كيفية النحر والذبح :
ــ السنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفعل ذلك، ويدل لهذا قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36] ، «وجبت» يعني سقطت على الأرض، وتكون اليسرى هي المعقولة؛ لأن الذابح سوف يأتيها من الجهة اليمنى، وسيمسك الحربة بيده اليمنى، ولو عقلت اليد اليمنى لضَرَبَتْ الناحرَ بركبتها إذا أحست ويكون عليه خطر، لكن إذا كانت المعقولة هي اليسرى واليمنى قائمة فإنها لا تستطيع أن تتحرك باليد اليمنى، وإذا نحرها فهي سوف تسقط على الجانب الأيسر الذي به اليد المعقولة.
هذه هي السنة، ولكن إذا كان الإنسان لا يستطيع ذلك،كما هو المعروف عندنا الآن في بلادنا فإنهم يبرِّكونها، ويعقلون يديها ورجليها، ويلوون رقبتها، ويشدونها بحبل على ظهرها ثم ينحرونها.
فنقول: إذا لم يستطع الإنسان أن يفعل السنة، وخاف على نفسه، أو على البهيمة أن تموت فإنه لا حرج أن يعقلها وينحرها باركة.
ثم يطعنها بالحربة، أو بالسكين، أو بالسيف، أو بأي شيء يجرح، وينهر الدم.
في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، وهي قريبة من أن تكون بين يديها، وهي معروفة، فإذا طعنها جر الحربة من أجل أن يقطع الحلقوم والمريء.
ــ أما غير الإبل فيذبح ويجوز العكس (أي : نحر ما يذبح وذبح ما ينحر، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه)، والذبح يكون في أعلى الرقبة لا في أسفلها، والنحر يكون في أسفلها، ولهذا تموت الإبل أسرع من موت الضأن والمعز والبقر؛ وذلك لأن النحر قريب من القلب، فيتفجر الدم من القلب بسرعة، ولو أنها ذبحت من عند الرأس لكانت تتألم من الذبح؛ لأن الدم سيكون مجراه ما بين القلب إلى محل الذبح بعيداً فيتأخر موتها، فكان من الحكمة أن تنحر، ويخرج الدم بسرعة، ثم تموت بسرعة، أما غيرها فالسنة أن تذبح من عند الرأس، ويكون على الجنب الأيسر؛ لأنه أيسر للذابح، إذ إن الذابح سوف يذبح باليد اليمنى فيضجعها على الجنب الأيسر، ثم يضع رجله على رقبتها، ثم يمسك برأسها ويذبح ، ولكن إذا كان الرجل لا يعمل باليد اليمنى، ـ وهو الذي يسمى أعسر ـ فإنه يضجعها على الجنب الأيمن؛ لأن ذلك أسهل له، ثم إن الأفضل أن تبقى قوائمها مطلقة، أي: اليدان والرجلان لا تقيد ولا يمسك بها، وذلك لوجهين هما:
الأول: أنه أريح للبهيمة أن تكون طليقة تتحرك.
الثاني: أنه أشد في إفراغ الدم من البدن.
لأنه مع الحركة يخرج الدم كله، ومعلوم أن تفريغ الدم أطيب للحم، وأحسن وأكمل، ومن ثم صارت الميتة حراماً؛ لأن الدم يحتقن بها فيفسد اللحم.
شروط الذكاة:
الشرط الأول :التسمية على الذبيحة وهو من شروط التذكية، ولا تسقط لا عمداً ولا سهواً ولا جهلاً؛ وذلك لأنها من الشروط، والشروط لا تسقط عمداً ولا سهواً ولا جهلاً؛ ولأن الله قال: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، فقال: {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ولم يقيد ذلك بما إذا ترك اسم الله عليه عمداً وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو الذي تدل عليه الأدلة.
ــ والتسمية عند إرادة الفعل، وليس عند شحذ الشفرة يعني السكين، وليس عند وضع السهم في القوس، وليس عند وضع الرمية في البندقية، بل عند الفعل، ولهذا جاءت «على» في قول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، إشارة إلى أن هذا الفعل هو الذي لا بد أن تكون التسمية عليه.
مسألة :
قد يلتبس على بعض الناس فيقول: أليس الله قدقال: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ؟ فنقول: بلى قال الله ذلك، ولكن هنا فعلان:
الأول: فعل الذابح.
