الحكم بن العاصي صحابي لم يثبت لعنه "
أورد شيخنا الألباني رحمه الله تعالى في
" الصحيحة " برقم ( 3240 ) حديث :
" لَيدخُلنَّ عليكُم رجلٌ لَعِينٌ. يعني: الحكم بن أبي العاص " : أخرجه أحمد (2/163) ، والبزار في "مسنده "
(2/247) من طريق عبد الله ابن نُمير: ثنا عثمان بن حكيم عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف عن عبد اللهبن عمرو قال :كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ذهب عمرو بن العاص يلبس ثيابه ليلحقني، فقال ونحن عنده : ... فذكر الحديث ، فوالله ! ما زلت وجلاً أتشوَّف داخلاً وخارجاً حتى دخل فلان: الحكم ( بن أبي العاصي ) .
والزيادة للبزار، وقال :
"لا نعلمه بهذا اللفظ إلا عن عبد الله بن عمرو بهذا الإسناد".
قلت: وهو إسناد صحيح على شرط مسلم، وقال الهيثمي
(5/ 241) :
"رواه أحمد والبزار والطبراني في" الأ وسط "، ورجال أحمد رجال الصحيح ".
وله شاهدان قويَّان ساقهما البزار:
أحدهما: من طريق الشعبي قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول- وهو مستند إلى الكعبة- : وربّ هذا البيت !
لقد لعن الله الحكم- وما ولد- على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
وقال البزار:
"لا نعلمه عن ابن الزبير إلا بهذا الإسناد".
قلت: وهو إسناد صحيح أيضاً، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين؛ غير شيخ البزار (أحمد بن منصور بن سيّار) ، وهو ثقة، ولم يتفرد به كما يشعر بذلك تمام كلام البزار:
"ورواه محمد بن فُضيل أيضاً عن إسماعيل عن الشعبي عن ابن الزبير".
ولذلك لم يسع الحافط الذهبي- مع تحفظه الذي سأذكره- إلا أن يصرِّح في "تاريخ الإسلام " (2/57) بقوله : "إسناده صحيح ". وسكت عنه في "السير" (2/108) ؛ ولم يعزه لأحد!
وقد أخرجه أحمد أيضاً (5/5) : ثنا عبد الرزاق: أنا ابن عينية عن إسماعيل ابن أبي خالد عن الشعبي.
وهذا صحيح على شرط الشيخين كما ترى .
والشاهد الآخر : يرويه عبد الرحمن بن معنٍ (وهو ابن مَغْرَاءَ) : أنبأ إسماعيل ابن أبي خالد عن عبد الله البَهِيّ- مولى الزبير- قال:
كنت في المسجد، ومروان يخطب، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: والله! ما استخلف أحداً من أهله.
فقال مروان: أنت الذي نزلت فيك :
(والذي قال لوالديه أفٍ لكما) .
فقال عبد الرحمن : كذبت، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن أباك، وقال البزار: "لا نعلمه عن عبد الرحمن إلا من هذا الوجه ".
قلت: واسناده حسن كما قال الهيثمي، وأقره الحافظ في "مختصر الزوائد" (1/686) .
وقد وجدت لابن مغراء متابعاً قوياً، وهو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وقد ساقه بسياق أتم وأوضح، رواه عنه ابن أبي حاتم- كما في "تفسير ابن كثير" (4/159) - عن عبد الله البهي قال:
إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله تعالى قد أرى أمير المؤمنين
في (يزيد) رأياً حسناً وأن يستخلفه، فقد استخلف أبو بكر عمر- رضي الله عنهما-. فقال عبد الرحمن بن أبي بكر- رضي الله عنهما-: أهرقلية؟! إن أبا بكر- رضي الله عنه- ما جعلها في أحد من ولده، وأحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده!
فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه: (أفٍّ لكما) ؟
فقال عبد الرحمن: ألست يا مروان! ابن اللعين الذي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباك؟!
قال: وسمعتهما عائشة- رضي الله عنها-، فقالت: يا مروان! أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا؟!
كذبت! ما فيه نزلت، ولكن نزلت في فلان بن فلان.
ثم انتحب مروان (!) ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب حجرتها، فجعل يكلمها حتى انصرف.
قلت: سكت عنه ابن كثير، وهو إسناد صحيح.
وأخرجه البخاري في "صحيحه " (4827) بإسناد آخر مختصراً، وفيه:
فقال (مروان) : خذوه! فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه.
