الدكتور / راغب السرجاني
يبدو أن كثيرًا من المسلمين لا يدركون معنى وقيمة الأنصار،
الأنصار طائفة من البشر اتصفت بصفات عجيبة، ومرت بمراحل تربوية معينة، أنتجت في النهاية جيلًا من الرجال والنساء والأطفال من المستحيل أن يتكرروا في التاريخ بهذه الصورة، فعلًا، الأنصار ظاهرة فريدة، اتصفوا بصفات خاصة ظلت ملازمة لهم منذ أن أصبحوا أنصارًا، ومرورا بكل مواقفهم، الأنصار نسمة رقيقة حانية هبت على دولة الإسلام الناشئة، ففاضت من بركتها، وخيرها على الأمة، ثم مرت النسمة، ولم تأخذ شيئًا لنفسها، سبحان الله، الأنصار قَدّموا، وقَدّموا، ولم يأخذوا شيئًا، وكلما جاءت الفرصة ليأخذوا يجعل الله أمرًا آخر، فيخرجون بلا شيء، يخرجون راضين بلا سخط، ولا ضجر، وكأن الله أراد أن يدخر لهم كامل الأجر، ولا يعجل لهم شيئا في دنياهم.
الأنصار، وما أدراك ما الأنصار،
روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يَبْغَضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ.
هذا حديث يلخص المسألة، لا بد أن يعرف المسلمون قدر الأنصار قبل أن يخوضوا في أعراضهم، القضية قضية إيمان ونفاق، وقضية حب الله لعبد وبغض الله لعبد آخر، فالحذر الحذر من أي شبهة تغير على المؤمنين قلوبهم.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم:
لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الْأَنْصَارِ.
وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار:
اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ. قالها ثلاثا.
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار:
مَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ.
وغير ذلك كثير من الأحاديث في حقهم، هذا الحب الجزيل من رسول الله صلى الله عليه سلم للأنصار، ومن الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الصحابة جميعًا يجلون الأنصار، ويقدرون قيمتهم، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر فكان يخدمني.
وجرير بن عبد الله هذا من أشراف قبيلة، بجيلة، ومن أعلام العرب، وكان له شأن كبير في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وفوق هذا، فهو أسن، وأكبر كثيرًا من أنس بن مالك، هذا كله دفع أنس بن مالك أن يستنكر، أو يستغرب أن يخدمه جرير بنفسه، قال أنس:
لا تفعل.
فقال جرير:
إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، آليت أن لا أصحب أحدًا منهم إلا خدمته.
وأنس من الأنصار، إذن يخدمه جرير الشريف رضي الله عنهم أجمعين، هذا التكريم والتبجيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الصحابة للأنصار لم يأت من فراغ، وإنما أتى لنوايا صادقة، وأعمال متواصلة، وأخلاق حسنة، ولو نظرت إلى حال الأنصار لوجدت صفة أساسية تمثل ركيزة في بناء الأنصاري، تلك هي صفة الإيثار:
[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ]
{الحشر:9}.
محور حياة الأنصار أنهم يؤثرون على أنفسهم، هذا ليس وصف أصحابهم لهم، ولا حتى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، بل وصف الله عز وجل الذي خلقهم، ويعلم سرهم ونجواهم، ويعلم ظاهرهم وباطنهم، ويعلم ما تخفي الصدور
[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ]
{الحشر:9}.
أثبت الله لهم الإيمان، ومحبة المهاجرين، وسلامة الصدر، والإيثار على الذات، والوقاية من شح النفس، وفي النهاية أثبت لهم الفلاح،
أيّ فضل! وأيّ قدر! وأيّ درجة! وأيّ مكانة!
لا بد أن نعرف هذه الأمور قبل أن نأتي، ونحلل مواقف الأنصار في سقيفة بني ساعدة، لا بد وأن تملك الخلفية الصحيحة لهؤلاء القوم، ولهذه الطائفة الفريدة من البشر.
- اقرءوا تاريخ الأنصار، اقرءوا بيعة العقبة الثانية، وما قدموه من تضحيات ثمينة، وجهاد عظيم، والثمن: الجنة.
- اقرءوا قصة الهجرة، وتسابق الأنصار على فقرهم في استضافة المهاجرين، وإكرام المهاجرين، وحب المهاجرين، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم:
اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل.
يريدون أن يقسموا نخيلهم، وأرضهم بينهم، وبين المهاجرين، قال صلى الله عليه وسلم: لا.
أَبَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم أن يضحوا هذه التضحية الكبيرة، وأشفق عليهم، لكن هل سكت الأنصار، وقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبهم، أبدًا، إنهم لم يتقدموا بطلبهم بقسمة النخيل رياء ولا سمعة، ولم يتقدموا بذلك رهبة وخوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن فعلوا ذلك؛ لأنهم وجدوا في قلوبهم حبًا حقيقيًا للمهاجرين، ووجدوا في أنفسهم إيثارًا على أنفسهم، شعور جارف من الحب في الله لا يقاوم، ذهب الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضون عليه الأمر من زاوية أخرى، وكأن نفوسهم لا تطيق أن يمتلكوا شيئًا لا يمتلكه إخوانهم،
قالوا: فتكفونا المئونة، ونشرككم في الثمرة.
يقصدون أن يعمل المهاجرون في الأرض بدلًا من الأنصار، ثم يقسموا الناتج من الثمرة بينهم، أي مشاركة برأس المال والمجهود، وهم لا يحتاجون من يساعدهم، ولكنه نوع من المساعدة، دون إراقة ماء وجه المهاجرين، فهذا عمل، وهذا أجره، قال المهاجرون: سمعنا وأطعنا.
فسعد الفريقان بذلك، مشاعر الأنصار مشاعر قريبة من الملائكة، ليس في حدث أو حدثين، أو يوم أو يومين، بل هذا دينهم طيلة حياتهم، جبلوا على الإيثار منذ آمنوا.