الجزء التاسع
بَـابُ
الكلام في معقول الأَصل
[ في لحن الخطاب ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 288] ‑بعد أنَّ قسم معقول الأصل إلى: لحن الخطاب وفحوى الخطاب، والحصر، ومعنى الخطاب‑ ما نصه:
«فَأَمَّا لَحْنُ الخِطَابِ فَهُوَ الضَّمِيرُ الَّذِي لاَ يَتِمُّ الكَلاَمُ إِلاَّ به».
[م] الظاهر من كلام المصنِّف إطلاقه لاصطلاح لحن الخطاب على دلالة الاقتضاء، وهي من المنطوق غير الصريح، وقد اصطلح جماعةٌ من أهل الأصول على هذا الإطلاق، منهم أبو إسحاق الشيرازي، وأبو حامد الغزالي وشهاب الدِّين القرافي وغيرهم.
ومن هنا تجدر الإشارة إلى أنّ لفظ لحن الخطاب يختلف إطلاقه باختلاف مقصود كلِّ أُصوليٍّ، فكما أطلقه بعضُهم على دلالة الاقتضاء، أطلقه آخرون على مفهوم المخالفة كما فعل الإسنوي، أو على المساوي من مفهوم الموافقة كما جاء عن الشوكاني إطلاقه، وسوَّى الآمدي وابن الحاجب بين لحن الخطاب وفحواه، وعلى ذلك ينبغي الوقوف عند المراد من هذا الإطلاق الاصطلاحي(1).
ودلالة الاقتضاء هي أحد أقسام المنطوق غير الصريح الذي يطلق عليه ‑أيضًا‑ دلالة الالتزام وهي (أي: المنطوق غير الصريح، أو دلالة الالتزام): المعنى الذي دَلَّ عليه اللفظُ في غير ما وُضع له، كدلالة الأربعة على الزوجية، وهو على ثلاثة أقسام: دلالة الاقتضاء، ودلالة الإيماء، ودلالة الإشارة.
ودليل الحصر في هذه القسمة الثلاثية هو: أَنَّ المدلول عليه بالالتزام إمَّا أن يكون مقصودًا للمتكلِّم باللفظ أو لا يكون مقصودًا له، فإن كان مقصودًا للمتكلِّم فإمَّا أن يتوقَّف على المدلول صِدق الكلام أو صِحَّته عقلاً أو شرعًا، فدلالة اللفظ عليه تسمَّى دلالة الاقتضاء، وإمَّا أن لا يتوقَّف عليه ذلك، فدلالة اللفظ عليه تسمَّى دلالة إيماء، أمَّا إن لم يكن مقصودًا للمتكلِّم فدلالةُ اللفظ عليه تسمَّى دلالة الإشارة.
هذا، ودلالة الاقتضاء هي: أن يتضمَّن الكلام إضمارًا ضروريًّا لابدّ من تقديره؛ لأنَّ الكلام لا يستقيم دونه، أو هي: دلالة اللفظ على معنى لازمٍ مقصودٍ للمتكلِّم يتوقَّف عليه صدقُ الكلام أو صِحَّتُه الشرعية أو صحته العقليةُ، لذلك كان على ثلاثة أنواع:
6 إمَّا لأنَّ الكلام لا يستقيم لتوقُّف الصدقِ عليه، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»(2)، فإنَّ ذات الخطإ والنسيان والإكراهِ لم ترتفع بل يقع في الأُمَّة ذلك وليست بمعصومة عنها، والرسول لا يخبر إلاَّ صِدقًا، لذلك وجب تقديرُ محذوفٍ ليكون الكلام صدقًا ومستقيمًا، وتقديره مستفاد من عبارة النصّ وهي «الإثم والمؤاخذة» ليكون تقدير الكلام: «وُضِعَ عن أُمَّتِي إثمُ الخطإِ، وإثمُ النسيان، وإثم الإكراهِ»، فلولا تقديره مقدمًا لكان الكلام كذبًا، ومخالفًا للواقع والحقيقة.
6 وإمَّا لتوقّف الصحة عليه شرعًا، وقد مثَّل له المصنِّفُ بقوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184]، فالظاهر أنَّ فرض المريض والمسافر الأيام الأخر سواء صَامَا أو لم يصوما(3)، لكن لما عُلم شرعًا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم صام بعد نزول هذه الآية وأقرَّ الصحابةَ على صيامهم، فدلَّ ذلك على وجوب تقدير [فأفطر] ضرورة لتصحيح الكلام من جهة الشرع، فيمتنع وجود الملفوظ شرعًا بدون ذلك المقتضى(4).
6 وإمَّا لتوقّف الصِّحة عليه عقلاً، مثل قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: 82]، فإنَّ العقل يمنع من توجيه السؤال إلى ذات القرية، لذلك وجب إضمار مخاطَب ليصحَّ الكلام من جهة العقل وهو [أهل] فيكون التقدير: واسأل أهل القرية(5)، ومثاله ‑أيضًا‑ قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: 3]، فإنَّ العقل يمنع من إضافة الحكم إلى ذات الميتة، فكان إضمار فعل يتعلّق به التحريم واجبًا عقلاً وهو [الأكل] فيكون التقدير: حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أَكْلُ المَيْتَة، وإنما وجب تقديره ضرورةً لتصحيح الكلام من جهة العقل، فيمتنع وجود الملفوظ عقلاً بدون ذلك المقتضى.
هذا، وأمَّا القسم الثاني من المنطوق غير الصريح فهو دلالة الإيماء، أو الإيماء والتنبيه(6)، وهي: أن يقترن بالحكم وصف لو لم يكن هذا الوصف تعليلاً لهذا الحكم لكان حشوًا في الكلام لا فائدة منه، وهذا الذي ينبغي أن تنزّه ألفاظ الشارع عنه، مِثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ [الإنفطار: 13]، فإنه إيماء وتنبيه إلى صيرورتهم في النعيم لعِلَّة بِرِّهِم، وقولِه تعالى: ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الإنفطار: 14]، فإنه إيماءٌ وتنبيهٌ بأنهم ما صاروا إلى الجحيم إلاَّ لفجورهم.
وأمَّا القسم الثالثُ فهو دلالةُ الإشارة، وهي: أَنْ يَدُلَّ اللفظُ على معنًى ليس مقصودًا باللفظ في الأصل، ولكنه لازم المقصود، أي: قصده يأتي تَبَعًا للفظ كاستفادة أقلِّ مُدَّة الحمل [ستة أشهر] من قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: 15]، مع قوله تعالى: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ [لقمان: 14]، فالآية الأولى وردت في بيان حقِّ الوالدة وما تعانيه من الآلام في الحمل والإرضاع، وأمَّا الثانية فالمقصود منها بيان أكثر مُدِّة الفصال، أمَّا اللاَّزم غير المقصود منها فهو: أنَّ أقلَّ مُدَّة الحمل ستةُ أشهر، وهي دلالة الإشارة، واستفيد ذلك من حاصل طرح مُدَّة الفصال في الآية الثانية من مُدَّتَي الحمل والفصال في الآية الأولى.
هذا، ويقابل المنطوقَ غير الصريح المنطوقُ الصريح، وهو المعنى الذي وضع له اللفظ، وهو يشمل دلالةَ المطابقةِ كدلالة الرجل على الإنسان الذكر، ودلالةَ التضمُّن كدلالة الأربعة على الواحد وهو ربُعها(7).
