الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا قدَّره منازل، وقسّم عباده إلى قسمين فمنهم مؤمن ومنهم كافر، وعلى الله قصد السبيل ومنكم جائر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملكُ العظيمُ القاهر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أتْقى مأمورٍ وأهدى آمر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الألباب والبصائر، وعلى التابعين لهم بإحسان ما آمنَ بالحق مُوقنٌ وشكَّ فيه حائر، وسلَّم تسليمًا .
أيها الناس، اتقوا الله تعالى واشكروا نعمته عليكم بما سخَّر لكم من مخلوقاته، فقد سخَّر +لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ" [الجاثية: 23]،+وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" [إبراهيم: 33-34]، سخَّر لكم الشمس والقمر لِقِيام مصالحكم الدينيَّة، والدنيويَّة، والفرديَّة والجماعيَّة، فكم من مصلحة في تنقّل الشمس في بروجها وتعاقب الفصول ! وكم من مصلحة في تردُّدها في شروقها وغروبها في بزوغها والأفول ! وكم من مصلحة في تنقّل القمر في منازله ومعرفة السنين والحساب في إبداره وإهلاله !
فقد جعل الله الشمس والقمر آيتين من آياته الدالة على كمال علمه وعزَّته وتمام قدرته وحكمته، تسيران بأمر الله سيرهما المعتاد، الشمس ضياءٌ وسراجٌ وهَّاج، والقمر نورٌ منيرٌ يُضيء الليل للعباد، فإذا أراد الله تخويف عباده من عقوبات تنزل بهم لكثرة معاصيهم، إذا أراد الله ذلك كسفهما بأمره: فانطمس نورهما كله أو بعضه بما قدَّره الله تعالى من أسباب تقتضي ذلك، يقدر الله ذلك تخويفًا للعباد ليتوبوا إليه ويستغفروه ويعبدوه ويعظِّموه.
عباد الله، إن الكسوف في الشمس أو القمر تخويف من ربكم العظيم لكم، يخوفكم من عقوبات قد تنزل بكم انعقدت أسبابها، ومن شرورٍ مهلكةٍ انفتحت أبوابها .
إن الكسوف نفسه ليس عقوبة ولكنه كما قال نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم: «يخوّف الله به عباده»(1)، فهو تخويف من عقوبات وشرور قد تنزل بالناس لمخالفة أمر الله وعصيانه، ولقد ضَلَّ قوم غفلوا عن هذه الحكمة فلم يروا في الكسوف بأسًا، ولم يرفعوا به رأسًا، ولم يرجعوا إلى ربهم بهذا الإنذار، ولم يقفوا بين يديه بالذل والانكسار، وقالوا: هذا الكسوف أمرٌ طبيعي يُعلم بالحساب، فوَ اللهِ ما مَثل هؤلاء إلا مَثل مَن قال الله عنهم من الكفار المعاندين: +وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ" [الطور: 44]، ولَمَّا رأت عاد قوم هود ما أنذرهم من العقوبة، لَمَّا +رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا"- قال الله عزَّ وجل - +بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ"[الأحقاف: 24-25] .
إنني ما أدري عن هؤلاء الذين لا يرون في الكسوف تخويفًا ولا إنذارًا لعقوبة ! ما أدري عن هؤلاء أَهُمْ في شكٍّ مما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! فلْيرجعوا إلى سنّته، فقد ثبت ذلك عنه ثبوتًا لا شكَّ فيه في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من كُتب الإسلام، وإذًا: فهل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: «يخوّف الله بهما عباده»(2)، هل قال ذلك على الله من تِلقاء نفسه ؟ أو قال ذلك جاهلاً بما يقول ؟ كلا، واللهِ ما تقوّل رسول الله على الله ولا قال ذلك جاهلاً بمعناه، ونحن نُشهد الله - عزَّ وجل - ونُشهد كلّ مَن يسمعنا من خلقه أنّ ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو حقٌّ، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كذَب ولا كُذِب، وأنه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله تعالى وبحكمته، وأنه صلى الله عليه وسلم أنصح الخلق لعباد الله، وأنه صلى الله عليه وسلم أصدقهم قولاً وأفصحهم بيانًا، وأنه صلى الله عليه وسلم أهداهم سنَّةً وطريقةً، فصلوات الله وسلامه عليه .
