-الجزء التاسع عشر-
بـاب
ترجيحات الـمتـون
تنقسم وجوهُ الترجيح باعتبار متن الحديث إلى ما يتعلَّق بلفظ الحديث أوّلاً، وما يتعلَّق بدلالة الحديث ثانيًا، وما يتعلَّق بمدلول الحديث ثالثًا.
[ في الترجيح بسلامة متن الخبر من الاضطراب ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 337]:
«أَحَدُهَا: أَنْ يَسْلَمَ أَحَدُ المَتْنَيْنِ مِنَ الاضْطِرَاب وَالاِخْتِلاَفِ، وَيَكُونَ مَتْنُ الحَدِيثِ الثَّانِي المُعَارِضِ لَهُ مُضْطَرِبًا مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَيَكُونُ السَّالِمُ مِنَ الاضْطِرَابِ أَوْلَى؛ لأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الحفْظِ وَالإِتْقَانِ».
[م] فهذا وجهٌ من وجوه الترجيح باعتبار المتن يتعلَّق بلفظ الحديث حيث رُجِّح ما سلم لفظه وتيقَّن حفظه على المضطرب، لما في المضطرب من تنافر الألفاظ واختلافها بالزيادة والنقصان، الأمر الذي لا تنتظم فيه الرواية ولا ترتبط ألفاظها بعضها ببعض، لذلك كان الظنُّ بصِحَّة ما سلم من الاضطراب يقوى ويغلب، ويضعف في النفس ما اختلف لفظه؛ لأنَّ اختلاف اللفظ يؤدِّي إلى اختلاف المعاني، ويدلُّ على قِلَّة ضبط الراوي وضعفه وكثرة تساهله في الرواية(1)، ويصلح لتمثيل هذا الوجه من الترجيح ما تقدَّم من حديث عبد الله بن عُكَيْم قال: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى جُهَيْنَةَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَنْ لاَ تَنْتَفِعُوا مِنْ المَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلاَ عَصَبٍ»(2)، الذي يدلُّ على تحريم الانتفاع بجِلد الميتة مُطلقًا، ويعارضه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «إِذَا دُبِغَ الإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ»(3)، الذي يدلُّ على جواز الانتفاع بجِلد الميتة بعد الدباغ، وقد رجَّح الجمهور حديث ابن عباس رضي الله عنهما لعِدَّة مرجّحات ذُكِرَتْ في الوجه الرابع من الترجيح بالسند، ومنها: اضطراب متن حديث ابن عكيم، فإنه روي تارةً بالتقييد بشهر أو شهرين وبأربعين يومًا، وبثلاثة أيام، وتارة من غير تقييد، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما سالم من الاضطراب، وهو أولى بالتقديم؛ لأنَّ ذلك دليلُ الحفظ والإتقان(4).
[ في ترجيح الخبر المتضمن حكمًا منطوقًا به ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 338]:
«وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا تَضَمَّنَهُ أَحَدُ الخَبَرَيْنِ مِنَ الحُكْمِ مَنْطُوقًا بهِ، وَالآخَرُ مُحْتَمَلاً، فَيُقَدَّمُ مَا يُنْطَقُ بحُكْمِهِ؛ لأَنَّ الغَرَضَ فِيهِ أَبْيَنُ، وَالمَقْصُودَ فِيهِ أَجْلَى».
[م] وهذا وجهٌ آخَرُ من وجوه الترجيح باعتبار المتن يتعلَّق بلفظ الحديث، وقد مثَّل له المصنِّف بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وَفِي الرِّقَةِ(5) رُبْعُ العُشْرِ»(6)، الذي يدلُّ على وجوب الزكاة في مال الصبي(7)، ويعارضه حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يَفِيقَ»(8)، الذي يدلُّ على عدم تكليف الصبي(9)، وخبر أنسٍ بن مالك رضي الله عنه مُقدَّم عليه؛ لأنَّ فيه إيجاب الزكاة في المال، وأنَّ حُكمَه منطوق به غير محتمل، وخبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليس فيه نفي الزكاة عن المال وإنما فيه نفي وجوبها على الصبي، وإنما تجب الزكاة في مال الصبي على وليِّه من أبٍ أو وَصِيٍّ أو حاكِمٍ، فكان المقصود في حديث أنسٍ رضي الله عنه الدالِّ على وجوب الزكاة في مال الصبي أجلى، والغرض منه أوضح(2).