[ في صورة الإلحاق بلحن الخطاب ما ليس منه ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 289]:
«وَقَدْ يَلْحَقُ بذَلِكَ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَهُوَ ادِّعَاءُ ضَميرٍ يَتِمُّ الكَلاَمُ دُونَهُ، نَحْوُ اسْتِدْلاَلِنَا عَلَى أَنَّ العَظْمَ تَحُلُّهُ الحَيَاةُ بقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: 78]، فَيَقُولُ الحَنَفِيُّ: المُرَادُ مَنْ يُحْييِ أَصْحَابَ العِظَامِ، فَمِثْلُ هَذَا لاَ يَجُوزُ فِيهِ تَقْديرُ مُضْمَرٍ إِلاَّ بدَلِيلِ اسْتِقْلاَلِ الكَلاَمِ دُونَهُ».
[م] وهذا هو الضرب الثاني من لَحْنِ الخطاب، غير أنَّ الكلام يتمُّ دون تقدير الضمير، فالواجب حمل الكلام على ظاهره لاستغنائه بنفسه؛ لأنَّ الأصلَ في اللفظ أن يكون مستقلاَّ بذاته لا يتوقَّف على تقدير مُضمَر(8)، والإضمارُ على خلاف الأصل، فإذا دار اللفظ بين أن يكون مستقلاَّ بنفسه أو مضمرًا على نحو ما مثَّل به المصنِّف فإنه يحمل على استقلاله، وهو عدم التقدير لقِلَّة اضطرابه(9).
ومن أمثلته ‑أيضًا‑ من يرى بحرمة أكل السباع بنهي النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل كُلِّ ذي نابٍ من السِّباع(10). فيقول المخالف: إنما أراد النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم ما أكلته السباعُ، لا أنَّ السباع لا تُؤكَل، وبذلك تحصل مطابقة الحديث لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ [المائدة: 3].
وعليه يكون التقدير: «أكل مأكول كُلِّ ذي نابٍ من السِّباع حَرامٌ» فمثل هذا لا يجوز تقدير مضمر؛ لأنَّ لفظ الحديث يكتفي بذاته، وغير مضطرب، والأصل في الكلام الاستقلال(11).
فـصل
[ في فحوى الخطاب ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 290]:
«وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي فَهُوَ فَحْوَى الخِطَابِ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ نَفْسِ الخِطَابِ مِنْ قَصْدِ المُتَكَلِّمِ بعُرْفِ اللُّغَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ(12) وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾ [الإسراء: 23]، فَهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ المَنْعُ مِنَ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ، وَيَجْرِي مَجْرَى النَّصِّ عَلَى ذَلِكَ فِي وُجُوبِ العَمَلِ به وَالمَصِيرِ إِلَيْهِ».
[م] لم يتفق العلماء على اصطلاح واحدٍ بشأن فحوى الخطاب، فقد أطلقه المصنِّف على مفهوم الموافقة، وهو إطلاق الأكثرين، ويسمَّى ‑أيضًا‑ تنبيه الخطاب، ومفهوم الخطاب على ما سمَّاه به أبو يعلى والكلوذاني، ويطلق بعض المالكية تنبيه الخطاب على مفهوم المخالفة، ويطلق فحوى الخطاب ‑أيضًا‑ على الأولوي، ويسوي بعض العلماء بين لحن الخطاب وفحواه على ما تقدَّم(13).
ويذهب تاج الدِّين السُّبكي ومَن تبعه إلى القول بوجود تباين في التسمية بين لحن الخطاب وهو: «مَا كان المسكوت عنه مُساويًا للمنطوق به»، وفحوى الخطاب الذي هو: «ما كان المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به»، وهذا التفريق غير مستقيم من حيث اللفظ والتسمية لذلك لم يلتزمه الجمهور، بل عدَّهما مترادفين؛ لأنَّ فحوى الكلام يقصد به معناه، وهو المراد باللحن كقولهم: «عرفت ذلك من لحن كلامه» أي: فحواه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمَّد: 30]، أي: في مفهومه وما يظهر بالفطنة، وعليه يبقى التفريق بينهما على هذا الوجه مفتقرًا إلى قرينة تقويه، أمَّا اصطلاحًا فلا مشاحة فيه بعد فهم المعنى.
وقد مثَّل المصنِّفُ للمفهوم الأولوي [فحوى الخطاب] بمثال يقطع فيه بنفي الفارق بين المسكوت عنه والمنطوق به، لاقتضاء الضرب والشتم معنًى أولويًّا من التأفيف في الإساءة للوالدين، غير أنَّ من المفهوم الأولوي ما يظنُّ فيه انتفاء الفارق بينهما من غير قطع فيه بنفي الفارق، كإلحاق شهادة الكافر على شهادة الفاسق في ردِّها بقوله تبارك وتعالى ‑في شأن الفاسق‑: ﴿وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 4]، لاحتمال الفرق من جهة كون الكافر يحترز عن الكذب لدِينه، والفاسق متّهم في دينه، وكإلحاق العمياء بالعوراء في منع الأضحية، لاحتمال أنَّ العوراء مظنَّة الهزال والعمياء مظنّة السمن(14).
وجديرُ بالملاحظة أنَّ المصنِّفَ لم يتناول الفرقَ بينه وبين المفهوم المساوي أو لحن الخطاب وهو: «ما كان المسكوت عليه مساويًا للمنطوق به»، لذلك اكتفى بالتمثيل لفحوى الخطاب، وبيان أنَّه يجري مجرى النصّ، ومن أمثلة أهل العلم على المفهوم المساوي، تحريم إتلاف مال اليتيم من تحريم أكله في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: 2]، لاقتضاء الأكل والإحراق والإغراق معنى التعدِّي والتضييع، فالجميع إتلافٌ، وهذا المثال يقطع فيه بنفي الفارق بين المسكوت عنه والمنطوق به.
ومثال المفهوم المساوي الذي يظنّ فيه انتفاء الفارق بينهما من غير قطع: إلحاق الأَمَة بالعبد في السراية في العتق في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، وَكَانَ لَهُ مِنَ المَالِ مَا يَبْلُغُ بِهِ ثَمَنَ العَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ العَدْلِ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ العَبْدُ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ»(15)، إذ لا فرقَ بينهما، غيرَ أنَّ احتمال خصوصية العبد بعد العتق مزاولته مناصب الرجال ما لا تزاوله الأنثى ولو كانت حرة(16).
وقول المصنِّف: «فَهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ» هو ما عليه جمهور العلماء من أنَّ مستند الحكم في محلِّ السكوت هو فحوى الدّلالة اللفظية لغة، وبه قال الحنفية والمالكية والحنابلة وبعض الشافعية، وسمَّاه الحنفية دلالة النصّ خلافًا لمذهب الشافعي فإنَّ دلالته قياسية، أي أنَّ مفهوم الموافقة يدلّ على إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به لاشتراكهما في عِلة الحكم، فانطبق عليه حدّ القياس، وبهذا قال أبو إسحاق الشيرازي والجويني والقفال الشاشي وابن بَرهان وغيرهم(17).
