المصارحة بأخطائنا تزيد ثقة أبنائنا بنا
موقفان من مصارحة الأبناء والبنات بأخطائنا كآباء وكأمّهات: - الموقف الأوّل: يرى أنّ المصارحة تُضعِف الثّقة، وتزعزعها وتزلزلها، ذلك أنّ أبنائنا وبناتنا قد رسموا لنا في أذهانهم صوراً مثالية، فإذا ما كاشفناهم ببعض أخطائنا، اهتزّت الصورة واضمحلّت وربّما تلاشت، وانسحب أثر ذلك إلى ضعف أو انحسار تأثيرنا فيهم أو عليهم، ولذا فمن الأفضل أن لا نكشف المغطّى المستور، ويمكننا بطريقة إيمائيّة أو إيجابية أن نضرب لهم أمثالاً عن أشخاص في مثل سنِّهم حتّى لو كانت الأمثلة من واقع حياتنا أبان مرحلة الشّباب من دون أن نُشعرهم أنّنا المعنيّون المقصودون بهذه الأمثلة.. المهم إيصال الفكرة. هذه هي خلاصة الموقف الأبويّ أو التربويّ الأوّل. - الموقف الثاني: ينظر إلى المصارحة بالأخطاء والمكاشفة المباشرة – عند الحاجة والضرورة– على أنّها شيء إيجابيّ وصحّيّ ونافع، ذلك أنّ الصورة التي يتحدّث عنها مناصرو الموقف الأوّل والتي يسمّونها (مثالية) أو نموذجية هي في واقع الحال ليست كذلك، فحتى لو لم نصارح أبناءنا وبناتنا بنقاط ضعفنا وسلبيّاتنا أيّام كنّا في مثل أعمارهم، فالممارسة اليومية كفيلة بفضحنا أمامهم أو الكشف عن عيوبنا وثغراتنا ونقائصنا، وهي تتكلّم بصوتٍ عالٍ حتّى لو لم نتفوّه عنها بحرف واحد. هذه واحدة، الأمر الثاني هو أنّ قيمة المثل تتجلّى في حياتيّته وحيويّته واستلاله من أقرب دوائر الواقع.. فقد يكون لمثل أضربه لولدي عن صديق معه مؤثِّراً إذا كان في إطار المقارنة وبعث الهمّة والتحريض والتنبيه من أجل استجابة أفضل، ولكنّ المثل نفسه لو ضربته له من واقع حياتي كشاب مثله سيكون أبلَغ في التأثير في نفسيّته وشخصيّته. هناك ضربتُ له مثلاً حيّاً ومعاشاً، وهنا ضربتُ له مثلاً حيّاً ومعاشاً، إلا أنّ إحساسه بقيمة المثل الثاني أبلَغ وأوقَع في نفسه، لماذا؟ لأنّه يرى صورته في المثل الثاني، يرى نفسه فيه، فكأنّه ينظُر في مرآة أبيه (الشّاب) أو مرآة أمّها (الفتاة) فيرى نفسه أو نفسها فيها.. هنا قد يعترضنا بعض الآباء والأمّهات بسؤال وجيه: ماذا لو كان المردود عكسياً، أي أنّ الفتى أو الفتاة يريان في المثل المضروب من واقع الحياة والديهما مبرِّراً ومسوِّغاً لاستمرار الخطأ أو استسهاله أو التقليل من وطأته على اعتبار أنّ الأب أو الأمّ سبق وأن مارسا أو ارتكبا مثله. في الإجابة توجهنا نقطتان أو احتمالان: - الاحتمال الأوّل: هو أن يسوق الأبوان المثال للتخفيف من حدّة الأثر النفسي على الابن أو البنت وكأنّهما يقولان: لا عليكما فهذا أمر طبيعي، وقد سبق لنا أن مررنا بهذه المرحلة ووقعنا في نفس الأخطاء. - الاحتمال الثاني: هو أن يأتي المثال الذاتي كمؤثِّر موضوعي في الطّرح، بمعنى أن نبيِّن أنّ المغزى من التحدّث عن أنفسنا لتقريب