الثاني: فعل الآكل.
وكل واحد منهما يتميز عن الآخر، ولا يلحق هذا حكم هذا، ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيمن سألوه عن قوم حديثي عهد بالكفر يأتون باللحم، ولا يدرى أحدهم هل ذكر اسم الله عليه أم لا؟ قال: «سموا أنتم وكلوا» ؛ لأن الإنسان مطالب بتصحيح فعله، لا بتصحيح فعل غيره، فإن الفعل إذا وقع من أهله فإن الأصل السلامة والصحة، ونقول: لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، فإذا أكلنا نسياناً أو جهلاً فليس علينا شيء لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، أما أن نعرف أن هذه الذبيحة لم يسم عليها، فلا يجوز أكلها.
وأما فعل الذابح: فإذا نسي التسمية، فقد قال الله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] .
فإذا قال قائل: كيف تؤاخذونه وقد نسي؟!
قلنا: لا نؤاخذه، فنقول: ليس عليك إثم بعدم التسمية، ولو تعمدت ترك التسمية لكنت آثماً لما في ذلك من إضاعة المال وإفساده، وأما الآن فلا شيء عليك؛ لأنك ناسٍ، ويظهر ذلك بالمثال المناظر تماماً لهذا: لو صلى الإنسان وهو محدث ناسياً فليس عليه إثم، وصلاته باطلة يجب أن تعاد؛ لأن الطهارة من الحدث شرط، وإذا كانت شرطاً، فإنها لا تسقط بالنسيان، ولكن يعذر الفاعل فلا يأثم، وهذا واضح، وكذلك التسمية أيضاً.
فإن قال قائل: أرأيتم لو نسي أن يسمي على بعير، قيمته خمسة آلاف ريال وقلنا: لا تحل، فتضيع خمسة آلاف ريال.
فيقال: هذا من جملة ما يقدر الله للإنسان أن يضيع عليه.
فإن قيل: تتلفون أموال الناس بهذا.
قلنا: هذا كقول من قال: إذا قطعتم يد السارق أصبح نصف الشعب أشل ليس عنده يد، مع أنه لو قطعت يد السارق قلَّت السرقة ولم يسرق أحد، وكذلك إذا قلنا لهذا الرجل ـ الذي نسي أن يسمي على الذبيحة ـ: ذبيحتك حرام، فإذا جاء يذبح مرة ثانية: فيمكن أن يسمي عشر مرات لا ينسى أبداً، فقد اكتوى بنار النسيان، وبهذا نحمي هذه الشعيرة، وأنه لا بد من ذكر اسم الله على المذبوح.
ـ مسألة : ما يقوله عند إرادة الذبح
يقول: «بسم الله» وجوباً و «الله أكبر» استحباباً ويقول «اللهم هذا منك ولك»
ومعناه : «منك» عطاءً ورزقاً، «لك» تعبداً وشرعاً وإخلاصاً وملكاً، هو من الله، وهو الذي منَّ به، وهو الذي أمرنا أن نتعبد له بنحره أو ذبحه، فيكون الفضل لله تعالى قدراً، والفضل لله شرعاً، إذ لولا أن الله تعالى شرع لنا أن نتقرب إليه بذبح هذا الحيوان أو نحره لكان ذبحه أو نحره بدعة، ولهذا نقول: إن الله أنعم علينا بنعمتين:
الأولى: نعمة قدرية.
الثانية: نعمة شرعية.
أما القدرية فكونه يسره لنا وذلله لنا حتى إن الرجل يقود هذا البعير الكبير لينحره وينقاد له، قال الله تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ *} [يس] .
وأما الشرعية فكون الإنسان في هذه الحال متذكراً لنعمة الله تعالى متقرباً إليه بالتعبد له، وفي هذه الحال ينبغي أيضاً أن يقول: «اللهم تقبل مني، اللهم هذا عني وعن أهل بيتي»
فائدة : وتكون تسمية المضحى له عند الذبح، وأما ما يفعله بعض العامة عندنايسميها في ليلة العيد ويمسح ظهرها من ناصيتها إلى ذنبها، وربما يكرر ذلك: هذا عني، هذا عن أهل بيتي، هذا عن أمي، وما أشبه ذلك، فهذا من البدع، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنما كان يسمي من هي له عند الذبح.
