الحمد لله وبعد ؛
هذا بحثٌ في حادثةِ من أحداثِ السيرةِ ، وهي قصةُ نسجِ العنكبوتِ والحمامتين .
أولاً : طرقُ القصةِ :
قصةُ نسجِ العنكبوت والحمامتين وردت من ثلاثةِ طرقٍ وهي :
الطريق الأولى :
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ ، قَالَ : وَأَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ : أَنَّ مِقْسَمًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : " وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ " [ الأنفال : 30 ] قَالَ : " تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِذَا أَصْبَحَ ، فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ . يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ اقْتُلُوهُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ أَخْرِجُوهُ . فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ ، فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا ، يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ ، فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا ، رَدَّ اللَّهُ مَكْرَهُمْ ، فَقَالُوا : أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا ؟ قَالَ : لَا أَدْرِي . فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ ، خُلِّطَ عَلَيْهِمْ ، فَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ ، فَمَرُّوا بِالْغَارِ ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ ، فَقَالُوا : لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ .
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (9743) بأطول من هذا ، وأحمد (1/348) ، والطبري في " جامع البيان " عند تفسير الآية ، والطبراني في " الكبير " (12155) ، والخطيب في " تاريخ بغداد " (13/191) .
والحديثُ ضعيفٌ ، في إسنادهِ عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ .
قال ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (6/174) : عثمان الجزري ، ويقال له : عثمان المشاهد . روى عن مِقْسَمٍ ، روى عنه معمر والنعمان ، سمعت أبي يقول ذلك .
نا عبد الرحمن ، انا علي بن أبي طاهر القزويني فيما متب إلي ، قال : انا أبو بكر الأثرم ، قال : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن عثمان الجزري فقال : روى أحاديث مناكير ، زعموا أنه ذهب كتابه .
نا عبد الرحمن قال : سألت أبي عن عثمان الجزري فقال : لا أعلم روى عنه غير معمر والنعمان .ا.هـ.
وأورده البخاري في " التاريخ الكبير " (6/258) .
وهمٌ وقع فيه بعض أهل العلم :
وقع بعض أهل العلم في وهم عندما ظنوا أن عثمان الجزري هو عثمان بن عمرو بن ساج الجزري ، ومنهم :
1 - الشخ أحمد شاكر في " تخريج المسند " (4/193 ، 5/87) .
2 - الهيثمي في " المجمع " (7/27) فقال عند تخريجه للحديث : رواه أحمد والطبراني وفيه عثمان بن عمرو الجزري وثقه ابن حبان وضعفه غيره ، وبقية رجاله رجال الصحيح .ا.هـ.
3 - الشيخ الألباني أيضا في تخريجه لـ " فقه السيرة " للغزالي ( ص 163 ) ، والضعيفة (3/262) .
4 - الدكتور أكرم العمري في " السيرة النبوية الصحيحة " (1/208) .
5 - سامي بن محمد السلامة في تحقيقه لـ " تفسير ابن كثير " (4/46) ، فقد نقل كلام الهيثمي على الحديث .
6 - الدكتور سليمان بن علي السعود في " أحاديث الهجرة . جمع وتحقيق ودراسة " ( ص 113) .
وربما يكون هناك آخرين ممن اعتمدوا على تخريجهم فظنوا نفس الظن . والله أعلم .
تحسينُ بعضِ العلماءِ للقصةِ :
ذهب بعض أهل العلم إلى تحسين القصة منهم :
1 - الحافظ ابن كثير في " البداية والنهاية " (2/239) فقال : وهذا إسناد حسن ، وهو من أجود ما روي في قصة نسج العنكبوت على فم الغار ، وذلك من حماية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم .ا.هـ.
2 - وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (7/278) : وَذَكَرَ أَحْمَد مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس بِإِسْنَادٍ حَسَن ... وذكر القصة .ا.هـ.
والصواب - والله أعلم - أن السند لا يحتمل التحسين وذلك لجهالة عثمان الجزري ، حتى الطرق التي ستأتي لا تجعل الحديث يرتقي إلى مرتبة الحسن لأنها أيضا ضعيفة .
تضعيفُ أهلِ العلمِ للقصةِ :
حكم عدد من أهل العلم على القصة بالضعف ، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض العلماء ضعفها على أن عثمان الجزري هو ابن عمرو بن ساج ، وفي هذا نظر كما بينا آنفا ، ومنهم :
1 - الشيخ أحمد شاكر .
قال في " تخريج المسند " (3251) : في إسناده نظر .
2 - الشيخ محمد ناصر الدين الألباني .
قال في تعليقه على " فقه السيرة " ( ص 163) لمحمد الغزالي : في المسند من طريق عثمان الجزري أن مقسماً مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس به . وحسن المؤلف إسناده ، وكأنه تبع فيه ابن كثير في " البداية " . وتبعه أيضا الحافظ في " الفتح " ، وفي تحسينه نظر فإن عثمان الجزري وهو ابن عمرو بن ساج .ا.هـ.