والقول بأنَّ دلالةَ المفهوم دلالةٌ لفظيةٌ هو الصحيح؛ لأنَّ التنبيه من الأدنى إلى الأعلى أو بأحد المتساويين على الآخر من الأساليب الفصيحة التي تجري على اللسان العربي للمبالغة في تأكيد الحكم في محلِّ المسكوت عنه؛ ولأنَّ دلالة المفهوم ثابتةٌ قبل استعمال القياس، فلا يتوقَّف فهمُه على الاجتهاد والاستنباط والتأمُّلِ والاعتبار الدقيقِ، بل مجرّد سماع اللفظ ينتقل مباشرة من العارف باللغة من المنطوق إلى المسكوت انتقالاً ذهنيًّا سريعًا، كتحريم التأفيف، فيفهم منه العارف باللغة جميع أنواع الأذى من ضرب وشتم وقتل ونحو ذلك من غير توقّف على مقدّمات شرعية أو استنتاجية، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [الطلاق: 2]، فإنه يتبادر إلى الذِّهن مباشرة أنَّ الأربعة عدول المسكوت عنهم أولى عند العارف باللغة سواء علم شرعية القياس أو جهلها فكان الحكم الثابت بمفهوم الموافقة مستندًا في فهمه إلى المناط اللغوي، علمًا أنَّ من شروط المقيس عليه أن لا يكون جزءًا من الفرع المقيس مندرجًا تحته، وهذا بخلاف شرط مفهوم الموافقة فإنَّ الاثنين يدخلان في الأربعة، والتأفيف يدخل في عموم الأذى وهما جزء من الزيادة، ومن جهة أخرى فإنَّ من شرط الفرع المقيس أن يكون حكمه دون الأصل المقيس عليه، بخلاف مفهوم الموافقة فمن شرطه مساواته بالأصل المنطوق أو أن يكون أعلى منه، لذلك كان المعنى المشترك بين المنطوق والمفهوم شرطًا لغويًّا لدلالة المنطوق على المسكوت وليس قياسيًّا.
وبناءً على ما تقدَّم فَمَن رأى أنَّ دلالةَ مفهومِ الموافقة لفظيةٌ، قال بجواز النسخ بالمفهوم، وتقديمه على القياس، لكونه أقوى منه، إذ هو معدودٌ من الألفاظ الشرعية، واللفظ يَنسِخُ ويُنسَخُ به، ودلالته مقدَّمةٌ على القياس، أمَّا من رأى أنَّ دلالة مفهوم الموافقة قياسية، منع النسخ، وجعله أضعف من دلالة الألفاظ معاملة له بما يعامل به القياس.
هذا، والاحتجاج بمفهوم الموافقة ووجوب العمل به محلّ إجماع بين العلماء من حيث الجملةُ، وخالف في ذلك داودُ الظاهريُّ وابنُ حزم(18)، قال ابن رشد(19): «لا ينبغي للظاهرية أن تنازع فيه ‑أي مفهوم الموافقة‑؛ لأنَّه من باب السمع، والذي يَرُدُّ ذلك يردُّ نوعًا من خطاب العرب»(20)، وحكم ابن تيمية على خلافهم بأنه مكابرة(21). ولا يخفى ما يترتَّب على قول الظاهرية من آثارٍ فقهية حيث جعلوا مفهومَ الموافقة من قبيل القياس، ونفوا القياس أصلاً وأنكروا حُجِّيَّتَه(22).
فـصلٌ
[ في مفهـوم الحصر ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 292]:
«وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: فَهُوَ الحَصْرُ، وَلَهُ لَفْظٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ: «إِنَّمَا»، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»(23)، فَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ المُعْتِقِ لاَ وَلاَءَ لَهُ».
[م] جعل المصنِّف لفظ الحصر واحدًا وهو «إنما» وإلى هذا ذهب الباقِلاَّنيُّ وجماعةٌ من المتكلِّمين، وذهبت جماعة من المالكية والشافعية إلى أنَّ للحصر أدوات أخرى غير «إنما»، وهي: تقدم النفي قبل ألفاظ الاستثناء(24)، وتقديم المعمولات مثل قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]، أي: لا نعبد إلاَّ إيَّاك، وقولِه تعالى: ﴿وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: 27]، أي: أنهم لا يعملون إلاَّ بأمره، والمبتدأ مع الخبر، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ»(25)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمُ»(26)، فيدلُّ على حصر التحريم في التكبير، والتحليل في التسليم، والشفعة فيما لم يقسم، وقد أخذ الجمهور بهذه الألفاظ، خلافًا لأكثر الأحناف الذين لم يشترطوا ذلك(27)، وعدم قصر مفهوم الحصر على كلمة «إنما» هو مذهب الشيرازي، واختاره القرافي، وعرفه بقوله: «هو إثباتُ نقيضِ حُكْمِ المنطوقِ للمسكوت عنه بصيغةِ «إنما» ونحوها»(28).
هذا وكلمة «إنما» تدلُّ على الحصر عند الجمهور؛ لأنها مركَّبةٌ من جزءين هما: «إنَّ» المشدَّدة الموضوعة للإثبات، و«ما» للنفي، وإذا كانت تفيده في حالة انفراد فينبغي استصحابه في حالة التركيب، وقد جاء من استعمال النصوص الشرعية، والأشعار العربية، ما يحسن فيها الحصر، والأصل الحقيقة مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [النساء: 171]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ﴾ [الرعد: 7]، وقد فسّر ذلك بصريح الحصر في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ﴾ [الأحقاف: 9]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»(29)، وقد فسّر بقولهم: «لا عمل إلاَّ بالنية»(30)، لذلك قال ابن تيمية: «الحصر في «إنما» من جنس الحصر بالنفي والاستثناء»(31).
[ في إفادة «إنما» الحصر عند تقييد الحكم بها ]
• وفي [ص 293] تابع الباجي -رحمه الله- قوله عن الحصر بما نصه:
«نَحْوُ قَوْلِكَ: إِنَّمَا الكَرِيمُ يُوسُفُ... وَإِنَّمَا أَرَادَ إِثْبَاتَ ذَلِكَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَزِيَّةً فِي الكَلاَمِ عَلَى غَيْرِهِ، إِلاَّ أَنَّ الظَّاهِرَ مَا بَدَأْنَا به أَوَّلاً فَلاَ يُعْدَلُ عَنْهُ إِلاَّ بدَلِيلٍ».
[م] فعلى مذهب أكثر الحنفية أنَّ تقييد الحكم بلفظ «إنما» لا يدلُّ على الحصر، وإنما يدلُّ على إثبات الحكم المذكور ولا يدلُّ على نفي ما عداه، وبهذا قال الآمدي والطوفي(32) وغيرهما، وتعليل ذلك أن «إنما» مركبة من «إِنَّ» للتأكيد، وهي مختصّة بالدخول على الأسماء في الأصل و«ما» كافَّة أي: تكفُّ «إنَّ» وأخواتها عن العمل فيما بعدها، وتصيِّرها صالحة للدخول على الأفعال، وإذا كانت «ما» كافة فليست بنافية، فقولنا: «إنما الكريم يوسف» فإنه يدلُّ على إثبات الكرم ليوسف، ولا تنفي الكرم عن غيره من الناس(33).