[ في ترجيح الخبر المستقل بنفسه ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 338]:
«وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الخَبَرَيْنِ مُسْتَقِلاًّ بنَفْسِهِ، وَالآخَرُ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بنَفْسِهِ، فَيَكُونُ المُسْتَقِلُّ بنَفْسِهِ مُتَعَيِّنًا أَوْلَى؛ لأَنَّ المُسْتَقِلَّ بنَفْسِهِ يُتَيَقَّنُ المُرَادَ بهِ، وَغَيْرَ المُسْتَقِلِّ بنَفْسِهِ لاَ يُتَيَقَّنُ المُرَادُ بهِ إِلاَّ بَعْدَ نَظَرٍ وَاسْتِدْلاَلٍ».
[م] وهذا الوجه من الترجيح يتعلَّق بدلالة الحديث، حيث يُرجَّح ما كان مُستقلاًّ بنفسه مُستغنِيًا عن الضمير فيه على الآخر المفتقر إليه؛ لأنّ الإضمار خلافُ الأصل، فالأصلُ استقلالُ كُلِّ نصٍّ بالإفادة؛ ولأنَّ المستقِلَّ بنفسه معلوم المراد منه، والمحذوف منه قد يلتبس فيه ما هو المضمر منه، ولأنَّ الاستقلالَ حقيقةٌ والإضمارَ مجازٌ، والحقيقةُ مُقدَّمةٌ على المجاز(10)، ومَثَّلَ له المصنِّف بقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ﴾ [البقرة: 196]، حيث إنَّ المالكيةَ يستدلُّون بها على أنَّ المحصر بمرض لا يتحللُّ دون البيت(11)، فيعارضهم الأحناف بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: 196]، فيُجيب المالكية: بأنّ آيتنا لا تحتاج إلى ضمير، وآيتكم تفتقر إلى ضمير يَتمُّ الكلام بها، وهو قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ فتحللتم ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، وما لا يفتقر إلى ضميرٍ أَوْلَى بالتقديم ممَّا يفتقر إليه؛ لأنّ المستقِلَّ بنفسه متيقّن المراد منه، بخلاف المحذوف ربما التبس واختلف فيما هو مقدّر فيه، فوجب تقديم المستقِلِّ بنفسه؛ لأنه لا يحتمل التأويل(12).
[ في الجمع بين الخبرين باعتبار الحال ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 339]:
«وَالرَّابعُ: أَنْ يُسْتَعْمَلَ الخَبَرَانِ فِي مَوْضِعِ الخِلاَفِ، فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا وَاطِّرَاحِ الآخَرِ؛ لأَنَّ فِي ذَلِكَ اطِّرَاحَ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ، وَاسْتِعْمَالَهُمَا أَوْلَى مِن اطِّرَاحِ أَحَدِهِمَا».
[م] لا يندرج هذا الوجه -في حقيقة الأمر- تحت باب الترجيح، وإنما هو من أوجه الجمع بين الدليلين المتعارضين، ويظهر ذلك بما مَثَّل به المصنِّفُ في استدلال المالكي بأنَّ المرأة لا يصحُّ أن تنكح نفسها إلاَّ بوليٍّ(13)، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ»(14)، فيعارِضُه الحنفيُّ بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا»(15)، فيُجيب المالكيُّ: «إنَّ معنى كونها «أَحقّ بنفسها من وليها» أنه ليس له إجبارها على النكاح ولا إنكاحها بغير إذنها، وإنما له أن يزوِّجَها بإذنها ممَّن ترضاه، وليس لها هي أن تعقد على نفسها نكاحًا، ولا تباشره، ولا أن تضع نفسها عند غير كفءٍ، ولا أن تُوَلي ذلك غير وليها(16)، بمعنى أنه يحمل دليل المالكي على صِحَّة العقد، ويحمل دليل الحنفي على الإرادة دون العقد، فيستعمل الخبران جميعًا(17).