وفيه إنكار عائشة على مروان.
وأخرجه النسائي في "الكبرى" (6/458- 459) من طريق ثالثة من رواية شعبة عن محمد بن زياد قال:
لما بايع معاوية لابنه قال مروان: سنة أبي بكر وعمر!
فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر!
وفيه أن عائشة قالت ردّاً على مروان:
كذب والله! ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي أُنزلت فيه لسمَّيته، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لعن [أبا] مروان، ومروان في صلبه فَضَض من لعنة الله.
قلت: وإسناده صحيح، وعزاه الحافظ في "الفتح " (13/577) السيوطي في "الدر" (6/ 41) لعبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم- وصححه-، وابن مردويه .
ثم وجدت لحديث الترجمة طريقاً أخرى عن ابن عمرو، من رواية ابن عبد البر في "الاستيعاب " بإسناده الصحيح عن عبد الواحد بن زياد: حدثنا عثمان ابن حكيم قال: حدثنا شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح أيضاً؛ فإن رجاله كلهم ثقات، وعبد الواحد بن زياد ثقة محتج به في "الصحيحين "، ولم يتكلموا فيه إلا في روايته عن الأعمش خاصة، وهذه ليست منها كما ترى، وعليه: يكون لعثمان بن حكيم إسنادان صحيحان في هذا الحديث، وذلك مما يزيد في قوّته والله سبحانه وتعالى أعلم .
وهذه الطريق كالطريق الأولى؛ سكت عنها الذهبي في "التاريخ "!
هذا؛ وإني لأعجب أشد ّالعجب من تواطؤ بعض الحفاظ المترجمين لـ (الحكم) على عدم سوق بعض هذه الأحاديث وبيان صحتها في ترجمته، أهي رهبة الصحبة (!!! ) ، وكونه عمَّ عثمان بن عفان- رضي الله عنه- ، وهم المعروفون بأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم؟!
أم هي ظروف حكومية أو شعبية كانت تحول بينهم وبين ما كانوا يريدون التصريح به من الحق؟
فهذا مثلاً ابن الأثير يقول في "أسد الغابة":
"وقد روي في لعنه ونفيه أحاديث كثيرة، لا حاجة إلى ذكرها، إلا أن الأمر المقطوع به : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع حلمه وإغضائه على ما يكره - ما فعل به ذلك إلا لأمر عظيم ".
وأعجب منه صنيع الحافظ في "الإصابة"؛ فإنه- مع إطالته في ترجمته- صدَّرها بقوله:
"قال ابن السكن: يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليه، ولم يثبت ذلك "!
وسكت عليه ولم يتعقبه بشيء، بل إنه أتبعه بروايات كثيرة فيها أدعية مختلفة عليه، كنت ذكرت بعضها في "الضعيفة"، وسكت عنها كلها وصرح بضعف بعضها، وختمها بذكر حديث عائشة المتقدم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن أباك وأنت في صلبه. ولكنه- بديل أن يصرح بصحته- ألمح إلى إعلاله بمخالفته رواية البخاري المتقدمة، فقال عقبها :
"قلت: وأصل القصة عند البخاري بدون هذه الزيادة"!
فأقول: ما قيمة هذا التعقب، وهو يعلم أن هذه الزيادة صحيحة السند، وأنها من طريق غير طريق البخاري؟!
وليس هذا فقط، بل ولها شواهد صحيحة أيضاً كما تقدم؟! اكتفيت بها عن ذكر ما قد يصلح للاستشهاد به!
فقد قال في آخر شرحه لحديث : "هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش " من "الفتح " (13/11) :
"وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد. أخرجها الطبراني وغيره؛ غالبها فيه مقال، وبعضها جيد، ولعل المراد تخصيص الغلمة المذكورين بذلك "!
وأعجب من ذلك كلِّه تحفُّظُ الحافظ الذهبي بقوله في ترجمة (الحكم) من " تاريخه " (2/ 96) :
"وقد وردت أحاديث منكرة في لعنه، لا يجوز الاحتجاج بها، وليس له في الجملة خصوص من الصحبة بل عمومها"!
كذا قال! مع أنه- بعد صفحة واحدة- ساق رواية الشعبي عن ابن الزبير مصححاً إسناده كما تقدم!!
ومثل هذا التلون أو التناقض مما يفسح المجال لأهل الأهواء أن يأخذوا منه ما يناسب أهواءهم!