هذا، وقد اختلف العلماء في إفادة مفهوم «إنما» الحصر عند تقييد الحكم بها، فذهب أكثر الحنفية إلى عدم إفادتها الحصر مُطلقًا لا نطقًا ولا فهمًا، بل تؤكِّد الإثبات، وبهذا قال الآمديُّ والقرافي والطوفي(34) وجمهورُ النحويين، وذهب جمهور الحنابلة وبعض الحنفية والمالكية والشافعية إلى إفادتها الحصر، وبهذا قال أبو يعلى والمصنِّف والغزالي والفخر الرازي والبيضاوي وغيرهم(35)، وهو الصحيح(36)؛ لأنَّ «إنما» تفيد الإثبات والنفي، وتلحق بالاستثناء من النفي الذي هو إثبات إلحاقًا قياسيًّا، فإذا صحَّ القول: «لا كريم إلاَّ يوسف» يفيد نفي الكرم عن غيره وتأكيد الكرم بإثباته له، فكذلك في تقييد الحكم بلفظ «إنما».
والخلاف في هذه المسألة معنويٌّ له آثارُه الفقهية، فمَن اعتبر الحصرَ المستفاد من لفظ «إنما» أثبت للمذكور تلك الصفة أو الحكم ونفاه عن غيره، ومن رأى إفادتها للتأكيد أو إثبات الحكم المذكور فإنه لم ينف ما عداه.
فـصلٌ
[ فِي دَلِيـلِ الخِطَابِ ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 294]:
«وَمِمَّا يَلْحَقُ بذَلِكَ وَيَقْرُبُ مِنْهُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ دَلِيلُ الخِطَابِ».
[م] سُمِّي دليل الخطاب لأنَّ دلالته من جنس دلالات الخطاب، أو لأنَّ الخطاب دالٌّ عليه، أو لمخالفته منظوم الخطاب(37)، ويُسَمَّى ‑أيضًا‑ مفهوم المخالفة(38).
والمصنِّف قَدَّم أحدَ أنواع مفهوم المخالفة وهو مفهوم الحصر ب «إنما» الذي يندرج تحت دليل الخطاب، وجعله مما يقرب منه، والحقيقة أنَّ مفهوم الحصر أحد أنواعه، مثل مفهوم الصفة والشرط والغاية والعدد وغيرها من أنواع مفاهيم المخالفة، لذلك كان الأَوْلَى تقديم هذا الفصل على الذي يليه من باب تقديم الأصل على فرعه أو نوعه.
والمصنِّف اكتفى في هذا الفصل بمفهومٍ واحدٍ وهو مفهوم الصفة، ولم يُعَرِّج على بقية المفاهيم، وخاصَّة مفهوم الاستثناء بالنفي والإثبات الذي يأتي مرتَّبًا في طليعة المفاهيم ثمَّ مفهوم الشرط الذي يُعَدُّ أقوى من مفهوم الصِّفة ومفهوم العِلَّة، كيف وقد احتجَّ بهذه المفاهيم من لم يحتجَّ بمفهوم الصفة، بل وغالبُ استعمال مفهوم الشرط في كلام العرب للتعليل، لكون الشرط يلزم من عدمه عدم المشروط، مثل قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ [الطلاق: 6].
[ في تعريف دليل الخطاب ]
• عرَّف الباجي -رحمه الله- دليل الخطاب بقوله:
«وَهُوَ: أَنْ يُعَلَّقَ الحُكْمُ عَلَى مَعْنَى فِي بَعْضِ الجنْسِ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ عِنْدَ القَائِلِينَ بهِ نَفْيُ ذَلِكَ الحُكْمِ عَمَّا لَمْ يَكُنْ بهِ ذَلِكَ المَعْنَى مِنْ ذَلِكَ الجِنْسِ(39)، نَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «فِي سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ»(40) فَيَقْتَضِي ذَلِكَ نَفْيَ الزَّكَاةِ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ».
[م] ولدليل الخطاب حدودٌ أخرى غير تعريف المصنِّف منها:
‑ أنه «دلالة اللفظ على ثبوت حكم المسكوت عنه مخالف للحكم الذي دلّ عليه المنطوق نفيًا وإثباتًا»، أو هو: «الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عمّا عداه»(41).
وعبارة المصنِّف في تعريفه تظهر بأنَّ تعليق الحكم بالصفة في جنس يقتضي نفي الحكم عمَّا عدا الموصوف بتلك الصفة في ذلك الجنس من غير أن تتعدَّى إلى جنس آخر، وهو مذهب القائلين بحُجِّيَّة مفهوم الصفة، ففي الحديث السابق «فِي سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ» دلالة بالمفهوم على أنَّ معلوفة الغنم لا زكاة فيها بخلاف معلوفة الإبل والبقر ففيها الزكاة؛ لأنَّ المنطوق لم يتناول إلاَّ الجنس المذكور فمخالفه بالمقابل لا يتناول إلاَّ الجنس المذكور تحقيقًا لوجه المخالفة ومعناها(42).
وهذا المثال الذي ساقه المصنِّف يُعَدُّ أحد أنواع مفاهيم المخالفة، وهو مفهوم الصفة، وهو في نفس الوقت أحد صور مفهوم الصفة، وهو أن يذكر الخطاب العامّ مُعلَّقًا حكمه على وصف خاصٍّ يذكر بعده، ولمفهوم الصفة صور أخرى منها:
6 مفهوم الحال: وهو تقييد الخطاب بالحال ويدلُّ على نفي الحكم عمَّا عدا ذلك الحال، مثل قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة: 187]، فدلَّت الآية بمفهومها المخالف على حِلّ المباشرة إذا انتفت الحالة المعنية بالتحريم، وهي الاعتكاف، ومفهوم الحال معدود من مفاهيم الصفة؛ لأنَّ المراد الصفة المعنوية لا النعت(43).
6 مفهوم المكان: وهو تقييد الخطاب بالمكان ويدلُّ على نفي الحكم عمَّا عدا ذلك المكان، مثل قوله تعالى: ﴿وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة: 187]، حيث يفهم منه أنه لا اعتكاف في غير المساجد لمن يقول بذلك.
6 مفهوم الزمان: وهو تقييد الخطاب بالزمان ويدلُّ على نفي الحكم عمَّا عدا ذلك الزمان، مثل قوله تعالى: ﴿الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: 197]، فيفهم منه عدم صِحَّة الحجّ إذا وقع في غير زمانه(44).
6 مفهوم التقسيم: وهو تقييد الخطاب بأحد القسمين المذكورين في النص، ويدلُّ على نفي الحكم عن القسم الآخر، مثل قولِه صلى الله عليه وآله وسلم: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ وَإِذْنُهَا سُكُوتُها»(45)، فإنه يفهم بأنَّ البِكر ليست أحقّ بنفسها من وليِّها.
6 مفهوم العِلَّة: وهو تعليق الحكم بالعِلَّة ويدلُّ على نفي الحكم عمَّا لم تتعلق به تلك العِلَّة، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»(46)، فيُفهم منه تحليل غير المسكر(47).
[ في الاحتجاج بمفهوم الصفة ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 294] عند ذكر اختلاف العلماء في الاحتجاج بمفهوم الصفة:
«وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى القَوْلِ بهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعيِّ، وَمَنَعَ مِنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَبي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ».
[م] جميع مفاهيم المخالفة حُجَّة عند جمهور الفقهاء ما عدا مفهوم اللقب(48)، فليس بحُجَّة، لهذا قال الغزالي: «وقد أقرَّ ببطلانه كلُّ محصِّل من القائلين بالمفهوم»(49)، وأنكر أبو حنيفة الجميع، وبه قال ابن حزم الظاهري، وأبو بكر القفال، وأبو العباس بن سريج، والقاضي أبو حامد المروزي(50) والباقلاني وأبو حامد الغزالي، ووافقهم الأخفش(51) وابن فارس(52) وابن جِنِّي(53) من أئمّة اللُّغة، وإلى هذا القول مال المصنِّفُ وصحَّحه، واختاره الآمديُّ(54).
