الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد :
إخراج زكاة الفطر قيمتها من الدراهم
لقد مضى الإجماع على إخراج زكاة الفطر مما عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينا من الدهر ، من يوم فرضها رسول الله إلى زمن عمر بن عبد العزيز – إن صح ما نسب إليه –ويرى جمهور العلماء غير الأحناف من ذلك العصر إلى اليوم أنه لا يجزئ ولا يجوز إخراج القيمة عن الأصناف التي تخرج عن زكاة الفطر ، فمن أعطى القيمة لم تجزؤه لقول ابن عمر رضي عنهما: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من تمر، وصاعا من شعير) … رواه الجماعة، فإذا عدل عن ذلك فقد ترك المفروض. المدونة الكبرى (ج1 /358 ).
وقال حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر رحمه : (ولا يجزئ فيها ولا في غيرها من الزكاة إخراج القيمة عند أهل المدينة وهو الصحيح عن مالك وأكثر أصحابه). الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبد البر (ص112).
وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم [ج 7/ 55] تحت حديث (984): (ولم يجز عامة الفقهاء إخراج القيمة وأجازه أبو حنيفة) ا.هـ
وعلى هذا عامة أهل العلم قديما وحديثا وقد ظهر في عصرنا بعض المتعالمين ممن يلهثون وراء الشهرة والظهور، والمحافظة على المناصب والجاه يقولون إن إخراج زكاة الفطر قيمة هي أفضل وأنفع للفقير والمسكين من الطعام ، بل لم يكتفوا بذلك حتى ذهبوا يستنكرون على من يفتي بإخراجها طعاما متقيدا بالدليل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة دهرا طويلا ، ويقولون ماذا يفعل الفقير بالطعام ؟ وهو محتاج إلى الدواء ، والكساء ، وغير ذلك مما يحتاجه المعوزون في يوم العيد ، ويقولون أن الإغناء الوارد في الحديث لا يحصل بهذه المطعومات التي وردت في الحديث ولم يعلموا أنهم بهذا يطعنون فيمن فرض ذلك ؛ وجعلها شعيرة ظاهرة من الشريعة متبعة ،بل إنهم يطعنون في الشريعة ، مع علمهم بانتفاء الموانع ووجود المقتضى في عصره صلى الله عليه وسلم لإخراجها دراهم ولم يفعل ، فقد صام أعواما عديدة ولم يثبت عنه أنه أخرجها قيمة ولو مرة واحدة ، وكأنهم يقولون أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم ما هو الأنفع والأصلح للفقير ، وعلى فرض التسليم لكم أنه لا يعلم فإن الله تعالى لا يسكت عن تشريع شرعه رسوله لا يكون فيه نفع للأمة جمعاء فضلا عن طائفة مخصوصة من الناس .
وقد سئل واحد من أولئك المقلدين المتعالمين هذا السؤال : هل يجوز إخراج زكاة الفطر نقدا ؟
فأجاب بقوله : [نعم يجوز إخراجها نقدا ، فقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم كان فيهم من يخرجها نقدا ، وكان فيهم من يخرجها بدلا فهي من الصدقات التي يصح فيها البدل يدلك على ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه [ج3/174] بسند صحيح عن التابعي الجليل أبو إسحاق السبيعي قال: (أدركتهم وهم يعطون في صدقة رمضان الدراهم). وقد ألف الحافظ ابن الصديق الغماري رسالة في الموضوع سماها نهاية الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال ، وانظر كتاب القرضاوي [ج2/ ص799و948] ورسالة العقد والفقه في فهم الحديث النبوي[ص57] للعلامة الزرقا .