نسأل الله السلامة.
وبمناسبة قوله المذكور في صحبته؛ أعجبتني صراحته فيها في "السير" (2/107) ؛ فقد قال:
"وله أدنى نصيب من الصحبة"!
(تنبيه) : وأما ما رواه الحاكم (3/476) من طريق إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده قال:
بعث معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق- رضي الله عنهما- بمئة ألف درهم بعد أن أبى البيعة ليزيد بن معاوية، فردها عبد الرحمن وأبى أن يأخذها ، وقال: أبيع ديني بدنياي؟! وخرج إلى مكة حتى مات بها.
بيض له الحاكم والذهبي، وكأنه لظهور ضعفه؛ فإن إبراهيم هذا قال ابن عدي: "عامة أحاديثه مناكير". انتهى
قلت : عفا الله عن شيخنا الألباني رحمه الله ؛ فما كان له أن يذكر تواطؤ الحفاظ على الدفاع عن الحكم بن أبي العاصي ؛ من أجل رهبة الصحبة !!
بلى والله إنها لرهبة رهيبة بحق ؛ ولكنه رحمه الله لما تيقن أن الحديث صحيح راح يذكر هذا الكلام !
والعجب من شيخنا رحمه الله تعالى كيف يقول هذا بحق هؤلاء الحفاظ من التواطؤ ؛ وهو الذي نفى عنهم ذلك التواطؤ في حق أبي حنيفة بأنهم تواطؤا على تضعيفه !
انظر إليه رحمه الله كيف جمع تضعيف عدد كبير من الحفاظ لأبي حنيفة وقال : " لم يتفرد الدارقطنى بتضعيفه بل هو مسبوق إليه من كبار الأئمة الذين لا مجال لمتعصب للطعن في تجريحهم لجلالهم وإمامتهم " !
وقد وصف هؤلاء الحفاظ بأنهم : " أئمة الحديث المخلصين الذين لا تأخذهم فى الله لومة لأئم " ! " إرواء الغليل " 2 / 278 – 279
فكيف قال رحمه الله تعالى : " وكونه عمَّ عثمان بن عفان- رضي الله عنه- ، وهم المعروفون بأنهم لا تأخذهم في الله
لومة لائم؟! " .
فهل ترك الحفاظ ورعهم , وألا تأخذهم في الله لومة لائم مع جلالتهم وإمامتهم تلك عندما تعلق الأمر بالصحابة ؟!
حاشاهم من هذا !
على أنه قد صح أن كل من لعنه عليه الصلاة والسلام أو سبه فإن الله سيجعلها للملعون أو المسبوب صلاة ورحمة ؛ ففي
" صحيح مسلم " برقم ( 2600 ) عن عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاَنِ فَكَلَّمَاهُ بِشَىْءٍ لاَ أَدْرِى مَا هُوَ فَأَغْضَبَاهُ فَلَعَنَهُمَا وَسَبَّهُمَا فَلَمَّا خَرَجَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه ! أَصَابَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا مَا أَصَابَهُ هَذَانِ قَالَ : «وَمَا ذَاكِ». قَالَتْ : قُلْتُ لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا ؟!
قَالَ : «أَوَمَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّى ؟
قُلْتُ : اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَأَىُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا».
ومصداق هذا من كلام الإمام المبجل أحمد بن حنبل ؛ فقد
روى الخلال في " السنة " 3 / 521 قال :
أخبرني أحمد بن محمد بن مطر وزكريا بن يحيى أن أبا طالب حدثهم قال : سألت أبا عبدالله : من قال
لعن الله يزيد بن معاوية ؟
قال : لا أتكلم في هذا.
قلت : ما تقول فإن الذي تكلم به رجل لا بأس به وأنا صائر إلى قولك ؟
فقال أبو عبدالله : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
" لعن المؤمن كقتله " .
وقال : " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم " , وقد صار يزيد فيهم .
وقال : " من لعنته أو سببته فاجعلها له رحمة فأرى الإمساك أحب لي " وإسناده صحيح .
فهذا من زكاة وأجر الحكم بن العاصي رضي الله عنه - على فرض صحة الحديث - فكيف يجعل الأجر والتزكية ذماً ونقيصة ومسبة ؟!