وقال في " الضعيفة " (3/339) : واعلم أنه لا يصح حديث في العنكبوت والحمامتين على كثرة ما يذكر ذلك في بعض الكتب والمحاضرات التي تلقى بمناسبة هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فكن من ذلك على علم .ا.هـ.
3 - الشيخ شعيب الأرنؤوط .
قال في تخريجه لـ " مسند الإمام أحمد " (5/301) : إسناده ضعيف ، عثمان الجزري ، ويقال له : عثمان المشاهد ... " وذكر كلام الإمام أحمد وأبي حاتم في الرجل .
4 - الشيخ بكر أبو زيد .
قال في " التحديث بما قيل : لا يصح فيه حديث " ( ص 133) عن غار حراء : نسج العنكبوت عليه وقصة الحمامتين . ونقل كلام الشيخ الألباني الآنف في الضعيفة .
5 - النفيعي والعديني محققا تفسير ابن كثير (3/699 ط. دار الراية ) .
قالا في تخريج الحديث : الحديث رواه أحمد في المسند (1/348) ، وهو ضعيف لجهالة عثمان الجزري ، وترجمته في " تاريخ البخاري " و " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم ، وليس فيهما غير أنه روى مقسم ، وروى عنه معمر والنعمان بن راشد ، قال أحمد حين سئل عنه : روى أحاديث مناكير ، وزعموا أنه ذهب كتابه .ا.هـ.
6 - الشيخ عبد العزيز الطريفي .
قال الشيخ عبد العزيز الطريفي في أجوبته على أسئلة " ملتقى أهل الحديث " :
السؤال الخامس عشر : بلغنا عنكم تضعيف حديث مبيت علي في فراش النبي عند الهجرة ؟
الجواب: حديث مبيت علي على فراش النبي عند هجرته لا يصح، فقد أخرجه عبدالرزاق في مصنفه وعنه أحمد في المسند وابن جرير الطبري والطبراني في معجمه الكبير وغيرهم من حديث عثمان الجزري عن مقسم مولى ابن عباس عن ابن عباس، وفيه نسج العنكبوت بيتاً على الغار. وفيه عثمان الجزري قال فيه أحمد: روى أحاديث مناكير زعموا أنه ذهب كتابه. وقال ابن ابي حاتم عن أبيه: لا أعلم روى عنه غير معمر والنعمان، ومال إلى تحسينه الحافظ ابن كثير وابن حجر ! .ا.هـ.
والخلاصة : أن الحديث ضعيف بهذا السند . ووهم من جعل عثمان الجزري هو عثمان بن عمرو بن ساج . وفي كلا الحالتين الرجل ضعيف سواء كان عثمان بن عمرو أو عثمان الجزري فقط من غير ذكر لأبيه وجده .
الطريقُ الثانيةُ :
أخرج أبو بكر المروزي في " مسند أبي بكر " (72) عن بشار الخفاف ، عن جعفر بن سليمان ، حدثنا أبو عمران الجوني ، حدثنا المعلى بن زياد ، عن الحسن ، قال : انطلق النبي صلى الله وأبو بكر إلى الغار فدخلا فيه ، فجاء العنكبوت فنسجت على باب الغار ، وجاءت قريش يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانوا إذا رأوا على باب الغار نسج العنكبوت ، قالوا لم يدخله أحد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلي ، وأبو بكر يرتقب ، فقال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : فداك أبي وأمي ، هؤلاء قومك يطلبونك ، أما والله ما على نفسي أبكي ، ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تحزن إن الله معنا " .
وهذه الرواية معلولة :
1 - في سندها بشار بن موسى الشيباني الخفاف .
قال البخاري : منكر الحديث . وقال يحيى بن معين والنسائي : ليس بثقة . وقال أبو زرعة : ضعيف . وقال الحافظ ابن حجر : ضعيف كثير الغلط كثير الحديث .
2 - أنها مرسلة عن الحسن .
قال الذهبي في " الموقظة " ( ص 17) : " من أوهى المراسيل عندهم : مراسيل الحسن .
وأوهى من ذلك : مراسيل الزهري ، وقتادة ، وحُميد الطويل ، من صغار التابعين .
وغالب المحققين يعدون مراسيل هؤلاء معضلات ومنقطعات ؛ فإن غالب روايات هؤلاء عن تابعي كبير ، عن صحابي ، فالظن بمرسله أنه أسقط من إسناده اثنين .ا.هـ.
وذهب ابن كثير في " البداية والنهاية " (2/239) إلى تحسين هذه الرواية لأنها تشهد للرواية الأولى فقال : " وهذا مرسل عن الحسن ، وهو حسن بماله من الشاهد " .
والحديث أورد العلامة الألباني في " الضعيفة " (1129) .