ومن هذا المثال يظهر أنَّ هذا الوجه من قبيل الجمع بين خبرين متعارضين وردَا على شيءٍ واحدٍ بحُكمين مختلفين، فيُجمع بينهما بتنزيل كُلِّ واحدٍ من الحُكمين على حالٍ يختلف عن حالِ الآخَر، وهذا النوع من الجمع يسمى ب «الجمع باختلاف الحال»(18) يرتفع فيه التعارض بين الحُكمين المختلفين كليهما، قال الباجي في «المنتقى»: «فلكُلِّ واحدٍ منهما حقّ في عقد النكاح، ووجه كونها أحقّ به أنها إن كرهت النكاح لم ينعقد بوجه، وإن كرهه الوليُّ ورغبته الأيم عرض على الولي العقد، فإن أبى عَقَدَهُ غيرُه من الأولياء أو السلطان، فهذا وجهُ كونها أحقّ به من وليها(19)»، وعليه يكون العمل بالدليلين كلاًّ في موضعه، ويتمُّ ذلك من خلال القرائن والأدلَّة التي ترشد إلى موضع كلٍّ منهما.
ومن أمثلة هذا النوع من الجمع: قولُه صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا»(20)، ويعارضه حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلاَ يُوفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ»(21)، فهو يدلُّ على ذمّ من يأتي بالشهادة قبل أن يسألها على خلاف الحديث الأوَّل الذي امتدحه بأنه خير الشهداء، وقد جمع جماهير العلماء بين الحديثين باختلاف الحال، وذلك بإنزال كُلِّ واحدٍ منهما على حالة تخالف الحالة الأخرى، فحديث عمران بن حصين رضي الله عنه يُنَزَّلُ الذمُّ فيه على من سارع بالشهادة في حقِّ آدميٍّ وهو عالم بها قبل أن يَسْأَلَ الشهادةَ صاحبُ الحقِّ، بينما المدح يُنَزَّلُ على حالة من كانت عنده شهادة لآدمي ولا يعلم بها صاحبها فيخبره بها ليستشهده عند القاضي إن أراد(22)، أو بموت صاحبها العالم بها ويخلف ورثة فيأتي الشاهد إليهم أو إلى من يتحدّث عنهم فيعلمهم بذلك، وقال ابن حجر: «وهذا أحسن الأجوبة»(23).
[ في ترجيح الخبر العام المحفوظ ]
• يقول الباجي -رحمه الله- في [ص 339]:
«وَالخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ العُمُومَيْنِ مُتَنَازَعًا فِي تَخْصِيصِهِ، وَالآخَرُ مُتَّفَقًا عَلَى تَخْصِيصِهِ، فَيَكُونُ التَّعَلُّقُ بعُمُومٍ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى تَخْصِيصِهِ أَوْلَى».
[م] وهذا وجهٌ آخَرُ من وجوه الترجيح باعتبار المتن يتعلَّق بلفظ الحديث، وهو أن يُرجَّحَ العامُّ المحفوظُ الذي لم يخصَّص على الذي خُصِّص، أو يكون العامُّ اخْتُلِفُ في تخصيصه فإنه يُرجَّحُ على العموم المتفق على تخصيصه، وبهذا قال الجمهور(24)، وتظهر أولويةُ العموم الذي لم يُجمَع على تخصيصه من وجهين:
الأول: إنَّ الذي دخله التخصيصُ قد أُزيل عن تمام مسمَّاه فكان مجازًا، بخلاف الذي لم يدخله التخصيصُ فلم يزل عن تمام مسمَّاه فكان حقيقةً، والحقيقةُ مقدَّمةٌ على المجاز.
الثاني: إنَّ الذي دخله التخصيصُ ضعيفٌ بالنظر إلى الاختلاف الحاصل في حُجِّية العموم بعد تخصيصه، هل يبقى حُجَّةً فيما بقي من العموم أم لا ؟(25)، والذي لم يخصَّص أرجح للاتفاق على حُجِّيَّتِه بخلاف المخصَّص، ففيه خلاف(26).
وخالف في هذه المسألة صفي الدِّين الهندي والسُّبكي ومَن وافقَهما، حيث يقرِّرون أنَّ العامَّ المخصَّص مُقدَّمٌ على الذي لم يدخله التخصيص لاعتبارين:
1 - إنَّ الذي دخله التخصيصُ من العامِّ هو الغالب والكثيرُ، والذي لم يدخله التخصيص نادرٌ، والغالب أرجح من النادر.
2 - إنَّ العامَّ المخصَّصَ قد قلَّت أفراده حتى قارب النصَّ، إذ كُلُّ عامٍّ لا بُدَّ أن يكون نصًّا في أقلّ متناولاته، وإذا قرب من الأقلِّ فقد قرب من التنصيص، والنصُّ أَوْلَى بالتقديم من الظاهر.