فيا سبحان الله ! كيف يليق بِمَن يؤمن بالله ورسوله وهو يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عن الكسوف: «إن الله يخوّف به عباده»(3) ثم يقول هو: كيف يكون التخويف بالكسوف وهو أمر يُعرف بالحساب ؟
إن هذا التساؤل لا يَرِدُ أبدًا على أمرٍ صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يقع أبدًا استبعادًا لِما صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إن على المؤمن أن يسلّم بما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - تسليمًا كاملاً، وعلى المؤمن أن يعْلَم علْمًا يقينًا أنَّ ما صحَّ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن في واقعه أن يخالف الواقع، وإنما يظن المخالفة مَن قَلَّ نصيبه من العلم والإيمان أو ضعُف فهمه فلم يقدر على التوفيق بين نصوص الشريعة والواقع .
ونحن نقول تنزّلاً مع هذا التساؤل: إن كون الكسوف أمر يُعرف بالحساب لا ينافي أبدًا أن يكون حدوثه من أجل التخويف، فلله تعالى في تقدير الكسوف حكمتان: حكمة قدريَّة يحصل الكسوف بوجودها وهذه معروفةٌ عند علماء الفلَك وأهل الحساب ولم يُبيِّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الجهل بها لا يضُر والعلم بها لا ينفع .
أما الحكمة الثانية فهي: حكمة شرعيَّة وهي تخويف العباد وهذه لا يعلمها إلا الله - عزَّ وجل - أو مَن أطلعه الله عليها من رسله، فهل باستطاعة أحد أن يعلم لماذا قدَّر الله الكسوف إلا أن يكون عنده وحي من الله تعالى بأنه قدَّره لكذا وكذا، وهذا هو ما بَيَّنَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته؛ حيث قال: «يخوّف الله به عباده»(4)، وهذا يُبطل ظَنَّ مَنْ ظَنَّ مِنَ الجهّال أن الكسوف أمر طبيعي؛ إذ لو كان الكسوف أمرًا طبيعيًّا لكان مُنتظمًا دوريًّا: كل ثلاثة شهور، أو ستة شهور، أو سنة أو سنتين مثلاً، ونحن نشاهد أن الكسوفات يتفاوت ما بينها: فتارة يكون الكسوف في السنة مرَّة، وتارة يكون في السنة مرَّتين، وتارة يكون في السنتين مرَّة أو أكثر من ذلك أو أقل، وتارة يكون على أرض، وتارة يكون على أرض أخرى، وتارة يكون جزئيًّا، وتارة يكون كلِّيًّا، وتارة تطول مدته، وتارة تقصر، ولو كان أمرًا طبيعيًّا لم يكن مُختلفًا هذا الاختلاف كما لا تختلف الشمس في منازلها في البروج ولا يختلف القمر في منازله عند الإهلال والإبدار .