وبهذا يتبين جواز إخراج صدقة الفطر نقدا ، وأن فاعل ذلك لم يخالف الشريعة ، ولم يجانب السنة ، وخاصة إذا حكم بها حاكم وهذا تيسيرا على المسلمين وتسهيلا عليهم ، والمال أنفع للفقير كما كانت الملابس أنفع للمهاجرين ، وماذا ينفع الفقير أن يجتمع عنده في بيته ليلة العيد قنطارا من الدقيق ، وهو لا يملك مالا لشراء قارورة الغاز أو لدفع مستحقات الكهرباء أو لعلاج ولده أو كسوة لأطفاله أو دواء لزوجته أو دينا يمنعه من المشي في الطريق مثل الرجال . ولا شك أن إخراجها مالا أفضل وألصق بمقاصد الشريعة وروحها والله أعلم]. انتهى جوابه.
قلت : هكذا يمرنون الشريعة ، ويطورنها حسب الأحداث وحاجات الناس وأنها يوم نزلت ما رعت مصالح ولا حاجات الناس ، بل شددت عليهم وضيقت عليهم .
2- أبدأ في الرد على كلامه الساقط من حيث انتهى جوابه،
فقوله : [ولا شك أن إخراجها مالا أفضل وألصق بمقاصد الشريعة وروحها ..]، يُشعر بأن الذي جاء بالشريعة ، وفرض زكاة الفطر صاعا من الطعام لا يعرف مقاصد الشريعة ، جاهل بما يشرع ،لا يعلم ما هو الأنفع والأصلح للفقير ،حتى جاء هو وبعض من كان على شاكلته من المبتدعة والمقلدين ، المميعين للدين من مشايخه الذين أخذ عنهم الفتوى ؛ ممن يبيحون لأنفسهم مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ، متمسكين بأدلة أوهى من بيت العنكبوت ، لنصرة المذهب أو الطريقة ، أو حفاظا على جاه أو منصب ، فرأوا أن إخراج زكاة الفطر نقدا أفضل وألصق بمقاصد الشريعة ، وأن إخراجها طعاما على ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته لا يناسب مقاصد الشرع ، وليس في ذلك مراعاة لحال الفقراء ،فالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا يعطون الفقراء والمساكين ما لا يصلح لهم في يوم العيد وهذا طعن ؛ وأي طعن في النبي صلى الله عليه وسلم وتعدٍ على حقه ؛ فقد كان في عهده صلى الله عليه وسلم الفقراء المحتاجون للنقود مع أن زكاة الفطر فرضت في السنة الثانية للهجرة وبقيت كذلك حتى توفي رسول الله في السنة العاشرة للهجرة ، وكذلك في عهد خلفائه الراشدين إلى عهد عمر بن عبد العزيز ، وهذه مدة طويلة ولم يثبت عنه ولا عنهم أنهم أخرجوها نقودا ولو مرة واحدة في سنة من تلك السنوات الكثيرة،وهي من الشعائر الظاهرة ، فكيف لم تنقل عنهم ، فهل يعقل أن يقال أن ليس هناك في هذه المدة الطويلة من هو محتاج إلى المال ليشتري الألبسة وغيرها من الأمور الضروريات كالدين وغيره ، ولا يعطيه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وأمراء المسلمين من بعدهم ما يصلحه ؛ والأنفع له ؟ هذا محال ولا يقوله عاقل عرف شفقة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بأمته، وأنه كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر .
ولعل قائل يقول : إن ذلك كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان الغالب على تعاملهم هو الطعام ، ولم تكن هذه الأمور الضروريات التي وجدت في عصرنا موجودة في عصرهم ..والجواب عليه : بما رواه مسلم في صحيحه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت ما سيبلغ ملك أمتي... ) ولا شك أنه رأى ما عليه كثير من فقراء المسلمين حتى في هذا الزمان الذي نحن فيه مما هو من ملك أمته ، وما عليه الأغنياء أيضا من البخل والشح والإمساك وعدم الصدقة، ومع ذلك لم يخرج زكاة الفطر لا هو ولا خلفاؤه من بعده ولو مرة واحدة لتكون تشريعا صالحا لهذا الزمان، حتى يكون مناسبا للفقراء – على زعم هؤلاء- ،ولما لم يثبت ذلك عنه دل على عدم مشروعيته ، وإنما شرع زكاة الأموال كما شرع لها بيتا تجمع فيه وتصرف على طول العام ، حتى لا يبقى بيننا محتاج للمال يوم العيد ، وفي غيره من الأيام ، وبذلك كانت شريعته أحسن الشرائع صالحة لكل زمان ومكان ، ولا تحتاج إلى زيادة ولا نقصان بالتحريف تارة وبالتأويل الفاسد أخرى ، ومن خالف سنته أصابته دعوته في قوله صلى الله عليه وسلم : (وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ) البخاري تعليقا.