ومذهبُ الجمهور أقوى؛ لأنَّ العامَّ إذا دخله التخصيصُ وإن كان غالبًا أو قلَّت أفرادُه حتى قارب النصَّ فإنه يصير مجازًا ويضعف لفظُه، والعامُّ الذي لم يدخله التخصيصُ وإن كان نادرًا في الشريعة إلاَّ أنه باقٍ على قُوَّتِهِ للاتفاق على حُجِّيَّته؛ ولأنَّ دلالةَ العامِّ غيرِ المخصوصِ قطعيةٌ على الصحيح، بينما دلالةُ العامِّ المخصوصِ ظنِّيةٌ فيُرجَّحُ القطعيُّ على الظنِّيِّ، ولو كان العامُّ المخصوصُ قد قَلَّتْ أفرادُه حتى قارب النصَّ، فإنَّ العامَّ غيرَ المخصوصِ نصٌّ في جميع متناولاته قطعًا بالأصالة إذا خلا من ورود احتمال، بخلاف العامِّ المخصوصِ، فلذلك كان العامُّ الذي لم يقترن بما يمنع اعتبارَ عمومِهِ أَوْلَى مِن المقترن بما يمنع اعتبارَ عمومه.
وقد مثّل له المصنِّف بآية ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 3]، فإنها ليست باقيةً على عمومها بإجماع المسلمين؛ لأنَّ الأُخت من الرضاع لا تحلُّ بملك اليمين بالاتفاق، للإجماع الحاصل في أنَّ عمومَ ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يخصِّصُه عمومُ ﴿وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [النساء: 23]، وموطوءةُ الأب لا تحلُّ بمِلك اليمين بالاتفاق للإجماع على أنَّ عمومَ ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ يخصِّصُه عمومُ ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء﴾ [النساء: 22]، أمَّا عمومُ آية ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ [النساء: 23]، فإنها لم يدخلها تخصيصُ، فتقدَّم على الآية التي دخلها تخصيصٌ، وعليه فلا يجوز الجمع بين الأُختين بملك اليمين في التسري(27).
هذا، والمثالُ الذي ساقه المصنِّفُ غيرُ واردٍ في تعارُضِ خبرين عامَّين، وإنما أورد تعارض عامين من جهة الكتاب(28).
[ في ترجيح الخبر الذي يقصد به تشريع الحكم ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 339]:
«وَالسَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الخَبَرَيْنِ يُقْصَدُ بهِ بَيَانُ الحُكْمِ، وَالآخَرُ لاَ يُقْصَدُ بهِ بَيَانُ الحُكْمِ، فَيَكُونُ مَا قُصِدَ بهِ بَيَانُ الحُكْمِ أَوْلَى؛ لأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الاِحْتِمَالِ».
[م] وهذا الوجه من الترجيح يتعلَّق بدلالة الحديث، حيث يُرجَّح الخبر الذي يُقصد به تشريعُ الحكم على الخبر الذي لا يُقصد به بيان الحكم؛ لأنه أبلغ في المقصود وأبعدُ من الاحتمال، ومَثَّلَ له المصنِّف بما استدلَّ به الجمهور على طهارة جلود السباع(29)، بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ»(30)، الذي يعارضه ما استدلَّ به الأحنافُ على نهي النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: «عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ أَنْ تُفْتَرَشَ»(31)، فجوابُه: أنَّ الخبرَ الأوَّلَ قصد به شرع الحكم، أمَّا خبر الحنفية لم يكن واردًا على بيان الحكم، وإنما النهي تقرَّر لما في افتراشها من الخُيَلاء والسَّرَفِ والتشبُّه بالأعاجم، ويحتمل أن يكون نهيه عن افتراشها تعبُّدًا محضًا، وإن كانت طاهرة، فكان خبرُ الجمهور أبلغَ في الدلالة على المقصود، وأبعدَ من الاحتمال(32).