الفكرة، وكيف عشنا التجربة، وكيف عالجنا الخطأ وتجاوزناه، أو... ربّما يكون الحديث عن الثمن الذي دفعناه سواء باقتراف الخطأ أو بالإصرار عليه، وكيف أنّ الوقت كان متأخِّراً عندما التفتنا إلى نتائج ما عملنا لتصحيحه. هنا في هذه الحالة يقدّم المثال الحيّ على طبق من المحبّة المشفوعة بالشفقة، أو الرغبة في عدم الوقوع بنفس المطب، فالأب أو الأم الذي يقول: لو قلت لك لا تقع في الخطأ نهائياً، فأنا أطلب منك مستحيلاً، ما أطلبه أن تُسارع إلى معالجة الخطأ والاستفادة منه كتجربة معلّمة.. وهذا أنا أمامك فاعتبر بي. اعتمادنا الموقف الثاني أو ترجيحه في حالات الضرورة نابع من تقديرنا لآثاره، فالشّاب أو الفتاة الذي يلمس صراحة أمّه وأبيه سيساعده ذلك على أن يكون صريحاً هو الآخر، وسيجد أنّ أبويه متوازنين لا يطرحان الإيجابي من سلوكهما فقط، وهو درس في التوازن أيضاً، إنّها طريقة عملية للتقريب بيننا وبينهم. إنّنا نعتمد في كلّ الحالات على مبدأ (كلّ ابن آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوّابين)، ونفرِّق بين ارتكاب الخطأ وبين الإصرار عليه، وبين تهويل الخطأ وبين توهينه وبين الوقوع فيه وبين الاستفادة منه. * الترشيد لا المنع: بين إطلاق الحبل على الغارِب وبين تضييق الخناق وشدّ الحبل توجد منطقة وسطى، وخير الأمور - كما قيل- أوسطها أو أواسطها. وهي منطقة (الترشيد)، ذلك أنّ إرخاء الحبل زيادة عن اللّزوم يفضي إلى الدلال المُفسِد والمُخرِّب لأخلاق وسلوكية الشّاب والفتاة، لأنّهما حينئذ سيأمنان العقوبة المادية أو المعنوية فيسيئان الأدب، كما هو شأن كلّ إنسان غيرهما، كما أنّ شدّ الحبل هو من باب الضّغط الذي يولِّد الانفجار، ولا مصلحة للوالدين لا في (التسيّب) ولا في (الكبت)، لأنّ نتائجهما معروفة سلفاً، فحتى في الأسر التي يبدي فيها الأبناء والبنات احتراماً ظاهرياً للوالدين المرخيين للحبل والشادّين له، كثيراً ما يتمّ اختراق وخرق الالتزامات الأدبيّة في السِّرّ إن لم يتح خرقها في العلن. ليس من حلٍّ توافقيّ أو أوفق سوى أن نعتمد أسلوب (الترشيد) في التربية، فالإنسان –كما هي طبيعته- حريص على ما مُنِع، منذ أن اقترب أبوينا من الشجرة الممنوعة في الجنّة وحتّى الاقتراب من آخر شجرة ممنوعة في هذه الدّنيا، فبدلاً من لغة (لا تفعل) – والحديث هنا في غير المحرّمات التي لا مجال للترشيد ولا للترخيص فيها- يُسحتسن استخدام لغة (إفعلْ ولكن...) لننتقل إلى لغة التمثيل والشواهد، فهي أنفع في تقريب الفكرة، فبدلاً من المنع عن اللّعب – بشتّى أجناسه- يُقال: إلعَب ولكن بقدر.. تذكّر أنّ لديك مسؤوليات أخرى تنتظرك.. والإسراف حتّى في اللعب مضرّ، وبدلاً من منع فتاة عن مرافقة أو مصاحبة فتاة أخرى لم يتبيّن بعد صلاحها من عدمه، يُقال: خذي حذرك كوني يقظة، فليست