وقال جابر بن عبد الله:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الإستخارة في الامور كما يعلمنا سورة من القرآن يقول:"إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة.ثم ليقل:اللّهم إني أستخيرك بعلمك،وأستقدرك بقدرتك،وأسألك من فضلك العظيم،فإنك تقدر ولا أقدر،وتعلم ولا أعلم،وأنت علام الغيوب،اللّهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فيسره لي ثم بارك لي فيه،وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه،واقدُر لي الخير حيث كان ثم رضني به"قال:"ويسمي حاجته"قال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح
فقوله:"إذا همّ أحدكم بالأمر":صريح في أن الفعل الاختياري المتعلق بإرادة العبد،وإذا عُلم ذلك فقوله:"أستقدرك بقدرتك"أي:أسألك أن تُقدرني على فعله بقدرتك.
ومعلوم أنه لا يُسأل القدرة المصححة التي هي سلامة الأعضاء وصحة البنية،وإنما سأل القدرة التي توجب الفعلَ فعلم أنها مقدورة لله مخلوقة له،وأكد ذلك بقوله:"فإنك تقدر ولا أقدر"أي:تقدر ان تجعلني قادرًا فاعلًا ولا أقدر أن أجعلَ نفسي كذلك.
وكذلك قوله:"تعلم ولا أعلم"أي:حقيقة العلم بعواقب الأمور ومآلُها والنافع منها والضارُّ عندك وليس عندي.
وقوله:"يسره لي أو اصرفه عني"فإنه طلبَ من الله تيسيره إن كان له فيه مصلحة وصَرْفه عنه إن كان فيه مفسدة.
وهذا التيسيرُ والصرفُ متضمّن إلقاء داعيةِ الفعل في القلب أو إلقاءَ داعيةِ الترك فيه،ومتى حصلتْ داعية الفعل حصل الفعلُ،وداعيةُ التركِ امتنع الفعل.
وعند القدرية ترجيحُ فاعلية العبد على الترك منه ليس للرب فيه صُنع ولا تأثير،فطلب هذا التيسير منه لا معنى له عندهم،فإن تيسيرَ الأسباب التي لا قدرة للعبد عليها موجودٌ ولم يسأل العبد.
وقوله:"ثم رضني به"يدلّ على أن حصول الرضا وهو فعل اختياري من أفعال القلوب أمرٌ مقدور للرب تعالى وهو الذي يلقيه في قلب عبده فيحصله،وعند القدرية هو الذي يجعل نفسه راضيًا.
وقوله:"فاصرفه عني واصرفني عنه"صريحٌ في أن سبحانه هو الذي يصرفُ عبدَه عن فعله الاختياري إذا شاء صَرْفه عنه كما قال تعالى في حق يوسف الصديق:[كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء][يوسف:24] وصرف السوء والفحشاء هو صَرفُ دواعي القلب وميله إليهما،فينصرفان عنه بصرف دواعيهما.
وقوله:واقدُرْ لي الخيرَ حيث كان"يعم الخيرَ المقدور للعبد من طاعته وغيرَ المقدور له،فعُلم أن فعلَ العبد للطاعة والخير أمرٌ مقدورٌ لله إن لم يَقدره الله للعبد لم يقع من العبد.
ففي هذا الحديث الشفاءُ في مسألة القدر.وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الداعيَ به أن يقدّم بين يدي هذا الدعاء ركعتين عبوديةً منه بين يدي نجواه،وأن يكونا مِن غير الفريضة ليتجردَ فعلهما لهذا الغرض المطلوب.
ولما كان الفعلُ الاختياري متوقفًا على العلم والقدرة والإرادة لا يحصلُ إلّا بها توسل الداعي إلى الله بعلمه وقدرته وإرادته التي يؤتيه بها مِن فضله،وأكد هذا المعنى بتجرده وبراءته من ذلك فقال:"إنك تعلم ولا أعلم وتقدر ولا أقدر"وأمرَ الداعي أن يعلقَ التيسيرَ بالخير والصرف بالشر.وهو علمُ الله سبحانه تحقيقًا للتفويض إليه واعترافًا بجهل العبد بعواقب الأمور كما اعترف بعجزه.ففي هذا الدعاء إعطاءُ العبودية حقَّها وإعطاء الربوبية حقها،والله المستعان.
شفاء العليل
في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل
تأليف
الشيخ الإمام العالم المحقق ابن قيم الجوزية