ولا أدري ما هي قيمة كلام شيخنا رحمه الله تعالى هذا :
" أم هي ظروف حكومية أو شعبية كانت تحول بينهم وبين ما كانوا يريدون التصريح به من الحق؟ " وهو الذي يعلم أن أبا هريرة رضي الله عنه قد قال : " حَفِظْتُ مِنْ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وِعَاءَيْنِ ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ " : رواه البخاري برقم ( 120 ) .
والأمور التي كان يخشى بثها رضي الله عنه قد أوضحها العلماء , كأحاديث فيه تسمية أن فلَان مُنَافِق ، وبيان من سيقتل عُثْمَان ، و كذا روايته للحديث الصحيح : ((هَلَاك أمتِي على يَدي أغيلمة من قُرَيْش)) بأنهم بَنو فلَان وفلان ، فَلَو صرح بِأَسْمَائِهِمْ لكذبوه وقتلوه ؛ فقاتل أهل العلم بأن أبا هريرة :
" خشى على نفسه، فلم يُصَرِّح. وكذلك ينبغى لكل من أمر بمعروف إذا خاف على نفسه فى التصريح أن يُعَرِّض. ولو كانت الأحاديث التى لم يحدث بها من الحلال والحرام
ما وَسِعَهُ تركها " .
ولكنا بإذن الله تعالى سنثبت للقراء الكرام أن هذا الحديث منكر ؛ لا يصح نسبته لرسول الله عليه الصلاة والسلام .
فأما حديث البزار وأحمد ؛ فإن مدار السند على ابن نمير وهو عبد الله بن نمير ؛ وهو وإن كان ثقة ؛ فإن له أوهاماً ذكرها الحافظ الدارقطني في " العلل " 14 / 445
فقد ذكر له ولغيره من الحفاظ وهماً هناك فقال : " وكلاهما وهم في إسناده على قلة وهمهما وكثرة ضبطهما " .
كما ذكر وهماً آخر في " العلل " 13 / 95 .
ثم ذكر وهماً ثالثاً في " العلل " 11 / 314
ورابعاً في " العلل " 11 / 278
وخامساً في " العلل " 5 / 42
ووهمه الترمذي في " السنن " في الحديث
رقم ( 1128 ) فقال : " وهذا قد وهم فيه ابن نمير " .
وهذا التفرد بالحديث الذي فيه لعن لصحابي ؛ يجب التثبت فيه ؛ فإن ابن نمير بما وهم فيه ؛ لا يحتمل منه التفرد بهذا الحديث من دون أصحاب عثمان بن حكيم
وفيهم من هو فوق ابن نمير كالثوري وعيسى بن يونس السبيعي وهشيم ومروان بن معاوية ؟ فأين كان هؤلاء عندما انفرد ابن نمير بهذا الحديث المنكر ؟!
وقوله : " دخل فلان - يعني الحكم – " : يحتمل الإدراج من أحد الرواة ؛ فهل هو عبد الله بن عمرو أم من جاء بعده ؟
والذي يؤكد أن تعيين الحكم مدرج أن هناك اضطراباً في الشاهد الذي استدل به الألباني ؛ فقد رواه البزار في " مسنده " برقم (2197 ) فقال :
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ سَيَّارٍ، قَالَ: نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، يَقُولُ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْكَعْبَةِ: «وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ لَقَدْ لَعَنَ اللَّهُ الْحَكَمَ وَمَا وَلَدَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ» . وَهَذَا الْكَلَامُ لَا نَحْفَظُهُ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، أَيْضًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، نَا بِهِ عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ .
فقد سماه في رواية البزار وأبهمه في رواية أحمد ؛ والخطأ في هذا بلا شك من عبد الرزاق ؛ فإنه تفرد بهذا الحديث ولم يتابع عليه من قبل من تقبل متابعته كما سيأتي ؛ فيكون منكراً كما قال الذهبي في نهاية ترجمته من " تاريخ الإسلام "
15 / 262 : " قلت: عبد الرّزّاق راوية الإسلام ، وهو صدوق في نفسه , وحديثه مُحْتَجٌّ بِهِ في الصِّحاح ؛ ولكن ما هُوَ ممّن إذا تفرّد بشيء عُدّ صحيحًا غريبًا ؛ بل إذا تفرّد بشيء عدّ منكراً " .
وكأن شيخنا لم يقف على رواية الحديث عند أحمد في
" المسند " 26 / 51 فقال
: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: وَرَبِّ هَذِهِ الْكَعْبَةِ، لَقَدْ " لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُلَانًا، وَمَا وُلِدَ مِنْ صُلْبِهِ " .
