ثبت في صحيح مسلم عن جابر أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قرأ بهذه السورة وبـ {قل هوالله أحد} في ركعتي الطواف, وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مجاهد عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعتين, قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعاً وعشرين مرة أو بضع عشرة مرة, {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد}.
وقال أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مجاهد عن ابن عمر قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم أربعاً وعشرين مرة أو خمساً وعشرين مرة يقرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} وقال أحمد: حدثنا أبو أحمد هو محمد بن عبد الله بن الزبيري, حدثنا سفيان هو الثوري عن أبي إسحاق عن مجاهد عن ابن عمر قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً, وكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد}, وكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي أحمد الزبيري, وأخرجه النسائي من وجه آخر عن أبي إسحاق به, وقال الترمذي: هذا حديث حسن, وقد تقدم في الحديث أنها تعدل ربع القرآن وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم, حدثنا زهير, حدثنا أبو إسحاق عن فروة بن نوفل هو ابن معاوية عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «هل لك في ربيبة لنا تكفلها ؟» قال: أراها زينب, قال ثم جاء فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عنها قال: «ما فعلت الجارية ؟» قال: تركتها عند أمها. قال: «فمجيء ما جاء بك» قال: جئت لتعلمني شيئاً أقوله عند منامي قال: «اقرأ {قل يا أيها الكافرون} ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك» تفرد به أحمد. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو القطراني حدثنا محمد بن طفيل, حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن جبلة بن حارثة, وهو أخو زيد بن حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ {قل يا أيها الكافرون} حتى تمر بآخرها فإنها براءة من الشرك». وروى الطبراني من طريق شريك عن جابر عن معقل الزبيدي عن عبد الرحمن بن زيد أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه قرأ {قل يا أيها الكافرون} حتى يختمها وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن فروة بن نوفل عن الحارث بن جبلة قال: قلت يا رسول الله علمني شيئاً أقوله عند منامي, قال: «إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ {قل يا أيها الكافرون} فإنها براءة من الشرك» والله أعلم.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
** قُلْ يَأَيّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مّا عَبَدتّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون, وهي آمرة بالإخلاص فيه فقوله تعالى: {قل يا أيها الكافرون} يشمل كل كافر على وجه الأرض, ولكن المواجهين بهذا الخطاب هم كفار قريش, وقيل إنهم من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة, ويعبدون معبوده سنة, فأنزل الله هذه السورة وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية فقال: {لا أعبد ما تعبدون} يعني من الأصنام والأنداد {ولا أنتم عابدون ما أعبد} وهو الله وحده لا شريك له, فما ههنا بمعنى من, ثم قال: {ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي ولا أعبد عبادتكم أي لا أسلكها ولا أقتدي بها وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه, ولهذا قال: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته, بل قد اخترعتم شيئاً من تلقاء أنفسكم كما قال: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى}.
فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه, فإن العابد لا بد له من معبود يعبده وعبادة يسلكها إليه, فالرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه يعبدون الله بما شرعه, ولهذا كان كلمة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله أي لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم, والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله, ولهذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: {لكم دينكم ولي دين} كما قال تعالى: {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون} وقال: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} . وقال البخاري يقال: {لكم دينكم} الكفر {ولي دين} الإسلام ولم يقل ديني لأن الاَيات بالنون فحذف الياء كما قال: {فهو يهدين} و {يشفين} وقال غيره: لا أعبد ما تعبدون الاَن ولا أجيبكم فيما بقي من عمري ولا أنتم عابدون ما أعبد, وهم الذين قال: {وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً} انتهى ما ذكره. ونقل ابن جرير عن بعض أهل العربية أن ذلك من باب التأكيد كقوله: {فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً} وكقوله {لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين} وحكاه بعضهم كابن الجوزي وغيره عن ابن قتيبة, فالله أعلم. فهذه ثلاثة أقوال (أولها) ما ذكرناه أولاً (والثاني) ما حكاه البخاري وغيره من المفسرين أن المراد {لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد} في الماضي {ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد} في المستقبل (الثالث) إن ذلك تأكيد محض (وثم قول رابع) نصره أبو العباس بن تيمية في بعض كتبه, وهو أن المراد بقوله: {لا أعبد ما تعبدون} نفي الفعل لأنها جملة فعلية {ولا أنا عابد ما عبدتم} نفي قبوله لذلك بالكلية لأن النفي بالجملة الاسمية آكد, فكأنه نفي الفعل وكونه قابلاً لذلك, ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضاً, وهو قول حسن أيضاً, والله أعلم. وقد استدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الاَية الكريمة {لكم دينكم ولي دين} على أن الكفر ملة واحدة, فورث اليهود من النصارى وبالعكس إذ كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به لأن الأديان ما عدا الإسلام كلها كالشيء الواحد في البطلان. وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود, وبالعكس لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» آخر تفسير سورة قل يا أيها الكافرون.