3- ويقال أيضا ، إعطاء النقود يخرجها عن كونها زكاة متعلقة بالفطر من رمضان إلى مطلق زكاة النقود ، وبذلك تدخل في عموم صدقات النقدين ويكون تشريعها على هذا تحصيل حاصل.
4- وقوله: وقد ثبت أن الصحابة كان فيهم من يخرجها نقدا...كذب وافتراء على الصحابة فلم يثبت عن أحد منهم أنه أخرجها نقدا ، وهذا تلبيس منه على القارئ ، وما استدل به من الأثر عن أبي إسحاق السبيعي فهو أثر مقطوع ، والمقطوع عند أهل العلم بالحديث من أنواع الضعيف الذي لا يحتج به ، وخاصة إذا خالف الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
5- وهذا الأثر الذي ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة عن زهير قال : [سمعت أبا إسحاق يقول أدركتهم وهم يعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام ]، ليس فيه التصريح بأن الذي أدركهم هم الصحابة، لأن الصحابة لم يثبت عنهم ذلك، ولعله يشير بقوله أدركتهم إلى الحسن البصري فهو الذي نقل عنه أنه أجاز إخراج الدراهم مكان الطعام ، كما ذكر ذلك ابن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع عن سفيان عن هشام عن الحسن : [ قال لا بأس أن تعطى الدراهم في صدقة الفطر] .كتاب الزكاة [ج7/67]. وعلى فرض ثبوت ذلك عن الحسن يقال : هذا خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ، أو هذه في حال فقدان الطعام دون سائر الأحوال التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وأصحابه من بعدهم .
6- فإن أبا إسحاق السبيعي، وإن وثقه بعضهم كالإمام أحمد وابن معين والنسائي ، فقد ذكره ابن حبان في كتابه الثقات وقال : كان مدلسا ، وكذا ذكره في المدلسين حسين الكرابيسي وأبو جعفر الطبري .
وقال أبو إسحاق الجوزجاني : [كان قوم من أهل الكوفة لا تحمد مذاهبهم يعني (التشيع ) وهم رؤوس محدثي الكوفة ، مثل أبي إسحاق والأعمش ، ومنصور وغيرهم من أقرانه ، حملهم الناس على صدق ألسنتهم ، ووقفوا [أي في روايتهم ] عندما أرسلوا لما خافوا أن تكون مخارجها غير صحيحة ، فأما أبو إسحاق فروى عن قوم لا يعرفون ولم ينتشر عنهم عند أهل العلم إلا ما حكى أبو إسحاق عنهم فإذا روى تلك الأشياء عنهم كان التوقيف في ذلك عندي الصواب ].
قلت : بل رده أولى وخاصة إذا خالف فيه عامة القوم من التابعين والصحابة ، و هذا من ذلك ، ولعل الذين أدركهم على ذلك القول هم هؤلاء الذين لا يعرفون عند أهل العلم.
قال : وحدثنا إسحاق ثنا جرير عن معن قال : أفسد حديث أهل الكوفة الأعمش وأبو إسحاق يعني التدليس ، قلت : والخلط أيضا من أبي إسحاق فقد تغير في آخر حياته كما قال يحي بن معين سمع ابن عيينة منه بعدما تغير .تهذيب التهذيب (ج8/56-59]).