قال الذهبي في " الميزان " 3 / 140 – 141 :
" إن تفرد الثقة المتقن يعد صحيحاً غريباً .
وإن تفرد الصدوق ومن دونه يعد منكراً " .
وللأسف الشديد فإن كلام الذهبي هذا – الذهبي بحق – لم يعمل به شيخنا الألباني رحمه الله تعالى , ولا الحافظ ابن حجر ؛ فلا أدري ما هو الباعث على إهمال هذه القاعدة الذهبية ( تفرد الصدوق ومن دونهيعد منكراً ) وما هي إلا إعمال لكلام الحفاظ !
وقال في ترجمة عبد الرزاق من " تاريخ الإسلام "
15 / 262 : " قلت: عبد الرّزّاق راوية الإسلام ، وهو صدوق في نفسه , وحديثه مُحْتَجٌّ بِهِ في الصِّحاح ؛ ولكن ما هُوَ ممّن إذا تفرّد بشيء عُدّ صحيحًا غريبًا ؛ بل إذا تفرّد بشيء عدّ منكراً " .
فهذا الحديث منكر بشهادة الحافظ الذهبي ذي الاستقراء التام في الرجال ؛ ولهذا فلا نعجب حينما قال في ترجمة الحكم من " سير النبلاء " 3 / 407 :
" وَيُرْوَى فِي سَبِّهِ أَحَادِيْثُ لَمْ تَصِحَّ " .
وقال - كما نقله شيخنا - :
"وقد وردت أحاديث منكرة في لعنه، لا يجوز الاحتجاج بها، وليس له في الجملة خصوص من الصحبة بل عمومها"!
ولنأت الآن إلى المتابعة التي لا تفيد شيئاً هذا الحديث ؛ فقد رواه الطبراني في " الكبير " 13 / 121 , ومن طريقه الضياء المقدسي في " الأحاديث المختارة " برقم
( 268 ) فقال :
حَدَّثَنَا أحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ حَيَّانَ الرَّقِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَهُوَ يَقُولُ: «وَرَبِّ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ لَلَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَكَمَ وَمَا وَلَدَ» .
فقد تابع عبد الرزاق هنا كل من : مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ ؛ لكن ذلك مما لا يفيد شيئاً ؛ فإن في الطريق إليهما :
يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ ؛ وهو كما قال النسائى : ليس بثقة ؛ وهذا يعني عنده : متروك أو ضعيف جداً .
ووثقه الدارقطني والعقيلي وزاد الأخير : له أحاديث مناكير ؛ ولهذا قال ابن حجر : صدوق يخطيء ؛ فمثله لا يعتمد عليه في ذكر هذه المتابعة ؛ فهي منكرة .
ورواه الطبراني كذلك في " الكبير " 13 / 121 , ومن طريقه الضياء المقدسي في " الأحاديث المختارة " برقم
( 269 ) فقال :
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الْجَنَبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ إِنَّ الْحَكَمَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ وَوَلَدَهُ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
وهذا فيه متابعة أبي مالك الجنبي لعبد الرزاق ؛ لكن أبا مالك هذا ضعيف جداً عند البخار ؛ فقد قال عنه : فيه نظر !
وقال مسلم : ضعيف ؛ وقال ابن سعد : يخطيء كثيراً .
فهذه رواية منكرة أيضاً .
وأما الشاهد الثاني الذي ذكره شيخنا رحمه الله ؛ فهو ما رواه البزار في " مسنده " برقم ( 2273 ) فقال :
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَغْرَاءَ، قَالَ: نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ، مَوْلَى الزُّبَيْرِ، قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: وَاللَّهِ مَا اسْتَخْلَفَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: أَنْتَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيكَ {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف: 17] فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ أَبَاكَ. وَهَذَا الْكَلَامُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
قلت : وهذا منكر ؛ البهي هذا قال أبو حاتم عنه : " لا يحتج بالبهي ، وهو مضطرب الحديث " ؛ وقال ابن حجر : " صدوق يخطيء" فمثله إذا انفرد بخبر يجب أن يعد منكراً كما قال الذهبي .
وأما المتابعة التي ذكرها شيخنا لابن مغراء ؛ فلا تعنينا ؛ لأن الذي عليه مدار السند إنما هو عبد الله البهي ؛ وهو الذي انفرد به ؛ ولا يحتمل تفرده بالخبر ؛ فهو منكر كسابقيه !