أيها الناس، أيها المؤمنون بالله ورسوله، إن الكسوف حدثٌ خطيرٌ وتنبيهٌ من الله لعباده وتحذير، «فلقد كسفت الشمس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المدينة مرَّة واحدة فقط ففزع لذلك فزعًا عظيمًا وقام إلى المسجد وبعث مناديًا ينادي: الصلاة جامعة»(5) فاجتمع الناس وصلى بهم صلى الله عليه وسلم صلاة غريبة لا نظير لها في الصلوات المعتادة، كما أن الكسوف لا نظير له في جريان الشمس والقمر المعتاد، فهي آية شرعيَّة لآية كونيَّة صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين في الضحى: في كل ركعة ركوعان وقراءتان يجهر فيهما، صلاها بدون إقامة، فكبَّر وقرأ الفاتحة، ثم قرأ سورة طويلة نحو سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلاً جدًّا، ثم رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم قرأ قراءةً طويلة دون الأولى، ثم ركع ركوعًا طويلاً دون الركوع الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربّنا ولك الحمد، وقام قيامًا طويلاً نحو ركوعه، ثم سجد سجودًا طويلاً نحو ركوعه، ثم جلس بين السجدتين جلوسًا طويلاً نحو سجوده، ثم سجد سجودًا طويلاً نحو سجوده الأول، ثم قام للركعة الثانية فصلاها كما صلى الركعة الأولى إلا أنها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام والقعود، ثم تشهَّد وسلّم، ثم خطب خطبةً عظيمة بليغة، فحمد الله وأثنى عليه وأخبر «أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنّ الله يخوّف بهما عباده، فإذا رأيتموهما - يعني: خاسفين - فافزعوا إلى الصلاة»(6)، وفي رواية: «فافزعوا إلى المساجد»(7)، وفي أخرى: «فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره»(8)، وفي رواية: «فادعوا وكبِّروا وصلّوا وتصدَّقوا»(9)«حتى ينجلي»(10)، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا أمة محمد، واللهِِ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولَبَكيتم كثيرًا»(11)«وما من شيء توعدونه إلا أُرِيته في مقامي هذا - أو قال: صلاتي هذه - ولقد أوحي إليَّ أنكم تُفتنون في قبوركم قريبًا أو مثل فتنة الدجال»(12) ثم أمرهم أنْ «يتعوَّذوا من عذاب القبر»(13) وقال: «لقد جيء بالنار يحطم بعضها بعضًا»(14)«وذلك حين رأيتموني تأخّرت مخافة أن يُصيبني من لفحها حتى رأيت فيها عمر بن لحي يجرُّ قصبه في النار - يعني: أمعاءه - ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدّمت حتى قمت في مقامي ولقد مدَدْت يدي أُريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي أنْ لا أفعل»(15).
أيها المسلمون، هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا فزع وأمر بالفزع، وهكذا عُرض عليه في مقامه ما عُرض من أمور الآخرة، وهكذا خطب أمته تلك الخطبة العظيمة البالغة، فمتى رأيتم كسوف الشمس في أيَّةِ ساعة من ساعات النهار: في أول النهار، أو أوسطه، أو آخره ولو قُبيل الغروب فافزعوا إلى ما أُمرتم بالفزع إليه من الدعاء، والذكر، والتكبير، والاستغفار، والصدقة والصلاة، ونادوا لها: «الصلاة جامعة» بدون تكبير، وكرِّروه مرّتين أو ثلاثًا بقدر ما ينتبِهُ الناس ويسمعون، ومتى رأيتم خسوف القمر في وقت فافزعوا إلى ذلك أيضًا، فإنْ انقضت الصلاة والكسوف باقٍ فاشتغلوا بالدعاء والاستغفار والقراءة حتى ينجلي .
وفَّقني الله وإياكم للعمل بما يرضيه، وجنَّبنا أسباب سخطه ومعاصيه، وجعلنا مِمَّن يتَّعظون بآياته وينتفعون، وجنَّبنا أسباب الذين +قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ" [الأنفال: 21-23] .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم .
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشْكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كَرِهَ ذلك مَن أشرك به وكفر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد البشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم المحشر، وسلَّم تسليمًا .
