي [ص 180]:
«الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْــهِ أَهْلُ السُّـنَّةِ أَنَّ الأَمْرَ بالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بأَحَدِ أَضْدَادِهِ».


[م] الأمر يقتضي النهي عن ضدِّه وأضداد المأمور به من حيث المعنى، فإنَّ قولك: «اسكن» يقتضي النهي عن الحركة لاستحالة اجتماع الضِّدَّين، فالأمر به هو أمر بلوازمه وليس طريقه قصد الآمر، وإنما يثبت بطريق اللزوم العقلي(68).
أمَّا من جهة اللفظ فإنَّ الأمر بالشيء ليس هو النهي عن ضِدِّه؛ لأنَّ المعلوم أنَّ لفظ الأمر غير لفظ النهي، ثمَّ إنَّ اقتضاء النهي عن أضداد المأمور به إنما يكون وقت الامتثال.
ولَمَّا كان النهي فرعًا عن الأمر، فالأمر هو الطلب، والطلب قد يكون للفعل أو للترك، كان لكلِّ مسألة من الأوامر وِزان من النواهي على العكس، وعليه فإنَّ النهي عن الشيء أمر بضدِّه هذا إذا كان له ضدٌّ واحد، وأمَّا إن كان له أضداد فهو أمر بأحدها من جهة المعنى، وهو مذهب الجمهور؛ لأنَّ النهي يوجب عليه ترك المنهي عنه، إذ المطلوب في النهي الانتهاء، ولا يمكنه ترك المنهي عنه إلاَّ بفعل ضِدِّه، فكان فعل ضِدِّه واجبًا التزامًا لا صيغةً، عملاً بقاعدة أنَّ «الأَمْر بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِلَوَازِمِهِ»، ويترتَّب على هذا القول أنَّ الزوج إن قال لزوجته: «إن خالفت أمري فأنت طالق» ثمَّ قال لها: «لا تقومي» فقامت فإنها تطلق؛ لأنَّ النهي عن الشيء أمر بضدِّه(69).
[ في أقسام النهي ]

• وفي الصفحة نفسها [180] يقول الباجي -رحمه الله-:
«وَالنَّهْيُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: نَهْيٌ عَلَى وَجْهِ الكَرَاهَةِ، وَنَهْيٌ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ».

[م] ودليل هذا التقسيم أنَّ حكم الله هو: طلبه أو إذنه أو وضعه، والطلب إمَّا أن يكون للفعل أو الترك، وهو في كليهما: إمَّا أن يكون على سبيل التحتيم، وإمَّا على سبيل الترجيح، وما كان طلبًا للفعل على سبيل التحتيم فهو الإيجاب، وما كان طلبًا على سبيل الترجيح فهو الندب أو الاستحباب، وما كان طلبًا للترك على سبيل التحتيم فهو التحريم، وما كان طلبًا للترك على سبيل الترجيح فهو الكراهة(70).
هذا، ويجدر التنبيه إلى أنَّ المكروه الذي يقابل المندوب، يُطلق على ترك المندوب، أو على ترك كلِّ مصلحة راجحة، فإنه قد يُطلق على الحرام - أيضًا -؛ لأنَّه بغيض إلى النفوس العارفة، إذ كلُّ بغيض إلى النفوس فهو مكروه في اللغة، ومنه قوله تعالى: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ [الإسراء: 38]، وعليه فقد تطلق الكراهة على المحظور والحرام فتسمَّى بالكراهة التحريمية، وعلى التنزيه فتسمَّى بالكراهة التنزيهية كما هو معهودٌ من كلام العلماء، غير أنه إذا أطلق لفظ المكروه في اصطلاح الفقهاء انصرف إلى كراهة التنزيه، وهذا هو المكروه الذي هو قسيم المحظور، وهو: ما ترجَّح تركه من غير وعيدٍ فيه إلى أن يقوم دليلٌ يصرفه إلى التحريم(71).
[ في اقتضاء النهي المطلق للتحريم ]

• وقول المصنِّف بعدها في الصفحة نفسها:
«…النَّهْيُ إِذَا وَرَدَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ إِلاَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بهِ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الكَرَاهَةِ».


[م] صيغة النهي تقتضي التحريم حقيقة، ولا يحمل على غيره إلاَّ بقرينة، وبه قال جمهور أهل العلم، وعليه إجماع السلف وأهل اللسان واللغة.
وصيغة النهي تقتضي انتهاء عن المنهي عنه على الفور، وتقتضي دوام الترك، أي: تكراره، وهو الحقُّ؛ لأنَّ المنهي عنه قبيح شرعًا، والقبيح يجب اجتنابه على الفور وفي كلِّ وقت، وقياسه على الأمر فاسد للفرق؛ ذلك لأنَّ الأمر يقتضي وجود المأمور مُطلقًا، والنهي يقتضي أن لا يوجد المنهي مُطلقًا، والنفي المطلق يَعُمُّ، والوجود المطلق لا يَعُمُّ، فكلُّ ما وُجد مَرَّة فقد وجد مُطلقًا، وما انتفى مَرَّة فما انتفى مُطلقًا(72).

[ في دلالة النهي على فساد المنهي عنه ]

• وقوله -رحمه الله- في [ص 181]:
«وَالنَّهْيُ إِذَا وَرَدَ دَلَّ عَلَى فَسَادِ المَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرِهِمْ».