ومثالٌ آخَرُ ساقَهُ التلمسانيُّ في ترجيح حديث جبريل في أنه: «صَلَّى بِهِ العَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ»(33)، على الحديث الذي تمسَّكت به الحنفيةُ من أنَّ أوَّلَ الوقت أن يصيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ(34)، وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الكِتَابِ قَبْلَكُمْ مَثَلُ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ مَا بَيْنَ غَدْوَةٍ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ، فَعَمِلَتِ اليَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلْ فِيمَا بَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى العَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ، فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلْ فِيمَا بَيْنَ العَصْرِ وَالمَغْرِبِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ، فَعَمِلْتُمْ أَنْتُمْ، فَغَضِبَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرُ عَمَلاً وَأَقَلُّ عَطَاءً، فَقَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا ؟ فَقَالُوا: لاَ، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ»(35).
ووجه استدلال الحنفية: أنَّ الحديث يدلُّ على أنَّ ما بين العصر والمغرب أقلّ ممَّا بين الزوال والعصر، ولا يصحُّ ذلك إلاَّ إذا كان أول وقت العصر أن يصير ظلُّ كُلِّ شيء مثليه(36). فجوابه: أنّ هذا الحديثَ قصد به ضرب المثل ولم يقصد به شرع الحكم، وأمَّا حديث جبريل فهو مقصود بنفسه في شرع الحكم(37).
[ في ترجيح الخبر المؤثر في الحكم ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 340]:
«وَالسَّابعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الخَبَرَيْنِ مُؤَثِّرًا فِي الحُكْمِ وَالآخَرُ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِيهِ، فَيَكُونُ المُؤَثِّرُ أَوْلَى».
1- «إحكام الفصول» (746)، «المنهاج» كلاهما للباجي (228).
2- تقدّم تخريجه، انظر: (ص 456).
3- تقدّم تخريجه، انظر: (ص 456).
4- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (ص 338)، والمصادر المذكورة في الوجه الرابع من الترجيح بالسند (ص 455). وحريٌّ بالتنبيه إلى أَنَّ الزيادة في متن الحديث لا توجب اضطرابًا حتى يُقدَّم عليها الحديثُ المجرَّدُ عن الزيادة؛ لأنَّ الزيادة في المتن في معنى خبرين منفصلين؛ لأنَّ ما اتفقَا عليه لم يقع فيه اضطراب ولا اختلاف، وإنما انفراد أحدهما بزيادة على صاحبه، فهو بمثابة انفراد بخبر آخر. [«إحكام الفصول» (746)].
5- المراد بالرِّقَة الفضّة والدراهم المضروبة منها، وأصل اللفظة الوَرِق، وهي الدراهم المضروبة خاصّة، فحذفت الواو وعوض منها الهاء، وتجمع الرِّقة على رقات، ورقين. [«النهاية» لابن الأثير (2/254)].
6- أخرجه البخاري في «الزكاة» (3/317) باب زكاة الغنم، وأبو داود في «الزكاة» (2/214) باب في زكاة السائمة، والنسائي في «الزكاة» (5/27) باب زكاة الغنم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
7- مسألة وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون مختلف فيها، ويرجع سبب اختلافهم إلى مفهوم الزكاة الشرعية، هل هي عبادة كالصلاة والصيام، أم هي حقٌّ واجب للفقراء على الأغنياء ؟ فمن قال: إنها عبادة، اشترط فيها البلوغ، ومن قال: إنها حقّ واجب للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء، لم يعتبر في ذلك البلوغ من غيره. [«بداية المجتهد» لابن رشد (1/245)].
8- أخرجه أبو داود في «الحدود» (4/558) باب المجنون يسرق أو يصيب حدًّا، والترمذي في «الحدود» (4/32) باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحدّ، وابن ماجه في «الطلاق» (1/658) باب طلاق المعتوه والصغير والنائم من حديث علي رضي الله عنه، والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (3/179)، وفي «إرواء الغليل» (2/5).
9- «إحكام الفصول» (746)، «المنهاج» كلاهما للباجي (228)، وانظر المسألة في المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (338).
10- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (338).
11- المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة هو مذهب ابن عمر رضي الله عنه، وإليه ذهب مالك والشافعي. [«المنتقى» للباجي (2/276)].
12- «إحكام الفصول» (747)، «المنهاج» كلاهما للباجي (228).
13- مذهب مالك اشتراط الولاية على الزواج، وهو مرويٌّ عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم، وإليه ذهب سعيد بن المسيِّب والحسن وعمر بن عبد العزيز والشافعي وأحمد وغيرهم خلافًا لأبي حنيفة فإنه لم يشترطه في العقد. [انظر: «الأم» للشافعي (5/13)، «المهذب» للشيرازي (2/36)، «المقدمات الممهِّدات» لابن رشد (1/471)، «المنتقى» للباجي (3/267)، «المغني» لابن قدامة (6/449)، «تبيين الحقائق» للزيلعي (2/117)].