والصحيحُ مذهبُ الجمهور لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال له لمَّا أكثر عليه في شأن عبد الله بن أبي بن سلول: «…أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ، إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، قَدْ قِيلَ لِي: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾، لَوْ أَعْلَمْ أَنِّي لَوْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْتُ»(55)، ففهم أنَّ الزيادة على السبعين يكون له من الحُكم خلاف المنطوق، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَقْطَعُ الصَّلاَةَ ‑إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيِ الرَّجُلِ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ‑ المَرْأةُ وَالحِمَارُ وَالكَلْبُ الأَسْوَدُ»، قال عبد الله بن الصامت لأبي ذرٍّ: ما بال الأسود من الأحمر ؟ فقال: سألت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم كما سألتني، فقال: «الكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ»(56)، ففهم عبد الله بن الصامت وأبو ذر رضي الله عنهما من تعليق قطع الصلاة على الكلب الأسود انتفاء الحكم عن غيره، والنبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أقرَّه على ذلك الفهم وبيَّن له الفرق بين الموصوف بالسواد وغيره.
ومثله ما رواه مسلم عن يعلى بن أُميّة أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ [النساء: 101]، فقد أمن الناس، قال: عجبت ممَّا عجبت منه، فسألتُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»(57)، فالنبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أقرَّه على هذا الفهم وأجابه على الحكم، وقد فهم يعلى بن أمية وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ‑وهما من فصحاء العرب‑ هذا الفهم مع الإقرار النبويِّ له.
ومن ذلك اتفاق الصحابة رضي الله عنهم في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا التَقَى الخِتَانَانِ وَجَبَ الغُسْلُ»(58)، ناسخ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «المَاءُ مِنَ المَاءِ»(59)، الدالّ بمفهومه على نفي الغسل من غير إنزال، ولو لم يكن المفهوم حُجَّة لما كان نسخًا له .
وقد احتجَّ أهل اللُّغة بمفهوم المخالفة، ونكتفي بنصِّ الشافعي ‑وهو من أئمّة اللغة‑ حيث قال: «وفي إباحة الله تعالى نكاح حرائرهم، أي: أهل الكتاب، دلالة عندي ‑والله تعالى أعلم‑ على تحريم إمائهم؛ لأنَّ المعلوم في اللسان إذا قَصَدَ قَصَدَ صفة من شيء بإباحة أو تحريم، كان ذلك دليلاً على أنَّ ما قد خرج من تلك الصفة مخالف للمقصود قصده كما «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ»(60)، فدلَّ ذلك على إباحة غير ذوات الأنياب من السباع»(61).
وعليه، فإنه إذا كان التعليق بالعِلَّة يوجب نفيَ الحكم لانتفاء العِلَّة، فإنَّ التعليق بالصفة كذلك، إذ لابدَّ له من فائدة صونًا للكلام من اللغو، وإذا كان لا يستقيم أن يثبت تخصيص آحاد البلغاء بغير فائدة، فكلام الله ورسوله أجدر.
[ في احتجاج المانعين من حجية دليل الخطاب ]
• قال المصنف -رحمه الله- في [ص 295] في معرض الاستدلال على منع حُجِّية دليل الخطاب الذي صحَّحه:
«وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ الشِّيبَانِي عَنْ عَبْدِ اللهِ ابنِ أَبي أَوْفَى قَالَ: «نَهَى النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الجَرِّ الأَخْضَرِ، قُلْتُ: أَنَشْرَبُ فِي الأَبْيَضِ ؟ قَالَ: لاَ»، فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى الجَّرِّ الأَخْضَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ الأَبْيَضِ حُكْمُهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ فَلَوْ جَازَ التَّعَلُّقُ بدَلِيلِ الخِطابِ لَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بالمُخَالَفَةِ».
[م] فهذا دليلٌ من أدلَّة نفاة مفهوم المخالفة، وجوابه ‑عند الجمهور‑: أنَّ الأخضر صفة غالبة على الجَرِّ؛ لأنَّ الجرار الخُضر كانت شائعة بينهم، فكان ذِكر الأخضر لبيان الواقع لا للاحتراز(62)، وعليه فاللفظ خرج مخرج الغالب الأعمّ فلا مفهومَ له، وهو أحد القيود على حُجِّيَّة مفهوم المخالفة عند الجمهور(63).
ومن جهة أخرى فإنَّ الصحابي رضي الله عنه لما سأل عن حكم الأبيض إنما سأل بناءً على مفهوم المخالفة الجاري فهمه على لسانهم، فبيَّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنطوقه عدم الفرق بين الأخضر والأبيض، فلا يلزم من ذلك بطلانه، وإنما وجب المصير إلى المنطوق وتقديمه لقوته على المفهوم.
ولقد كان لاختلافهم في دليل الخطاب أثر واسع في الاختلاف في الفروع فمن ذلك:
6 نكاح الأَمَة مع طول الحرة، فقد ذهب الجمهور إلى العمل بالمفهوم المخالف في قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ [النساء: 25]، الدالّ على تحريم نكاح الأَمَة المؤمنة مع طول الحرة، لدلالة المنطوق على جواز نكاح الأَمة المؤمنة بشرط عدم استطاعة طول الحرة عملاً بدليل الخطاب خلافًا للأحناف.
6 نكاح الأَمَة الكتابية عند عدم استطاعته طول الحرّة، فقد ذهب الجمهور إلى العمل بالمفهوم المخالف من الآية السابقة حيث دلّت بمفهومها على تحريم نكاح الأَمة الكتابية لتقييد منطوقها بوصف الإيمان، وخالف الحنفية في ذلك جريًا على عدم الاحتجاج بالمفهوم المخالف(64).
6 كما يذهب الجمهور إلى عدم جواز نكاح الأَمَة مُطلقًا مؤمنةً أو كتابيةً مع عدم خوف العنت وهو الوقوع في الزنا، لقوله تعالى بعد الآية السابقة: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 25]، وخالف في ذلك الأحناف جريًا على أصلهم في الأخذ بعموم الآيات وعدم العمل بمفهوم المخالفة في الآية.
6 ما يذهب إليه الجمهور من أنَّ بيع النخل قبل أن يؤبَّر(65) فثمرته للمشتري أخذًا من مفهوم الصفة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمْرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ»(66)؛ «فقد جعل التأبير حدًّا لملك البائع للثمرة، فيكون ما قبله للمشتري، وإلاَّ لم يكن حدًّا، ولا كان ذكر التأبير مفيدًا(67)»(68)، وخالف أبو حنيفة ورأى أنَّ الثمرة للبائع سواء بين أن يكون النخل مؤبَّرًا أو غير مؤبَّرٍ، فإنَّ قَيْدَ التأبير لا يدلُّ على نفي الحكم عند عدمه(69).
6
ومن ذلك ما يذهب إليه الجمهورُ من أنَّ للأب إجبار ابنته البِكر البالغة على الزواج، استدلالاً بمفهوم الصفة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا»(70)، فإنَّ مفهومه أنَّ غير الثَّيِّبِ لا تكون أحقّ بنفسها، فيكون وليُّها أحقّ منها، لذلك كان له أن يجبرها، وخالف في ذلك أبو حنيفة حيث إنه لم ير للأب ولاية الإجبار على ابنته البكر البالغة(71)؛ لأنَّ مفهوم المخالفة ليس ‑عنده‑ حُجَّة.
1- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (289).
2- أخرجه ابن عدي في «الكامل» (2/573) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/95)، والحاكم في «المستدرك» (2/198)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/356)، وابن ماجه (1/659) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وللحديث طرق أخرى منها: حديث أبي ذر، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وابن عمر رضي الله عنهم، قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (371): «ومجموع هذه الطرق يظهر أنّ للحديث أصلاً»، وقد صحَّحه ابن حزم في «الإحكام» (5/149)، وقال النووي في «الأربعين» (328): «حديث حسن».
انظر: «نصب الراية» للزيعلي (2/64)، «الدراية» لابن حجر (1/175)، «التلخيص الحبير» لابن حجر (1/281)، «كشف الخفاء» للعجلوني (1/522)، «جامع العلوم والحكم» لابن رجب (350)، «المقاصد الحسنة» للسخاوي (369)، «إرواء الغليل» للألباني (1/123).
3- وبهذا قال الظاهرية والشيعة بأنَّ الصوم في السفر لا يجزئ عن الفرض، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة رضي الله عنهم وبه قال الزهري والنخعي.
انظر: «المحلى» لابن حزم (6/243)، «بداية المجتهد» لابن رشد (1/295)، «المغني» لابن قدامة (3/149)، «تفسير القرطبي» (2/279)، «المجموع» للنووي (6/264)، «فتح الباري» لابن حجر (4/183)، وانظر تفصيل المذاهب في هذه المسألة في «فقه أحاديث الصيام» للمؤلِّف العدد: (4).
4- انظر المصادر المثبتة على هامش «الإشارة» (289).
5- قال الشافعي في «الرسالة» (62، 63): «باب الصنف الذي يبين سياقه معناه: قال الله تبارك وتعالى: ﴿واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف: 163]، فابتدأ جلّ ثناؤه ذِكْرَ الأمر بمسألتهم عن القرية الحاضرة البحر، فلما قال: ﴿يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾ الآية، دلَّ على أنه إنما أهل القرية؛ لأنّ القرية لا تكون عادية ولا فاسقة بالعدوان في السبت ولا غيره، وأنه إنما أراد بالعدوان أهل القرية الذين بلاهم بما كانوا يفسقون».
6- ويسمِّيه بعضُهم بدلالةِ التنبيه، وبعضُهم سماه بفحوى الخطاب، وآخرون بلحن الخطاب، هذا ودلالة الإيماء على ستة أنواع وهي إحدى مسالك العِلة الاجتهادية.
7- انظر «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (3/373)، «مذكرة الشنقيطي» (234).
8- انظر معنى الاستقلال وما يقابله في «الإحكام للآمدي» (1/20)، «الإبهاج» للسبكي وابنه (1/212)، «مفتاح الوصول» للشريف التلمساني (282)، «نهاية السول» للإسنوي (1/248).
9- انظر: «المحصول» للرازي (2/2/574)، «الإحكام» للآمدي (3/267)، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (112)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (1/295)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (278).
10- أخرجه مالك في «الموطإ» (2/43)، والبخاري (9/657)، ومسلم (13/82)، وأبو داود (4/159)، وابن ماجه (2/1077)، والنسائي (7/200)، وابن الجارود في «المنتقى» (332) من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.
11- «مفتاح الوصول» للتلمساني (482-483) [ بتحقيقنا].
12- «أُفٍّ» بالتنوين، اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجّر وأتكرَّه من كلّ شيء. أمَّا بدون تنوين: أفْ، أفَّ، أفا وغير ذلك فتعني: أتضجر من شيء معيِّن. [ «معجم الإعراب والإملاء» (63)].
13- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (290).
14- انظر «مذكرة الشنقيطي» في الأصول (249-251)، «فتح المأمول» للمؤلف (97).
15- متفق عليه: أخرجه البخاري (5/151)، ومسلم (10/135) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
16- «مذكرة الشنقيطي» في الأصول (251).
17- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (291).
18- «الإحكام» لابن حزم (7/3، 56)، واختلف القول عن داود الظاهري في الاحتجاج به.
[انظر: «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (3/483)، و«إحكام الآمدي» (2/210)].
19- هو أبو الوليد محمَّد بن أحمد بن أبي الوليد بن رشد المالكي، الشهير بالحفيد الغرناطي، يلقب بقاضي الجماعة، كان عالمًا جليلاً، أصوليًّا فقيهًا، حافظًا متقنًا، له تصانيف في فنون متنوعة، منها: «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، و«منهاج الأدلة في الأصول»، و«الكلية في الطب»، و«جوامع كتب أرسطو في الطبيعيات والإلهيات»، توفي سنة (595ه)، بمراكش، ونقلت جثته إلى قرطبة.
انظر ترجمته في: «سير أعلام النبلاء» للذهبي (21/307-310)، «الديباج المذهب» لابن فرحون (284-285)، «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي (6/154)، «شذرات الذهب» لابن العماد (4/320)، «الفتح المبين» للمراغي (2/38-39)، «الفكر السامي» للحجوي (2/4/228-229).
20- «بداية المجتهد» لابن رشد (1/4).
21- «المسودة» لآل تيمية (346)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (21/207)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (179).
22- انظر مبحث القياس وحُجِّيَّته في (ص 356).
23- هو طرفٌ من حديثٍ طويلٍ متفق عليه: أخرجه البخاري (4/369، 376) (5/185، 187، 190، 313، 326)، ومسلم (10/140، 145) من حديث عائشة رضي الله عنها.
24- ويمثِّل له الأصوليون بقوله تعالى: ﴿لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ﴾ [ الأنبياء: 87]، فإنَّ الحصر بالنفي والإثبات يدلُّ على أنَّ غير الله سبحانه ليس بإله حقًّا، واعترض عن عدِّ هذه الأداة من المفهوم غلط، بل هي من المنطوق، وهو الصحيح؛ لأنَّ لفظة «لا» صريحة في النفي، ولفظة «إلاَّ» صريحة في الإثبات، فكلٌّ من النفي والإثبات منطوقٌ صريحٌ، [انظر: «نشر البنود» للعلوي (1/102)، «مذكرة الشنقيطي» (238)].
25- هو جزء من حديث أخرجه أحمد (1/ 123، 129)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (1/ 129)، والدارمي (1/ 175)، وأبو داود (1/ 49)، وابن ماجة (1/ 101)، والترمذي (1/ 9)، والبيهقي (2/ 173، 379)، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 17)، من حديث عليٍّ رضي الله عنه مرفوعًا، وأوَّل الحديث ومنتهاه بلفظ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» والحديث حسَّنه البغويُّ، وصحَّحه الألباني بمجموع الشواهد.
[انظر: «المجموع للنووي» (3/ 389)، و«نصب الراية» للزيلعي (1/ 308)، و«الدراية» لابن حجر (1/ 126)، و«صحيح الجامع الصغير» للألباني (5/ 211)].
26- أخرجه أحمد (3/296، 299)، والبخاري (4/407، 408، 436) (5/134، 12/345)، وأبو داود (3/784)، وابن ماجه (2/834)، والترمذي (3/653)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/122)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (6/102)، وابن الجارود في «المنتقى» (247)، والبغوي في «شرح السُّنَّة» (8/240)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
27- انظر: «البرهان» للجويني (1/480)، «المنهاج» (25)، «إحكام الفصول» كلاهما للباجي (513)، «تيسير التحرير» لبادشاه (1/102)، «نشر البنود» للعلوي (1/102).