7- وإن الراوي عن أبي إسحاق هو زهير بن معاوية أبو خيثمة ، قال فيه أحمد بن حنبل : كان من معادن الصدق ، وروايته عن المشايخ ثبت بخ بخ ، ولكن في حديثه عن أبي إسحاق لين سمع منه بآخره . أي بعد اختلاطه . وقال أبو حاتم : زهير أحب إلينا من إسرائيل في كل شيء إلا في حديث أبي إسحاق . تهذيب التهذيب [ج3/ 303] .
قلت : وهذا مما حدث به في آخره أي بعد اختلاطه ،فهو من رواية زهير بن معاوية عنه في آخره ، وأهل العلم يتوقفون فيما رواه بعد اختلاطه ولا يقبلون ذلك منه ، فكيف إذا روى ما يخالف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ، فلا شك في رده .
ويتعلق البعض بما روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامله أن يجعل على أهل الديوان نصف درهم من كل إنسان ، يؤخذ من أعطياتهم ، وهذا ليس فيه دليل على جواز إخراج القيمة ، وجعلها هي الأصل استقلالا وابتداء وإنما على أهل الديوان خاصة، وليس على عامة الناس ، فلو قام ولي من أولياء المسلمين اليوم وفرضها على الجند وكل موظف عسكري في الثكنة بحيث لا يستطيع أن يتصل لخراجها طعاما لكان اجتهاده مستندا إلى فعل عمر بن عبد العزيز صوابا.
ثانيا : لا يعلم هي كانت سيرته في جميع ولاية حكمه أم في سنة فقط وهل في جميع الأقطار التي كانت تحت ولايته أم في قطر دون آخر ، كل هذا يحتاج إلى جواب ، وما هو الدافع له في ذلك ؟ مع علمنا أنه لا يتعمد مخالفة السنة ..
ثالثا : جعلها في أهل الديوان لاحتمال أن أهل الديوان كانوا يقصرون في إخراجها ، ولاحتمال أنهم لم يكونوا يجدون من يأخذها منهم ..فقد كثر المال والخير في عهده كما هو مشهور ومعروف ، فكان يأخذها من أعطياتهم كما في قوله : ((يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ مِنْ أَعْطِيَّاتِهِمْ)) و في طريق ابن عون وطريق ابن المبارك :((واجعل على أهل الديوان نصف درهم من كل إنسان ، يؤخذ من أعطياتهم)) وما ورد مجملا في قوله:((على كل اثنين درهم ؛ يعني زكاة الفطر)) يبينه الكلام المفسر في الطريقين المذكورين .. اجتهادا منه رضي الله عنه .
أو تكون في حال فقدان الطعام وهذا ضرورة تجيز إخراج قيمتها باتفاق ، على أن هذا الاحتمال الأخير ضعيف لما ذكر من كثرة الخير في عهده رضي الله عنه . والله أعلم .
رابعا : في قوله : وصح عن عمر بن عبد العزيز إيجاب نصف صاع من بر على الإنسان في صدقة الفطر، أو قيمته على أهل الديوان نصف درهم ..
ففيه أنه أوجب نصف صاع من بر على الإنسان في صدقة الفطر ، أو قيمته ..
و"أو" هنا ليست للتخيير بل هي للبدلية عند عدم وجود المقدر من الطعام في زكاة الفطر ، فتكون ضرورة وهذا محل اتفق كما ذكرت ، ولايمكن أن تكون أو للتخيير لأنه لا اخيار لأحد مع فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرسول الله فرضها أنواعا من المطعمات لايتجاوزها أحد إلا عند فقدانها والله أعلم .
وأفتى هؤلاء بقول الأحناف ومن أخذ بفتواهم في هذا العصر من أولئك المشار إليهم أنه يجوز إخراج القيمة دراهم أو دنانير أو فلوسا أو عروضا أو ما شاء . قالوا لأن الواجب هو إغناء الفقير ، لقوله : صلى الله عليه وسلم:( أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم) والإغناء يحصل بالقيمة .