وقول شيخنا عن الخبر " وهو إسناد صحيح " خطأ واضح ؛ بعد علمه رحمه الله بقول ابن حجر في البهي :
" صدوق يخطيء" !
على أن فيه علة أخرى قادحة – لم يعتبرها شيخنا – وهي أن البخاري قد رواه في " صحيحه " برقم
( 4550 ) – كما ذكره شيخنا – فلم يذكر الحكم أصلاً ؛ بل إن عائشة رضي الله عنها قالت : " مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِينَا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عُذْرِي " .
وهذا يدل لوحده على نكارة الزيادة التي فيها لعن الحكم ؛ وعدم ذكر التبرئة التي ذكرتها الصديقة عن نفسها !!
فأين هذا من تلك الرواية المنكرة التي فيها اللعن والتعين للملعون ؟!
وهذه الرواية المنكرة هي رواية النسائي من طريق شعبة عن محمد بن زياد ؛ فهي في " السنن الكبرى " 10 /ى257 فقد قال :
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: لَمَّا بَايَعَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِهِ، قَالَ مَرْوَانُ: سُنَّةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: سُنَّةُ هِرَقْلَ وَقَيْصَرَ، فَقَالَ مَرْوَانُ: هَذَا الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف: 17] الْآيَةَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: « كذب وَاللهِ، مَا هُوَ بِهِ، وَإِنْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ لَسَمَّيْتُهُ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ أَبَا مَرْوَانَ، وَمَرْوَانُ فِي صُلْبِهِ، فَمَرْوَانُ فضَضٌ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ» !!
فهذا منكر أيضاً شيخ النسائي هو الدرهمي ؛ وهو قد تفرد به ؛ ولا يحتمل تفرده ؛ فهو صدوق .
وأضعف منه : أمية بن خالد ؛ فإنه لم يكن أحمد يحمده في الحديث ؛ وقال : " إنما كان يحدث من حفظه لا يخرج كتاباً " .
قلت : فلا شك في نكارة من هذه حاله عند الذهبي ؛ وهو الصواب .
والخلاصة : قد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك عندي - بحمد الله تعالى - أن حديث لعن الحكم بن العاصي منكر لم يقله رسول الله عليه الصلاة والسلام أصلاً ؛ وصدق حكم الذهبي رحمه الله حينما قال :
" وَيُرْوَى فِي سَبِّهِ أَحَادِيْثُ لَمْ تَصِحَّ " .
وكفى بشيخ الإسلام ابن تيمية الذي جزم بأن قصة طرد الحكم إلى الطائف أو اليمن لا أصل لها في رده على الرافضي النجس بقوله في " منهاج السنة النبوية " 6 / 353 : " هَذَا مَعَ أَنَّ فِيمَا ذَكَرَهُ كَذِبًا كَثِيرًا ، مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَمْرِ الْحَكَمِ، وَأَنَّهُ طَرَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ يُسَمَّى طَرِيدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّهُ اسْتَشْفَعَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَيَّامَ خِلَافَتِهِمَا فَمَا أَجَابَاهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ عُمَرَ نَفَاهُ مِنْ مُقَامِهِ بِالْيَمَنِ أَرْبَعِينَ فَرْسَخًا. فَمَنِ الَّذِي نَقَلَ ذَلِكَ؟ وَأَيْنَ إِسْنَادُهُ؟ وَمَتَى ذَهَبَ هَذَا إِلَى الْيَمَنِ؟ وَمَا الْمُوجِبُ لِنَفْيِهِ إِلَى الْيَمَنِ، وَقَدْ أَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا يَدْعُونَهُ بِالطَّائِفِ، وَهِيَ أَقْرَبُ إِلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مِنَ الْيَمَنِ؟ فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ أَقَرَّهُ قَرِيبًا مِنْهُ، فَمَا الْمُوجِبُ لِنَفْيِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ إِلَى الْيَمَنِ؟ .
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ نَفْيَ الْحَكَمِ بَاطِلٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْفِهِ إِلَى الطَّائِفِ، بَلْ هُوَ ذَهَبَ بِنَفْسِهِ. وَذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ نَفَاهُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا إِسْنَادًا صَحِيحًا بِكَيْفِيَّةِ الْقِصَّةِ وَسَبَبِهَا " .
منقول