[م] ويضاف إلى هذه القاعدة عبارة: «إِلاَّ مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ»، وبهذا القول قال جمهور العلماء: من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأهل الظاهر مطلقًا سواء ورد النهي في العبادات أو في المعاملات، واختاره الغزالي في «المنخول»، وذهب بعض الحنفية والشافعية إلى عدم فساد المنهي، وبه قال القفال(73 ) وإمام الحرمين والغزالي في «المستصفى»، وفصَّل آخرون بين العبادات والمعاملات فالنهي يقتضي فسادًا في العبادات دون المعاملات، وبه قال الباقلاني وأبو الحسين البصري(74 ) واختاره الفخر الرازي، غير أنَّ أصحاب هذا المذهب يختلفون في جهة الفساد هل ثبتت باللغة أم بالشرع؟ وما عليه أكثر الأصوليِّين هو اقتضاء الفساد شرعًا لا لغةً؛ لأنَّ صيغة النهي في اللغة إنما تدلُّ على مُطلق الترك على سبيل اللزوم والجزم، وأمَّا دلالة الفساد والبطلان فقدرٌ زائدٌ يفتقر إلى دليل غير اللغة.
هذا، ويمكن أن يكون النهي اقتضى الفساد مطلقًا من جهة المعنى لا من جهة اللغة والشرع لدلالة النهي على قبح المنهي عنه ومذموميتِه وحَظْرِه، وهو بهذا الاعتبار مضادٌّ للمشروعية، وقريب من القول السابق في التفريق بين العبادات والمعاملات ما ذهب إليه التلمساني في تحقيق المذهب أنَّ النهي عن الشيء إن كان لحقِّ الله تعالى يفسد المنهي عنه، وإن كان لحقِّ العبد فلا يفسد المنهي عنه، وفي المسألة أقوال أخرى(75).
هذا، وقد استدلَّ المصنِّف لمذهب الجمهور بإجماع الأُمَّة من الصحابة رضي الله عنهم وغيرِهم على الاستدلال بمجرَّد النهي في القرآن أو في السُّنَّة على فساد العقد المنهي عنه كفساد عقود الرِّبا بقوله تعالى: ﴿وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 278]، وعن بيع الذهب متفاضلاً بنهي النبيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم عن بيع الذهب بالذهب متفاضلاً في حديث متفق عليه(76)، وعن تحريم نكاح المشركات وفساده بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: 221]، وغيرها من المسائل ممَّا لا تحصى كثرة.
والمصنِّف اكتفى بذكر بعض الأدلة النقلية وفيها غُنْية، واستأنس آخرون ممَّن استدلَّ لهذا المذهب بإضافة أدلَّة عقلية تظهر من ناحيتين:
الناحية الأولى: إنه ثبت بالاستقراء التامِّ وتتبّع النصوص أنَّ الشارع لا ينهى عن شيء إلَّا لكون المفسدة متعلِّقة بالمنهي عنه، والمفسدة ضرر، والضرر يجب إزالته وإعدامه وهو مناسب له عقلاً وشرعًا.
الناحية الثانية: إنَّ الأمر يقابل النهي فإذا كان الأمر بالشيء يقتضي إيجاده وعدم تركه فالنهي عنه يقتضي تركه وعدم فعله بل اجتنابه، وإذا كان الأمر يقتضي صلاحَ المأمورِ به وجب أن يكون النهي يدلُّ على فساد المنهي عنه مطلقًا.
هذا، وإذا كان يدلُّ على هذا المذهب عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(77)، الشامل للمنهي عنه في العبادات والمعاملات، وللمنهي عنه لعينه ولغيره، أو لحقِّ الله وحقِّ العبد، فضلاً عن إجماع الصحابة رضي الله عنهم على بطلان الأفعال والعقود بنهي الشارع عنها، إلاَّ أنَّ ما يراه جمهور العلماء في النهي عن العمل لوصف مجاور ينفك عنه، غير لازم له أنه لا يقتضي بطلان العمل ولا فساده بل يبقى صحيحًا مُتَّصفًا بالمشروعية ومنتجًا لآثاره غير أنه يترتَّب على فاعله الإثم كالصلاة بخاتم من ذهب للرجال، والنهي عن الوطء في الحيض، والنهي عن سوم المسلم على سوم أخيه، والخطبة على خطبة أخيه، فإنَّ جهة المشروعية فيه تخالف جهة النهي فلا تلازم بينهما، فمخالفة الشرع تستوجب الإثم لا تخلف ترتَّب الأثر على ذلك العمل(78).
هذا، والخلاف بين العلماء في هذه المسألة ليس لفظيًّا بل تترتَّب عليه جملةٌ من الآثار نذكر منها:
أوّلاً: الناذر لصيام يوم العيد فإنه عند الجمهور يبطل نذره، ولا يصحُّ صومه إن صام ولا يسقط القضاء عنه؛ لأنَّ النهي يقتضي فساد المنهي عنه، بخلاف الحنفية فيرون أنَّ النذر صحيح بأصله دون وصفه، ويجب عليه الفطر والقضاء، فإن صام ذلك اليوم فصومه صحيح مع الإثم، فالنهي عندهم لا ينافي المشروعية وإنما يقتضي صِحَّة المنهي عنه.
ثانيًا: نكاح المُحْرِم في الحجّ فاسد بالنهي الوارد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ يَنْكِحُ المُحْرِمُ وَلاَ يُنْكَحُ»(79)، وهو مذهب جمهور أهل العلم خلافًا لمن صحّحه بناءً على التقعيد السابق.
وبقية الآثار المترتِّبة على هذا الأصل من هذا القبيل.
.. يتبع ..

رد مع اقتباس