مسألة : قوله: « بسم الله، والله أكبر» ، لو قال بسم الرحمن، أو بسم فاطر السموات والأرض، أو بسم الخلاق العليم، هل يقوم مقام بسم الله؟ الجواب: قال بعض أهل العلم يقوم مقامه إذا أضاف «اسم» إلى ما لا يصح إلا لله، فهو كما لو أضافه إلى لفظ الجلالة، ولا فرق؛ لأنه يصدق عليه أنه ذكر اسم الله، ولو قال: بسم الرؤوف الرحيم لا يجزئ، لأن هذا الوصف يصدق لغير الله، قال الله تعالى في وصف النبي: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 182] ، ولو قال: باسمك اللهم أذبح هذه الذبيحة، يجزئ؛ لأن هذا مثل قوله بسم الله، ودليل التكبير حديث أنس في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمى الله وكبر .
وهل يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا المقام؟ الجواب: لا يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتعليل:
أولاً: أنه لم يرد، والتعبد لله بما لم يرد بدعة.
ثانياً: أنه قد يتخذ وسيلة فيما بعد إلى أن يذكر اسم الرسول صلّى الله عليه وسلّم على الذبيحة، ولهذا كره العلماء أن يصلى على النبي صلّى الله عليه وسلّم على الذبيحة.
الثاني: إنهار الدم ـ يعني تفجيره ـ حتى يكون كالنهر، أي: يندفع بشدة، وهذا لا يتحقق إلا بقطع الودجين، ويعرفان عند الناس بالشرايين، وأناس يسمونها الأوراد، وهما عرقان غليظان محيطان بالحلقوم معروفان، ولا يمكن إنهار الدم إلا بهذا، والدليل على ذلك:
أولاً : أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أنهر الدم» ، ولم يتعرضلذكر الحلقوم والمريء، ولهذا كان القول الصحيح أنه إذا قطع الودجان حلت الذبيحة وإن لم يقطع الحلقوم والمريء؛ لأنه لا دليل على اشتراط قطع الحلقوم والمريء.
ثانياً: ما أخرجه أبو داود بإسناد فيه مقال أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن شريطة الشيطان ـ وهي التي تذبح ولا تفرى أوداجها ـ» وهذا نص في الموضوع.
وفي الرقبة أربعة أشياء إذا قطعت كلها فهذا تمام الذبح: الودجان، والمريء ـ وهو مجرى الطعام والشراب ـ والحلقوم مجرى النفس، ولهذا يكون دائماً مفتوحاً لتسهيل النفس، وجعله الله ـ عزّ وجل ـ عظاماً لينة لتسهل حركة الرقبة، ولهذا ترفع رقبتك لترفع رأسك وتنزله ولا تجد كلفة، والمريء من ورائه، أي: بينه وبين الرقبة، وهو مجرى الطعام والشراب، وليس كالحلقوم مفتوحاً بل إن استأذن أحد فتح الباب له، وإن لم يستأذن فالباب مغلق.
الشرط الثالث: لا بد أيضاً أن يكون الذابح عاقلاً، فإن كان مجنوناً فإنه لا تصح تذكيته ولو سمى؛ لأنه لا قصد له.
الشرط الرابع: أن يكون مسلماً، أو كتابياً.
فالمسلم ظاهر، والكتابي، لقول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، قال ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ: «طعامهم ذبائحهم» ، وهذا متواتر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يأكل مما ذبح اليهود.
واختلف العلماء هل يشترط أن يكون ذبحه كذبح المسلمين؟ أو نقول ما عدوه ذبحاً وتذكية فهو ذكاة، وإن لم يكن على طريقة المسلمين؟ في هذا قولان هما:
الأول: وهو قول الجمهور: أنه لا بد أن ينهر الدم، أعني ذبح الكتابي، كما أنه لا بد من أن ينهر الدم في ذبح المسلم.
الثاني: وهو وجه في مذهب الإمام مالك أن ما عدوه ذكاة فهو ذكاة، وإن كان بالخنق؛ لعموم قول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، وهذا طعام عندهم فيكون حلالاً.