مع أن الأحناف لم يقولوا بقول هؤلاء الضلال ، أن إخراجها نقودا أنفع للفقير وألصق بمقاصد الشريعة ، ولا قالوا قدموا القيمة على الأنواع المنصوص عليها بل قالوا يجوز إخراجها قيمة ، والأصل إخراجها طعاما .
ونقول لهم : أولا وقبل كل شيء : هذا حديث لا يصح فقد ضعفه النووي رحمه الله في المجموع [ج6/126] وابن الملقن رحمه الله في خلاصة البدر المنير [1/ 313] والعراقي رحمه الله في طرح التثريب [ 6/ 64] والألباني رحمه الله في الإرواء[ح 844 ] وعلى فرض صحة ثبوته نقول : إن صاحب الشريعة الذي قال ذلك هو الذي بين النوع والمقدار الذي يحصل به الإغناء مع قدرته على إخراج الدراهم والدنانير ، فالداعي والمقتضى قائم، والمانع منتف لإخراجها ،ومع ذلك لم يفعل . فالأصل الوقوف عند التشريع وعدم تجاوزه ، والرضا بما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأمته ، قال ابن عباس : (أقول لكم قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر عمر).. فإذا جرى نهر الله بطل نهر معقل ، فكيف يترك عمل النبي صلى الله عليه وسلم لاجتهاد مجتهد أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا قول وعمل نبينا لجدل هذا الرجل كما قال إمام دار الهجرة رحمه الله
8- لا يجزئ إخراج قيمة الطعام المعين لأن ذلك خلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت عنه أنه قال :(من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) وفي رواية (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) لرواية الأولى لمسلم ، والثانية متفق عليها. ومعنى [ رد ] أي مردود على صاحبه كائنا من كان في كل زمان ومكان.وقد علمتم أن حديث الإغناء لا يصح.
9- ولأن إخراج القيمة مخالف لعمل الصحابة ؛ وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم ، حيث كانوا يخرجونها صاعا من طعام ، عن أبي سعيد الخدري قال : (أما نحن ما زلنا نخرجها صاعا من طعام) البخاري ومسلم، وعدد فيه ما كانوا يخرجونه ، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما عند الجماعة ، وقد قال : (.. عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي .) أصحاب السنن ،أنظر تخريج كتاب السنة للألباني رقم ( 58).
10- ولأن زكاة الفطر عبادة مفروضة من جنس معين مثل الزكاة الأخرى مفروضة من أجناس معينة ، الذهب يخرج ذهب ، والفضة تخرج فضة ، والإبل تخرج إبل وهلم جراً … فلا يجزئ إخراجها من غير الجنس المعين ، ولا يجوز إخراج جنس مكان جنس آخر كما لا يجوز أيضا إخراجها في غير الوقت المعين ، فكذلك زكاة الفطر عينها النبي صلى الله عليه وسلم من أجناس مختلفة وأسعارها مختلفة فلو كانت القيمة معتبرة لكان الواجب صاعا من جنس واحد يكفي ، وما يقابل قيمته من الأجناس الأخرى ، فيكون نوع أكثر من صاع ، ويكون آخر أقل من صاع .
11- وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من أجناس مختلفة ، وهو يعلم تماما أن أقيامها وأسعارها مختلفة حتى يتيسر على عموم الأمة ، وتكون في متناول الجميع ،فيخرج كل مما عنده ، فمن الأفضل أن يجود المؤمن بالجيد ، ومن لم يجد نوعا وجد آخر ولو كان أقل سعرا وذلك ما في مقدوره .وقد يفتقد الناس بعض الأنواع في بعض الأزمان فيجدون أنواعا أخرى وهذا حصل .