28- «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (57).
29- أخرجه أحمد (1/25، 43)، والبخاري (1/9)، ومسلم (13/53)، وأبو داود (2/651)، والترمذي (1/179)، والنسائي (1/85)، وابن ماجه (2/1413)، من حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.
30- انظر: «فتح الباري» لابن حجر (1/12)، «موسوعة القواعد الفقهية» للبورنو (132).
31- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (18/266).
32- للطوفي قولان: أحدهما يوافق قول الآمدي كما في مختصره «البلبل»، والثاني ‑وهو آخر القولين‑ أنَّ «إنما» تفيد الحصر كما هو مذهب الجمهور.[انظر: «شرح المختصر» للطوفي (2/746)].
33- وقد حقَّق شيخُ الإسلام بأنَّ «ما» وإن لم تدلّ على النفي في «إنما» فإنها متضمِّنة له، قال: «كما أنَّ «إنَّ» إذا كفت ب «ما» النافية صارت متضمِّنة للنفي والإثبات» «مجموع الفتاوى» (14/429).
34- هو أبو الربيع نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم المعروف بابن أبي العباس الطوفي الصرصري، فقيه حنبلي، قال عنه ابن رجب: «وكان شيعيًّا منحرفًا في الاعتقاد عن السنة»، ويقال: إنه تاب عن تشيعه، ونسب إليه أنه قال عن نفسه:
حنبلي رافضي ظاهري أشعري إنها إحدى الكبر
له مصنفات كثيرة في فنون شتى، منها: «مختصر روضة الناظر»، وشرحه عليه، و«معراج الوصول إلى علم الأصول»، في أصول الفقه، و«بغية السائل في أمهات المسائل»، في أصول الدين، و«الإكسير في قواعد التفسير»، و«الرياض النواضر في الأشباه والنظائر». توفي سنة (716ه).
انظر ترجمته في: «ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب (2/366)، «الدرر الكامنة» لابن حجر (2/154)، «بغية الوعاة» للسيوطي (262)، «الأنس الجليل» للعليمي (2/257)، «شذرات الذهب» لابن العماد (6/39)، «جلاء العينين» لابن الآلوسي (36).
35- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (293).
36- المثبتون للحصر ‑وهم الجمهور‑ يختلفون في الجهة التي تدلّ على الحصر، أهي النطق أم الفهم ؟
37- «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (3/489).
38- «إرشاد الفحول» للشوكاني (179).
39- «إحكام الفصول» (515)، «الحدود» كلاهما للباجي (50).
40- سبق تخريجه، انظر: (ص 71).
41- انظر تعريفات دليل الخطاب في المصادر المثبتة على هامش «الإشارة» (294).
42- يذهب فريقٌ من القائلين بحُجِّيَّة مفهوم الصفة إلى القول بأنَّ تعليقَ الحكم على صفةٍ في جنسٍ يقتضي نفيَ الحكمِ عَمَّا عدا الموصوف بتلك الصفة في ذلك الجنس وغيره، فالزكاة كما لا تجب في معلوفة الغنم لا تجب ‑أيضًا‑ في معلوفة الإبل والبقر، تأسيسًا على أنَّ الوصف في الحكم عِلَّة الحكم، والحكم ينتفي بانتفاء عِلَّته، وهو غير مسلم؛ لأنَّ الصفة قد تكون عِلَّةً كالإسكار، وقد لا تكون إلاَّ مكمِّلة للعِلَّة كالسوم في الغنم.
43- فمفهوم الحال والزمان والمكان وغيرها تُعَدُّ من جملة مفاهيم الصفة، وإنما أفردها بعضُ العلماء بالذِّكر تكميلاً للفائدة، قال الشوكاني في «إرشاد الفحول» (183): «قال ابن السمعاني: ولم يذكره المتأخِّرون لرجوعه إلى الصفة، وقد ذكره سليم الرازي في التقريب وابن فورك»، وقال ‑أيضًا‑ في مفهوم الزمان والمكان: «وهو في التحقيق داخل في مفهوم الصفة باعتبار متعلِّق الظرف المقدر كما تقرّر في علم العربية».
44- «مذكرة الشنقيطي» (238).
45- أخرجه مسلم (9/205)، وأبو داود (2/577)، وابن ماجه (1/601)، والترمذي (3/416)، والنسائي (6/84)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
46- أخرجه مسلم (13/172)، وأبو داود (4/85)، وابن ماجه (2/1124)، والترمذي (4/290)، والنسائي (8/296)، وأحمد (2/16، 29، 31)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
47- الفرق بين مفهوم الصفة ومفهوم العِلَّة، أنَّ الصفةَ قد تكون عِلَّةً كالإسكار، وقد لا تكون علةً بل مُتمِّمة كالسوم، فإن الغنم هي العِلَّة والسوم مُتمِّمٌ، لذلك كان الخلاف فيه وفي مفهوم الصفة واحدًا. [«إرشاد الفحول» للشوكاني (181)]، لكن من ‑حيث القوةُ‑ فمفهوم العِلَّة أقوى من مفهوم الصفة، ومفهوم الحصر بالنفي والإثبات أقوى من المفاهيم الأخرى ترتيبًا لما ذكره بعضُهم أنه من المنطوق.
48- مفهوم اللقب أضعف المفاهيم، وهو تقييدُ الحكمِ أو الخبرِ باسمٍ جامدٍ سواء كان اسم جنسٍ أو اسم جمعٍ، أو اسم عينٍ لقبًا كان أو كنيةً أو اسمًا، فلا يدلُّ على نفي الحكم عمَّا عداه، فلو قال: «قام زيد» لا يدلُّ على أنَّ غيرَه لم يقم، وقد قال بحُجِّيَّته الدقاق من الشافعية، ونسب القول إلى ابن خويز منداد وابن القصار من المالكية وغيرهم، وقد فصَّل ابن السمعاني في تعليق الحكم بالاسم فجعله ضربين: أحدهما: اسم مشتقٌّ من معنى كالمسلم والكافر والزاني والقاتل، فحكمه حكم الصفة في قول جمهور أصحاب الشافعي.. والثاني: اسم لقبٍ غير مشتق من معنى كالرجل والمرأة ونحوه، فمذهب الشافعي أنه غير حجَّة. [«البحر المحيط» للزركشي (4/29)].
هذا، وقد بيَّن ابن تيمية أنَّ مفهوم اللقب على نوعين حيث قال: «لقبٌ هو جنس ولقبٌ يجري مجرى العَلَم، مثل: زيد، وأنت، وهذا المفهوم أضعف المفاهيم، ولهذا كان جماهير أهل الأصول والفقه على أنه لا يحتج به، فإذا قال: «محمَّد رسول الله» لم يكن هذا نفيًا للرسالة عن غيره، ولكن إذا كان سياق الكلام ما يقتضي التخصيص فإنه يحتج به على الصحيح كقوله: ﴿ففهمناها سليمان﴾، وقوله: ﴿كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون﴾، أما إذا كان التخصيص لسبب يقتضيه فلا يحتج به باتفاق الناس». [«منهاج السنة النبوية» لابن تيمية (7/331)].