ولكن نقول في الرد على هذا: إن قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} مطلق مقيد بقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا» ، فإذا كان إنهار الدم شرطاً في ذبيحة المسلم، وهو خير من اليهودي والنصراني، فكونه شرطاً في ذبيحة اليهودي والنصراني من باب أولى، وهذا هو الحق.
الشرط الخامس: أن لا يكون الحيوان محرماً لحق الله، كالصيد في الحرم، أو الصيد في الإحرام.
فلو ذبح الإنسان أو صاد صيداً في الحرم فإنه حرام حتى لو سمى وأنهر الدم، ولو صاد صيداً أو ذبحه وهو محرم فهو حرام، ولو سمى وأنهر الدم؛ لأنه محرَّم لحق الله، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للصعب بن جثامة ـ رضي الله عنه ـ قال: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرم» ، وهذا يتبين بالتعبير القرآني: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] ، ولم يقل لا تصيدوا الصيد، فدل هذا على أن صيد الصيد والإنسان محرم يعتبر قتلاً، لا صيداً، والقتل لا تحل به المقتولة.
فإن كان مُحرَّماً لحق الغير كالمغصوب مثلاً، فهل يكون كالمحرم لحق الله ويحرم أو لا يحرم؟
الصحيح أنه لا يحرم، وهو المشهور من مذهب الحنابلة ـ رحمهم الله ـ، وفرقوا بينهما بأن الغير حقه يمكن ضمانه، أو إرضاؤه، ويمكن أن يسمح، بخلاف حق الله ـ عزّ وجل ـ.
وفيه رواية أخرى في المذهب أن المحرَّم لحق الغير كالمحرَّم لحق الله لا تصح تذكيته.
فلو رأينا من باب التأديب والتعزير والتوجيه أن نقول لمن غصب شاة وذبحها: لا يحل لك أكلها ولا لغيرك، وعليك ضمانها، لو رأينا أن هذا من باب التعزير بحرمانه هذا المال الذي تعجله على وجه محرم لكان هذا متوجهاً.
ــ الأفضل أن يتول ذبح الأضحية صاحبها ولو امرأة بدليل أن جارية كانت ترعى غنماً عند سلع بالمدينة، فأبصرت شاة من غنمها موتاً فأخذت حجراً له حد فذبحت الشاة، فاستفتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك فقال: كلوا، وأذن لهم في أكلها مع أن الذي ذبح امرأة.
هذا الحديث فيه فوائد كثيرة استنبط منه بعض العلماء نحو اثنتي عشرة مسألة.
منها :جواز ذبح المرأة ولو كانت حائضاً أو نفساء؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يستفصل، ومنها جواز تصرف الإنسان في مال الغير بإتلاف إذا كان لمصلحة، ومنها: جواز الذبح بالحجر ولكن بشرط أن ينهر الدم، والمهم من ذلك هو نحرها أو ذبحها، فإذا ذبحها وأعطى آخر ليكمل سلخها وتوزيعها فقد أدرك السنة، وهذا مشروط بما إذا كان قادراً، أما إن كان عاجزاً أو جاهلاً بما يجب في الذبح فلا ينبغي أن يخاطر ويذبح، بل يوكل غيره، ويكون مسلما والذي يسمي في هذه حالة الذابح؛ لأنه فعله فهو يسمي على فعله.
فائدة : وقوله ( أي المصنف ) : «أو يوكل مسلماً» ، علم منه أنه لا يصح أن يوكل كتابياً، مع أن ذبح الكتابي حلال، لكن لما كان ذبح هذه الذبيحة أو نحر هذه النحيرة عبادة لم يصح أن يوكل فيه كتابياً؛ وذلك لأن الكتابي ليس من أهل العبادة والقربة؛ لأنه كافر ولا تقبل عبادته، أما لو وكل كتابياً ليذبح له ذبيحة، أو ينحر له نحيرة للأكل فذلك لا بأس به، فالتضحية أو الهدي لا يجوز من غير المسلم، وذلك لأنه ليس من أهل القربة، فإذا كان لا يصح ذلك منه لنفسه فلا يصح منه لغيره، ولهذا اشترط المؤلف أن يوكل مسلماً ويشهدها، ولكن لما كان الكتابي نائباً عن مسلم في هذه العبادة خف الوطء وصارت مباشرته للأضاحي والهدايا والعقائق مكروهة، ولكنها لا تمنع حل الذبيحة.