14- أخرجه أبو داود في «النكاح» (2/568)ب، باب في الولي، والترمذي في «النكاح» (3/407) باب ما جاء لا نكاح إلاَّ بولي، وابن ماجه في «النكاح» (1/605) باب لا نكاح إلاَّ بولي، وأحمد (4/494، 413، 418)، والدارمي (2/137)، والدارقطني (3/219)، والبيهقي (7/107)، والخطيب البغدادي في «الكفاية» (449) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
والحديث صحيح بطرقه وشواهده. [انظر: «نصب الراية» للزيلعي (3/183)، «التلخيص الحبير» لابن حجر (3/156)، «إرواء الغليل» للألباني (6/235)].
15- أخرجه مسلم في «النكاح» (9/204) باب استئذان الثيِّب في النكاح، وأبو داود في «النكاح» (2/577) باب في الثيِّب، والترمذي في «النكاح» (3/416) باب ما جاء في استئمار البكر والثيِّب، والنسائي في «النكاح» (6/84) باب استئذان البكر في نفسها، وابن ماجه في «النكاح» (1/601) باب استئمار البكر والثيِّب من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
16- «المنتقى» للباجي (3/266).
17- «إحكام الفصول» (748)، «المنهاج» كلاهما للباجي (226)، والأحناف لا يصار عندهم إلى الجمع إلاَّ إذا تعذّر الترجيح ويكون الجمع بقدر الإمكان للضرورة. [انظر: المصادر المثبتة على هامش «الإشارة» (339)].
18- وقد تقدم بيان هذا النوع من الجمع، انظر: (ص 113-114).
19- «المنتقى» للباجي (3/266).
20- أخرجه مسلم في «الأقضية» (12/17) باب بيان خير الشهود، وأبو داود في «الأقضية» (4/21) باب في الشهادات، والترمذي في «الشهادات» (4/544) باب ما جاء في الشهداء أيهم خير، وابن ماجه «الأحكام» (2/792) باب الرجل عنده شهادة لا يعلم بها صاحبها، وأحمد في «المسند» (4/115، 5/192) من حديث خالد الجُهَنِيِّ رضي الله عنه.
21- أخرجه البخاري في «الشهادات» (5/258) باب لا يشهد على شهادة جَوْر إذا شهد، ومسلم في «فضائل الصحابة» (16/87) باب الصحابة ثمَّ الذين يلونهم، والترمذي في «الفتن» (4/500) باب ما جاء في القرن الثالث، وأحمد في «المسند» (4/426، 436، 440).
22- قال النووي في «شرح مسلم» (16/87): «ويلتحق به من كانت عنده شهادة حسبة وهي الشهادة بحقوق الله تعالى، فيأتي القاضي ويشهد بها وهذا ممدوح إلاَّ إذا كانت الشهادة بحدّ ورأى المصلحة في الستر، هذا الذي ذكرناه من الجمع بين الحديثين هو مذهب أصحابنا ومالك وجماهير العلماء وهو الصواب».
23- «فتح الباري» لابن حجر (5/260)، قال النووي في «شرح مسلم» (12/17): «وقد تأوّل العلماء هذا تأويلات أصحّها تأويل أصحابنا أنه محمول على من معه شهادة لآدمي عالم بها فيأتي فيشهد بها قبل أن تطلب منه، والثاني: أنه محمول على شاهد الزور فيشهد بما لا أصل له ولم يستشهد، والثالث: أنه محمول على من ينتصب شاهدًا وليس هو من أهل الشهادة، والرابع: أنه محمول على من يشهد لقوم بالجنّة أو بالنار من غير توقّف وهذا ضعيف». [انظر: «معالم السنن» للخطابي (4/22)، «فتح الباري» لابن حجر (5/260)].
24- انظر: المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (339).