أيها الناس، اتقوا الله تعالى، ولقد سمعتم في الخطبة الأولى أنه لم يحصل الكسوف في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدِم المدينة وأقام فيها ثلاث عشرة سنة إلا مرَّة واحدة، أما في عهدنا الحاضر فإنه كما تشاهدون يحصل الكسوف في السنة مرّة أو مرّتين أو ثلاثًا، وكُنَّا قبل هذا العهد القريب لا نرى الكسوف إلا قليلاً، فما هو السبب في ذلك ؟
السببُ في ذلك كثرةُ المعاصي والتولي عن طاعة الله؛ إن كثيرًا من الناس لا يُقيمون وزنًا لعبادة الله عزَّ وجل، لا يُقيمون وزنًا لتوحيد الله عزَّ وجل، قد جعلوا في قلوبهم مُشارِكًا لله تعالى في المحبة؛ حتى إنك لو فتَّشت عن قلوبهم لوجدت محبّتهم للدنيا أكثر من محبتهم لله عزَّ وجل، وعلامة ذلك: أن ذِكر الدنيا في قلوبهم أكثر من ذكر الله عزَّ وجل، بل إنهم إذا جاؤوا لذكر الله تعالى في المساجد والصلاة فإنهم يأتون وقلوبهم مشغولة في الدنيا حتى في أوقات الفراغ لعبادة الله يتعبّدون لله بأبدانهم دون قلوبهم، وإذا نظرنا إلى المعاملات بين الناس وجدنا معاملات لا تليق بالمسلمين: وجدنا الغش، والخيانة، والكذب، والخديعة، لا للأفراد بعضهم مع بعض ولكن للأفراد بعضهم مع بعض وللحكومة أيضًا، وهذا واللهِ يُنذر بخطر عظيم، مَنْ مِنَ الناس الكفلاء الذين لم يظلموا مكفوليهم ؟ إما بالمماطلة في الأجور، وإما بتكليفهم ما لا يجب عليهم، وإما بالتعامل معهم على وجه يخالف نظام الحكومة الذي أدخلوهم مُشترطين على أنفسهم أن يتمشّوا على ذلك النظام ثم هم يخالفون ذلك ولا يبالون بما اكتسبوا من ورائه .
وأقبح من ذلك وأشد: أن بعض الكفلاء يُلزم المكفولين بدراهم معيَّنة في كل شهر ثم يدعه يتسكَّع في الأسواق إن وجد عملاً أو لم يجد عملاً، فيصبح هذا الفقير الذي جاء لطلب المعشية إلى هذه البلاد، يصبح فريسة لشُحِّ هذا الكفيل، فيأخذ منه دراهم معلومة معيَّنة مع أنه قد لا يشتغل في هذا الشهر، وهذا ظلمٌ وعدوان ومخالفة للشرط الذي اشترطه على نفسه أمام الدولة .
واعلموا أيها الإخوة، أقول لكم بصراحة وصدق وفيما نعتقدُه واجبًا عليكم: أنّ كل شرط اشترطتموه على أنفسكم مقابل الدولة فإنه يجب عليكم أن توفوا به؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما يُذكر عنه: «المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أَحَلَّ حرامًا أو حرَّم حلالاً»(16)، فمَن خالف شرطًا التزم به أمامَ الدولة فإنه مُخالفٌ للشرع في مخالفته هذه، ولا يظن الإنسان أنَّ غفلة الدولة عنه وعدم اطِّلاعها به تنجيه من الإثم؛ فإنها وإنْ غفلت أو تغافلت أو لم تطّلع عليه فإن مَن يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور مُطَّلع عليه وهو الله سبحانه .
فيا عباد الله، لا يهلككم الشحُّ والطمع، لا يهلككم حتى تقعوا في معصية الله، وإذا رأيت المعاملات في البيع والشراء وجدت أمورًا كثيرةً تخالف الشرع، فمن ذلك: ما أشرنا إليه في الخطبة الماضية من الوقوع في الربا في بيع الذهب بالدراهم، وأنه لا بدّ أن تكون يدًا بيد، ولا يجوز التفرّق قبل استلام الثمن، فإذا باع صاحب الدكان أو الصائغ مثلاً على أحدٍ حُلِيًّا فإنه يجب أن يستلم الثمن نقدًا ولا يجوز التعقيب، وهذه من العجب العجاب أنها من مصلحة البائع دينًا ودُنيًا، أما كونها من مصلحته دينًا؛ فلأنها موافقة لأمر الله ورسوله، وأما كونها من مصلحته دُنيًا؛ فإنه يحصل على ثمن سلعته بدون مماطلة أو تعطيل .