12- ولأن إخراج القيمة يخرج الفطرة عن كونها شعيرة ظاهرة إلى كونها صدقة ، ربما تكون خفية ، فإن إخراجها صاعا من طعام يجعلها ظاهرة بين المسلمين يشاهدون كيلها وتوزيعها ، بخلاف ما لو كانت دراهم يخرجها الإنسان خفية بينه وبين الآخذ..
13- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه ولو مرة أنه أخرجها دراهم مع علمه التام بما يصلح الفقراء والمساكين ، والداعي قائم لإخراج الدارهم والمانع منتف ومع ذلك لم يفعل : ولا فعل ذلك أصحابه ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، والخير كل الخير في إتباع من سلف ، والشر كل الشر في إتباع من خلف ، وقد كان بيت المال بيدهم ، وقد قل المال في بعض عهده صلى الله عليه وسلم ، والناس في حاجة إلى الدراهم ومع ذلك لم يفعل ، وكثر المال في عهد عمر وعثمان وعلي، ومع ذلك ما ثبت عنهم أنهم أخرجوا زكاة الفطر دراهم ودنانير ، وقد كانوا يتعاملون بهما وهما من الذهب والفضة ، فذلك أحب إلى النفوس من هذه المعادن والأوراق النقدية ومع ذلك لم يخرجوها قيمة . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع صدقة الفطر ويوزعها على المستحقين ، كما في حديث أبي هريرة : (استعملني رسول الله على صدقة رمضان ..) أخرجاه .
14- نقول أيضا: على فرض صحة حديث "أغنوهم" : فالمراد به : أغنوهم بالطعام عن الطعام بدليل فعله وأمره ، وفعل أصحابه . قال ابن القاسم : وقلت لمالك : وإخراج القطنية وقيمتها مما يساوي صاعا من الأجناس المعينة، فقال مالك : ليس هذا مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم. المدونة الكبرى للإمام مالك (ج1 / 358 )..
أما الدراهم فنقول: لمن يبخل بها ويتحايل على أنه أخرج صدقة دراهم، هذه الصدقة واجبة وهي حق للفقير أوجبه الله في مالك ،وجعله طعاما حتى لا يشق عليك إخراجه، فإن أردت أن تتصدق وتنفق في سبيل الله فمن مالك الذي تطيب به نفسك ،فإذا شعرت بالرفق والرحمة وحز في نفسك بؤس وفقر المحتاجين من الفقراء والمساكين فعليك أن تتطوع من مالك الذي آتاك الله ،وأن تحث الأغنياء على إخراج زكاة أموالهم ، وخاصة في هذا الزمان الذي نرى فيه كثيرا من الناس يبحث عما يأكل لا عما يلبس ، فاللباس متوفر ، أما القوت فقد غلت المعيشة ، والكثير من الناس لا يجد حتى الخبز .وإذا وجده لا يجد معه إيداما ، وإذا وجد فلا يكفيه وعياله ، أو هو من النوع الرديء الذي تعافه نفوس أصحاب الأموال .
والخلاصة :
أن نقول لهؤلاء اتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه ، ولا تخرجوا عن الإجماع الذي كان عليه الصحابة ،فأنه لا يجوز إخراج القيمة مكان الأجناس المعينة لزكاة الفطر ، إلا عند فقدان القوت ، وحصول الضرورة .
بقي أن أشير إلى الحكمة من إخراجها طعاما :
لما كان الصيام الإمساك عن المفطرات ، وأعظمها الطعام والشراب ، كانت الحكمة إخراجها طعاما من جنس الممسك عنه .فهي كسجود السهو الذي هو من جنس الصلاة حتى يجبر النقص والزيادة والسهو الذي حصل من المصلي، فكذلك زكاة الفطر جعلت من جنس الممسك عنه حتى يجبر بها الخلل الذي حصل من الصائم ، سواء من اللغو والرفث أو من الأكل والشرب ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (..طهرة للصائم من اللغو والرفث).
والحمد لله رب العالمين وصلي اللهم وسلم على المبعوث رحمة للعالمين .
سحاب السلفية