وقت الذبح :
وقت الذبح بعد صلاة العيد ولا يجزئ قبل الصلاة ؛ لأنه قبل الوقت، فكما أنه لو صلى الظهر قبل زوال الشمس لم تجزئه عن صلاة الظهر، كذلك لو ضحى قبل الصلاة فإنه لا يجزئه، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الحديث العام الذي يعتبر قاعدة عامة في الشريعة: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ، وثبت في هذه المسألة بخصوصها «أن من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، وليس من النسك في شيء» ، ثبت ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأعلنه في خطبة عيد الأضحى.
وقد أورد عليه أبو بردة ـ رضي الله عنه ـ قصة وقعت له وهي أنه أحب أن يأكل أهل بيته اللحم قبل أن يصلي في أول النهار، فذبح أضحيته قبل أن يصلي، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال له: «شاتك شاة لحم» مع أن الرجل جاهل، لكن الأوامر لا يعذر فيها بالجهل بخلاف النواهي، فالنواهي إذا فعلها الإنسان جاهلاً عذر بجهله، أما الأوامر فلا، ولهذا لم يعذره النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل قال: «شاتك شاة لحم» ، وقال: «من ذبح قبلالصلاة فليذبح مكانها أخرى» ، فقال أبو بردة: إن عندي عناقاً هي أحب إلي من شاتين ـ والعناق الصغيرة من المعز لها نحو أربعة أشهر ـ أي: فهل أذبحها وتجزئ عني، قال: «نعم ولن تجزئ عن أحد بعدك» ، مع أن هذه العناق لا تجزئ في الأضحية، لعدم بلوغها السن المعتبرة شرعاً، لكن النبي صلّى الله عليه وسلّم أذن له وقال: «إنها لا تجزئ عن أحد بعدك» ،
هل المراد بقوله: «لا تجزئ عن أحد بعدك» عيناً أو حالاً؟
أكثر العلماء على الأول، والصحيح الثاني، وأن من وقع له مثل ما وقع لأبي بردة فلا حرج أن يذبح عناقاً؛ وذلك أن القاعدة الشرعية أن التكاليف لا تتعلق بالشخص لشخصيته؛ لأن الله لا يحابي أحداً وإنما تعلق الأحكام بالمعاني والعلل حتى خصائص الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليست خصائص له شخصية لكن من أجل أنه رسول ولا يتصف بهذا الوصف سواه، وهذا الذي نراه هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الحق.
فإن قيل: هل تجزئ العناق وإن لم تكن ذات بال وقيمة عند صاحبها ولا يحبها؛ لأن أبا بردة: قال عندي عناق هي أحب إلى من شاتين؟
فالجواب أن هذا وصف طردي لأن محبة الإنسان للشيء لا ترفعه إلى أن يجزئ وهو على وصف لا يجزئ، ولهذا لو كان للإنسان عناق ولم تحدث له هذه الحال، وقال: إن هذه العناق أحب إلى من شاتين فنقول: لا تجزئ، فليست العلة هي كونها أحب إليه فهذا وصف طردي لا يعلل به.
ــ فقوله: «من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى» ، هو الدليل على أنه لا بد أن يكون الذبح بعد صلاة العيد، فإذا كان في مكان ليس فيه صلاة عيد فليعتبر ذلك بمقدار صلاة العيد، ولا يعتبر ما حوله، أي: لو فرض أنه في بادية قريبة من عنيزة مثلاً فليس المعتبر صلاة عنيزة، بل المعتبر قدر الصلاة؛ فإذا كانت صلاة العيد تحل بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، وعيد الأضحى يسن فيه التبكير في الصلاة فيقدر بعد ارتفاع الشمس قدر رمح، نحو ربع ساعة تتم فيها الصلاة، وإذا كان ارتفاع الشمس قدر رمح مقداره ثلث ساعة، أو ربع ساعة فيكون ابتداء الذبح بعد طلوع الشمس بنحو نصف ساعة أو خمس وثلاثين دقيقة.