الفتيات كلّهن سواء أو مثلك في الأدب، لا تطرحي كلّ الثِّقة فيمَن تُصاحبين حتّى تثبت لكِ التجربة عكس ذلك.. بدلاً من المنع في الإنفاق، يُقال: هذا المال مالك، فبدلاً من أن تُبذِّرهُ في المشتريات غير الضرورية أو الضرورية التي يطغى فيها جانب على جوانب واحتياجات ضرورية أخرى، وفِّر بعضه لوقت آخر، لحاجة أخرى، وهكذا فيما سوى ذلك. الله تعالى يُعلِّمنا لغة الترشيد، فتحَ أبواب الجنّة كلّها، وأباحَ أشجارها كلّها لأبوينا، وحذّر من الاقتراب من واحدة.. منع هوداً قوم صالح من أن يمسّوا الناقة بسوء، وأن يتركوا لها شرب يوم لتدرّ عليهم لبنها ولهم شرب يوم آخر.. وطلبَ إلى جنود طالوت أن لا يشربوا من النّهر، لكنّه أباحَ لهم أن يغترفوا غُرْفة.. ومنع القرية الاسرائيلية التي كانت حاضرة البحر من الصّيد ليوم واحدٍ، فيما أجازهم الستّة أيام الأخرى من الأسبوع.. وطالبَنا بالصوم لشهر وأرخصنا في أحد عشر شهراً.. فليس هناك (منع كلّي)، اللهمّ إلا في المحرّمات التي أباح استخدامها في الضرورات أيضاً وبقدر رفع الحاجة. هناك (ترشيد) و(إرشاد)، والترشيد هو (ترويض) لقبول الأصلح والأنفع والحقّ والوسط، ولذلك كانت الفضيلة – عند علماء الأخلاق- موقف وسط بين رذيلتين، وفي وصفه تعالى لعباد الرّحمن (والّذينَ إذا أنفقُوا لم يُسْرِفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) (الفرقان/ 67)، و(القوام) هو حالة الترشيد) وهي مبدأ تربويّ كما هي مبدأ اقتصادي وسياسي وإداري أيضاً. وإمّا (الإرشاد)، فهو النصيحة السابقة على الفعل، المقدّمة التي تسبق (الترشيد).. هي (الوقاية) و(الترشيد) العلاج. دعونا نسوق مثالين، واحد عن (الإرشاد) والآخر عن (الترشيد): 1- في الإرشاد: كان لرجل بستان يعمل فيه هو وأولاده، فلمّا اقتربت منيّته جمع أولاده، وقال لهم: إنّ في بستاننا هذا كنزاً عظيماً فابحثوا عنه، فثابروا بعد موته على تقليب أرض البستان، فتحسّن الزّرع ونما المحصول، ولم يعثروا على الكنز. الذي منهم فطن إلى أنّ أباهم لم يُرد بالكنز مالاً، بل بإصلاح التربة ليحسن الزّرع ويزداد المحصول، ولذلك اتّفقوا على أن يكتبوا على باب البستان: "العمل كنز". 2- في الترشيد: كانت أمّ جاهلة تقدِّم لابنها المال كأجرة على عملٍ لم يعمله، فيأخذ الأب المال ويوهمه أنّه يرميه من النافذة، ولكنّه كان في الحقيقة يجمعه في صندوق. إلى أن ذهب الولد واشتغل فعلاً، فأخذ أبوه أجررته ليرميها من النافذة كالعادة، فصرخ الولد: لا تفعل يا أبي، فإنّي قد كتبتها اليوم بعرق جبيني. قال الأب: حقّ يا ولدي، لا يعرف قيمة المال إلا مَنْ تعبَ في الحصول عليه، وذاق حلاوة الكسب. الأب الأوّل أرشد إلى أفضل طرق الكسب وتنمية الثروة، والأب الثاني رشّد حركة الكسب لتكون الأجرة في قِبال عمل.
1493 / قراءة . . . عودة