الطريقُ الثالثةُ :
عن أبي مصعب المكي قال : أدركت أنس بن مالك ، وزيد بن أرقم ، والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله عز و جل شجرة ، فخرجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم تستره ، و إن الله عز و جل بعث العنكبوت فنسجت ما بينهما فسترت وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، و أمر الله حمامتين وحشيتين فأقبلتا تدفان (و في نسخة: ترفان) حتى و قعا بين العنكبوت و بين الشجرة ، فأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل معهم عصيهم و قسيهم و هراواتهم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم على قدر مائتي ذراع قال الدليل سراقة بن مالك المدلج : انظروا هذا الحجر ثم لا أدري أين وضع رجله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الفتيان : إنك لم تخطر منذ الليلة أثره حتى إذا أصبحنا قال : انظروا في الغار ! فاستقدم القوم حتى إذا كانوا على خمسين ذراعا نظر أولهم فإذا الحمامات، فرجع، قالوا : ما ردك أن تنظر في الغار ؟ قال : رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد ، فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فعرف أن الله عز و جل قد درأ عنهما بهما ، فسمت عليهما فأحرزهما الله تعالى بالحرم فأفرجا كل ما ترون .
أخرجه ابن سعد في الطبقات (1/229) ، والبزار كما في " كشف الأستار " (1741) .
وقد حكم العلامة الألباني في " الضعيفة " (1128) على هذه الرواية بالنكارة ، وسأكتفي بكلامه في تخريج الحديث فقال :
وقال الهاشمي : " تفرد به أنس ومن ذكر معه ، لا نعرفه إلا من حديث مسلم بن إبراهيم عن عون بن عمرو القيسي عن أبي مصعب " .
وقال العقيلي : " لا يتابع عليه عون وأبو مصعب رجل مجهول " .
قلت : وأشار البزار إلى جهالته بقوله : " لا نعلم رواه إلا عون بن عمير ، وأبو مصعب فلا نعلم حدث عنه إلا عُوين " .
وقال ابن معين في عون : " لا شيء " .
وقال البخاري : " منكر الحديث ، مجهول " .
ذكره الذهبي في " الميزان " وساق له حديثين مما أنكر عليه هذا أحدهما .
وقال الحافظ ابن كثير في تاريخه " البداية " (3/182) : " وهذا حديث غريب جدا " .
وقال الهيثمي في " المجمع " (6/53) : " رواه البزار والطبراني ، وفيه جماعة لم أعرفهم " .
قلت : يشير إلى عون وأبي مصعب ، فإن من دونهما ثقات معروفون ، فهي غفلة عجيبة منه عن هذه النقول . فسبحان من لا يضل ولا ينسى .ا.هـ.
ثانياً : فوائد ذات صلة بالبحث :
الفائدةُ الأولى :
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بصحبة الصديق رضي الله عنه جاءت من حديث عائشة رضي الله عنها في البخاري (3905) ، بوب البخاري لها : " باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة " ، ولم يذكر فيها نسج العنكبوت والحمامتين ، وأورد البخاري تحت الباب عدة روايات ولم يذكر فيها شيء من قصة نسج العنكبوت .
الفائدةُ الثانيةُ :
عقد الدكتور سليمان بن علي السعود في كتابه " أحاديث الهجرة . جمع وتحقيق ودراسة " مبحثا عنون له : " أخبار فيها مقال : وردت في شأن الغار " ( ص 138 – 143) ، وأورد تحته تسعة روايات ، منها حادثة نسج العنكبوت والحمامتين ، وروايات أخرى لا يثبت منها شيء .
الفائدةُ الثالثةُ :
قال الشيخ شعيب الأرنؤوط في " تخريج المسند " (5/302) : وقد فات الحسيني وابن حجر أن يذكراه في كتابيهما مع أنه من شرطهما .ا.هـ.
ويقصد عثمان الجزري وليس عثمان بن ساج الجزري ، فهذا مترجم له في " التهذيب " .
الفائدةُ الرابعةُ :
قال ابن كثير في " البداية والنهاية " (3/199) : وقد ورد أن حمامتبن عششتا على بابه أيضا وقد نظم الصرصري في شعره حيث يقول :
فعمى عليه العنكبوت بنسجه **** وظل على الباب الحمام يبيض .ا.هـ.
وذكر العلامة الألباني أنه لا يصح في كلا الأمرين حديث في كلامه الآنف .
الفائدةُ الخامسةُ :
فُتن كثير من المسلمين بمثل غار حراء وغيره من الآثار والأماكن ، فأصبحوا يشدون الرحل إليها ، بقصد التبرك أو بأي أمر آخر ، ورفع رؤوس المبتدعة عقيرتهم ، وسوغوا للعامة من أتباعهم شد الرحل إلى غار حراء وغيره من الأماكن التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم أو جلس فيها ، ولبسوا عليهم أنها أماكن ذهب إليها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب أنها أماكن تستغل للسياحة ، وتدرُ على الدولة أموالا طائلة بسبب فرض رسوم لدخولها – نسأل الله السلامة والعافية - .
وكتبوا وطالبوا ولكن كان لهم العلماء العاملين بالمرصاد ردوا عليهم ومنهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - ، فقد كان لمثل هذه الدعوات بالمرصاد ، ورد على عدد من المطالبين لإحياء الغلو في النبي صلى الله ردودا قوية .