ــ وعلم من قوله: «صلاة العيد» أنه لا يشترط أن يكون بعد خطبة العيد، فلو أن الإنسان انطلق من حين صلى صلاة العيد وذبح والإمام يخطب صحت الأضحية، وظاهر كلامه أن ذلك صحيح وإن لم يذبح الإمام لأن المؤلف أطلق، وهو كذلك ودليله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ذبح قبل الصلاة فلا نسك له» ، فمفهومه أن من ذبح بعد الصلاة فله نسك، سواء انتهت الخطبة أو لم تنته، وسواء ذبح الإمام أم لم يذبح، ولكن الأفضل ألا يذبح قبل الإمام، وهذا الذي قاله العلماء صحيح فيما لو كان الناس يفعلون بالأضاحي ما كان يفعل بها في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهنا ننتظر الإمام لأنه إمامنا في الصلاة فكان إمامنا في النسك، وكانوا فيما سبق يخرجون بضحاياهم إلى مصلى العيد، لكن في غير مكان الصلاة فيذبحون هناك من أجل أن يكون نفعها أعم، فكل من حضر يمكن أن يأخذ منها، فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرج بأضحيته ويضحي والناس أيضاً يخرجون بضحاياهم ويضحون، لكن هذا نسي من زمن، فإذا كان الناس يضحون في مصلى العيد قلنا لا تضحوا قبل إمامكم، هذا هو الأفضل.
ــ أن أيام الذبح أربعة، يوم العيد، وثلاثة أيام بعده، والدليل على هذا ما يلي:
أولاً: أنه قد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كل أيام التشريق ذبح» ، وهذا نص في الموضوع، ولولا ما أعل به من الإرسال والتدليس لكان فاصلاً في النزاع.
ثانياً: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله ـ عزّ وجل ـ» ، فجعل حكمها واحداً أنها أيام أكل لما يذبح فيها، وشرب، وذكر لله ـ عزّ وجل ـ.
ثالثاً: أن هذه الأيام الثلاثة كلها تتساوى في تحريم صيامها لقول عائشة، وابن عمر ـ رضي الله عنهم ـ: «لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي» .
رابعاً: أن هذه الأيام الثلاثة كلها أيام لرمي الجمرات، فلا يختص الرمي بيومين، بل كل الأيام الثلاثة.
خامساً: أنها كلها يشرع فيها التكبير المطلق والمقيد، أو المقيد على قول بعض العلماء، ولم يفرق أحد من العلماء فيما نعلم بين هذه الأيام الثلاثة في التكبير، فهي مشتركة في جميع الأحكام، وإذا كان كذلك فلا يمكن أن نُخْرِجَ عن هذا الاشتراك وقت الذبح، بل نقول: إن وقت الذبح يستمر من بعد صلاة العيد يوم النحر إلى آخر أيام التشريق.
وهذا هو القول الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو رواية عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ.
مسألة: هل يجزئ الذبح من حين الصلاة أو لا بد من الخطبة وذبح الإمام؟
الصحيح أنه يكتفي بالصلاة، ولكن الأفضل أن يكون الذبح بعد الخطبة وبعد ذبح الإمام، وهذا إن فعل الإمام السنة في الذبح، وهو أن يخرج بأضحيته إلى مصلى العيد ويذبحها في مصلى العيد؛ لأن هذه هي السنة الثابتة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ينحر ويذبح بالمصلى إظهاراً للشعيرة وتعميماً للنفع؛ لأنه إذا كانت هناك في مصلى العيد حضرها الفقراء والأغنياء أيضاً، فيعطى الفقراء منها صدقة، ويعطى الأغنياء منها هدية، ومعنى قوله: «ينحر بالمصلى» ، أي خارج حدود المسجد مثل ما لو خرج إنسان بأضحيته، وذبحها أمام مصلى العيد أو عن يمينه أو شماله قيل: ذبحها بالمصلى ؛ لقربه منه وليس في نفس المصلى؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى والقذر» وهذا أذى وقذر، لكن عمل الناس اليوم أن الإمام وغيره لا يذبحون في المصلى، وعلى هذا فتكون في مراعاة ذبح الإمام فيه مشقة عظيمة، وقد ينازع في استحبابه؛ لأن تأخر الذبح عن ذبح الإمام فيما إذا أعلنه الإمام وتبين للناس.
ولكن مراعاة انتهاء الخطبة أمر سهل، فيقال للناس: لا تذبحوا حتى تنتهي الصلاة والخطبة؛ لأن هذا هو الأفضل، وكما جاء في بعض الأحاديث.