ومن آثار الخلاف أنَّ مَن أوصى بوصية لزيد ثمَّ أوصى بها لبكر، فلا يُعَدُّ رجوعًا عن الوصية إلاَّ على رأي من يحتجُّ بمفهوم اللقب، ومن قال عند الخصومة: «إنَّ زوجتي ليست بزانية» فلا يُعَدُّ قذفًا لزوجة خصمه إلاَّ على رأي من يقول بحُجَّيَّةِ مفهومِ اللقب.
[انظر تفصيل المذاهب في «شرح اللمع» للشيرازي (1/441)، «البرهان» للجويني (1/470)، «الوصول» لابن برهان (1/338)، «المحصول» للرازي (1/2/225)، «روضة الناظر» لابن قدامة (2/224)، «الإحكام» للآمدي (2/231)، «منتهى السول» لابن الحاجب (152)، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (271)، «العدة» لأبي يعلى (2/475)، «فواتح الرحموت» للأنصاري (1/432)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (182)].
49- «المستصفى» للغزالي (2/204).
قال الشنقيطي في «مذكرته» (239): «الفرق بين مفهوم الصفة ومفهوم اللقب، أنَّ تخصيص الغنم بالسوم مثلاً لو لم يكن للفرق بين السائمة وغيرها في الحكم لكان تطويلاً بلا فائدة، بخلاف: جاء زيد فإن تخصيصه بالذِّكر ليمكن إسناد المجيء إليه، إذ لا يصح الإسناد بدون مسند إليه».
50- هو أبو حامد أحمد بن بشر بن عامر العامري المروزي القاضي، فقيه من كبار الشافعية، والمعتمد في المشكلات المعقدة، أخذ الفقه عن أبي إسحاق المروزي، وله كتاب «الجامع» في المذهب أحاط فيه بالأصول والفروع، «والإشراف على الأصول»، و«شرح مختصر المزني»، توفي سنة (362ه).
انظر ترجمته في: «طبقات الفقهاء» للشيرازي (114)، «طبقات الشافعية» للسبكي (3/12)، «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/199)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (1/69)، «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (2/211)، «مرآة الجنان» لليافعي (2/375)، «البداية والنهاية» لابن كثير (11/209)، «شذرات الذهب» لابن العماد (3/40).
51- هو أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي ثمَّ البصري، أحد أئمة النحو واللغة، أخذ النحو عن سيبويه، وصحب الخليل، ويعرف ب «الأخفش الأوسط» ومن أشهر مؤلفاته: «تفسير معاني القرآن»، و«المقاييس في النحو»، و«الاشتقاق»، و«شرح أبيات المعاني»، توفي سنة (215ه).
انظر ترجمته في: «وفيان الأعيان» لابن خلكان (2/380)، «طبقات النحويين» للزبيدي (72)، «مرآة الجنان» لليافعي (2/61)، «معجم الأدباء» للحموي (11/224)، «طبقات المفسرين» للداودي (1/191)، «بغية الوعاة» للسيوطي (258)، «شذرات الذهب» لابن العماد (2/36).
52- هو أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، الإمام اللغوي المفسر، كان نحويًّا على طريقة الكوفيين، له تصانيف كثيرة منها، «مقاييس اللغة»، و«غريب إعراب القرآن»، و«جامع التأويل في تفسير القرآن»، و«سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم»، و«حلية الفقهاء»، توفي سنة (395ه).
انظر ترجمته في: «الفهرست» للنديم (80)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان» (1/118)، «معجم الأدباء» للحموي (4/80)، «طبقات المفسرين» للداودي (1/60)، «أنباه الرواه» للقفطي (1/92)، «بغية الوعاة» للسيوطي (153)، «طبقات المفسرين» للسيوطي (26)، «شذرات الذهب» لابن العماد (3/132).
53- هو أبو الفتح عثمان بن جِنِّي الموصلي النحوي اللغوي، إمام العربية، من أعلم أهل اللغة بالنحو والتصريف، وأحذق أهل الأدب في هذه الصناعة، قرأ الأدب على أبي عليّ الفارسي، وله تصانيف من أشهرها: «الخصائص»، و«سر الصناعة»، و«المبهج»، و«التصريف الملوكي»، و«شرح تصريف المازني»، وله نظم جيد، توفي سنة (392ه).
انظر ترجمته في: «الفهرس» للنديم (95)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (11/311)، «اللباب» لابن الأثري (1/299)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (3/246)، «سير أعلام النبلاء» (17/17)، «دول الإسلام» كلاهما للذهبي (1/236)، «مرآة الجنان» لليافعي (2/445)، «البداية والنهاية» لابن كثير (11/331)، «بغية الوعاة» للسيوطي (322)، «معجم الأدباء» للحموي (12/81)، «شذرات الذهب» لابن العماد (3/140).
54- انظر المصادر الأصولية المثبة على هامش «الإشارة» (295).
55- أخرجه الترمذي (5/279)، والنسائي (4/76)، وأحمد (1/16)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (3/ 123(1131).
56- أخرجه الترمذي (2/161)، والنسائي (2/63)، وابن ماجه (1/306)، قال الترمذي: «حديث أبي ذر رضي الله عنه حسن صحيح»، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (6/351 رقم (7987).
57- أخرجه مسلم (6/96)، وأبو داود (2/7)، وابن ماجه (1/339)، والترمذي (5/242)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
58- سبق تخريجه، انظر: (ص 141).
59- أخرجه ابن ماجه (1/199)، والنسائي (1/115)، من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ورواه مسلم (4/38)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: «إِنَّمَا المَاءُ مِنَ المَاءِ».
60- أخرجه البخاري (9/657)، ومسلم (13/82)، وأبو داود (4/159)، والنسائي (7/200)، وابن ماجه (2/1077)، ومالك في «الموطأ» (2/43)، من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.
61- «الأم» للشافعي (5/6).
62- «فتح الباري» لابن حجر (10/61).
63- انظر موانع اعتبار مفهوم المخالفة، أو شروط العمل بمفهوم المخالفة في «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (271)، و«البحر المحيط» للزركشي (4/17)، و«نشر البنود» للعلوي (1/98)، و«مذكرة الشنقيطي» (241)، و«الفتح المأمول» (101).
64- انظر «المغني» لابن قدامة (6/596)، «فتح القدير» للشوكاني (1/450).
65- التأبير: هو التلقيح أي شقّ طلع النخلة الأنثى ليذر فيها من طلع النخلة الذكر. [«النهاية» لابن الأثير (1/13)، «مختار الصحاح» للرازي (2)].
66- حديث متفق عليه: أخرجه البخاري (4/401، 404) (5/49، 313)، ومسلم (10/191)، ومالك في «الموطإ» (2/124)، والشافعي في «مسنده» (142)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
67- «المغني» لابن قدامة (4/65)، «الهداية» للمرغيناني (3/25).
68- «مفتاح الوصول» للتلمساني (561).
69- انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (2/189)، «شرح مسلم» للنووي (10/191)، «فتح الباري» لابن حجر (4/402)، «تفسير النصوص» لمحمَّد أديب صالح (1/705).
70- تقدّم تخريجه، انظر: (ص 343).
71- انظر: «المحلى» لابن حزم (9/458)، «المنتقى» للباجي (3/267)، «بداية المجتهد» لابن رشد (2/5)، «المغني» لابن قدامة (6/487)، «تبيين الحقائق» للزيلعي (2/118)، «مغني المحتاج» للشربيني (3/149).