إن بعض الناس يقول: إن هذا لا يمكن، قد يكون شاقًّا على المشتري، فنقول: إن ذلك ممكن، وانظروا إلى السلع الأخرى التي لا تباع إلا نقدًا كيف أنها ماشِيَةً على ما ينبغي، ومَن أراد أن يشتري جاء بالثمن معه في جيبه قبل أن يكلّم البائع، فهكذا لو أن الله هدى أولئك المتّجرين بالذهب واتّفقوا على ألا يبيعوا إلا نقدًا كما هو الواجب عليهم لحصَلَ لهم بذلك خير كثير وسلِموا من الإثم .
وإذا نظرت إلى المعاملات الأخرى وما يقع فيها من غشٍّ وكذب لرأيت أمرًا عظيمًا لا يليق بمسلم، والمعاصي كثيرة ولكننا نرجو الله تعالى أن يعفوَ عنَّا جميعًا، والعاقل يعرف ما هذه الآيات التي تتكرَّر في تخويف الله لنا؛ حتى يتعظ وحتى ينتفع بها، فأولئك هم المؤمنون الذين إذا رأوا الآيات آمنوا وأَيْقنوا وحاسبوا أنفسهم .
أيها المؤمنون، اعلموا «أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»(17)، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأه بنفسه فقال جلَّ من قائل عليمًا: +إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [الأحزاب: 56]، سمعًا لك اللهم وطاعةً .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبَّته واتِّباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفَّنا على ملَّته، اللهم احشرنا مع زمرته، اللهم أسقنا من حوضه، اللهم أَدْخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيِّين، والصدّيقين، والشهداء والصالحين .
اللهم أَصْلِح ولاة أمور المسلمين صغيرهم وكبيرهم، اللهم أَصْلِح لهم البطانة، وأَعِنْهم على أداء الأمانة، ووفِّقهم بما فيه صلاحهم وصلاح رعيتهم يا رب العالمين، +رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" [الحشر: 10] .
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
-------------------
(1) أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الجمعة»، رقم [999]، من حديث أبي موسى -رضي الله تعالى عنه- واللفظ له.
(2) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الجمعة»، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، رقم [990]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الكسوف»، من حديث أبي مسعود رضي الله عنه، رقم [1516] .
(3) سبق تخريجه في الحديث رقم (1) .
(4) سبق تخريجه في الحديث رقم (2) .
(5) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الجمعة»، رقم [987]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الكسوف»، رقم [1515]، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .
(6) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الجمعة»، من حديث عائشة رضي الله عنها، رقم [989] .
(7) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده في مسند المكثرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، رقم [6195]، وكذلك عند الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، من حديث محمود بن لبيد رضي الله تعالى عنه، رقم [22522] .
(8) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الجمعة»، رقم [999]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الجمعة»، رقم [1518]، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه .
(9) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الجمعة»، رقم [986]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الجمعة»، رقم [1499]، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها .
(10) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الجمعة»، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه، رقم [1000] .
(11) سبق تخريجه في الحديث رقم (9) .
(12) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الوضوء»، رقم [178]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الكسوف»، رقم [1509]، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها .
(13) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده في مسند الكوفيين، رقم [17803]، وأبو داوود -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب: «السنة»، باب: المسألة في القبر وعذاب القبر، رقم [4127]، من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه .
(14) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، رقم [13897]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب:«الكسوف»، رقم [1508]، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه .
(15) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الجمعة»، رقم [1136]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الكسوف»، رقم [1500]، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها .
(16) أخرجه الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب: «الأحكام»، باب: ما ذكر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصلح بين الناس، من حديث عمرو بن عوف المزني رضي الله تعالى عنه، رقم [1272] .
(17) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده في باقي مسند الأنصار، رقم [22562]، والبخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الجنائز»، رقم [1272]، ومسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب: «الإيمان»، رقم [35]، والنسائي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب: «الجنائز»، رقم [2008]، عن سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله تعالى عنهما .