25- فمذهب الجمهور أنه إذا خُصَّ العَامُّ بقي حُجَّةً بعد التخصيص إذا كان التخصيص بمُبيَّن، أمَّا إذا خُصَّ بمُبْهَمٍ فلا يكون حُجَّةً، وذهب عيسى بن إبان وأبو ثور إلى أنه لم يبق حُجَّةً بعد التخصيص، وقال آخرون إذا خُصَّ بمُتَّصلٍ يكون حُجَّةً، وإذا خُصَّ بمنفصلٍ فلا يكون حُجَّةً وبه قال الكرخي، وفي المسألة أقوال أخرى. [انظر: «المعتمد» لأبي الحسين (1/286)، «التبصرة» للشيرازي (187)، «العدة» لأبي يعلى (2/539)، «إحكام الفصول» للباجي (247)، «سلاسل الذهب» للزركشي (244)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (137)].
26- «الإبهاج» للسبكي (3/230)، «جمع الجوامع والمحلي عليه» (2/367).
27- «إحكام الفصول» (749)، «المنهاج» كلاهما للباجي (229)، ذكر الشنقيطي في «أضواء البيان» (5/762-763) خمسةَ أوجهٍ في ترجيح عموم ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ على عموم ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، ردَّ بها استدلالَ داود الظاهري ومَن تبعه على إباحته جمع الأختين بملك اليمين، فراجعه.
28- ولعلَّ تصدير المصنِّف للترجيح الخامس بإطلاق العمومين من غير تقييد هو الوجه المراد ليطابق المثال الذي أورده.
29- تقدمت مسألة تأثير الدباغ بالطهارة في جلود ميتات الحيوان. [انظر: المصادر الفقهية المثبتة على هامش الكتاب (ص 458)].
30- تقدم تخريجه في (ص 456).
31- أخرجه أبو داود في «اللباس» (4/374) باب جلود النمور والسباع، والنسائي في «الفرع» (7/176) باب النهي عن الانتفاع بجلود السباع، والترمذي في «اللباس» (4/241) باب النهي عن جلود السباع، واللفظ له بزيادة: «أن تفترش» من حديث أسامة بن عُمير الهذليّ -والد أبي المليح-. والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (3/9) وفي «صحيح سنن أبي داود» (2/527)، وفي «صحيح الترمذي» (2/286).
32- «إحكام الفصول» (749)، «المنهاج» كلاهما للباجي (230)، و«المستصفى» للغزالي (2/397)، انظر هذه المسألة في المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (340).
33- هو جزء من حديث طويلٍ أخرجه أبو داود في «الصلاة» (1/274) باب ما جاء في المواقيت، والترمذي في «الصلاة» (1/278) باب ما جاء في مواقيت الصلاة، وأحمد في «مسنده» (1/333)، والحاكم في «المستدرك» (1/193)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/364)، وابن خزيمة في «صحيحه» (1/168)، والدارقطني في «سننه» (1/258)، والطحاوي في «شرح معاني الأثار» (1/146) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصحَّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (1/115-116)، وحديث إمامة جبريل رواه جمع من الصحابة رضي الله عنهم. [انظر: «نصب الراية» للزيلعي (1/222) وما بعدها].
34- وهو إحدى الروايات عن أبي حنيفة رواها محمّد بن الحسن. [انظر: «تحفة الفقهاء» للسمرقندي (1/178)، «تبيين الحقائق» للزيلعي (1/80)، «الاختيار» لابن مودود (1/38)].
35- أخرجه البخاري في «مواقيت الصلاة» (2/38) باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، والترمذي في «الأمثال» (5/153) باب ما جاء في مثل ابن آدم وأجله وأمله، وأحمد في «مسنده» (2/6، 111، 121، 129)، والبغوي في «شرح السنّة» (14/218) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
36- انظر: «تبيين الحقائق» للزيلعي (1/79).
37- «مفتاح الوصول» للتلمساني (639-641). وضمن هذا المعنى الترجيحي قال بعضُ الحنفية: تُرجَّحُ العبارة على الإشارة، فإنَّ حديث الإجارة سِيقَ لبيان فضيلة هذه الأُمَّة، وفيه الإشارة إلى أنَّ وقت الظهر أكثر من وقت العصر، بأن يبقى الظهر إلى أن يصير ظِلُّ كلِّ شيء مثليه، كما قال أبو حنيفة؛ لأنه لو انتهى عند ظِلِّ كُلِّ شيء مثله لكان وقت العصر أكثر من وقت الظهر، لكنه معارض بصلاة جبريل، وهو عبارة ترجَّحت على الإشارة. [«البحر المحيط» للزركشي (6/177)].