بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
*~*~* أَعْظَمُ الذِّكْرَى التَّوْحِيد *~*~*
للشيخ:
عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
-حفظه الله-
للإستماع والتحميل
الحمد لله ربِّ العالمين ، وأشهد أن لا إلـٰه إلَّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد:
لنتأمل -أيها الإخوة الكرام- كيف خُتم هذا السياق العظيم المبارك من سورة الذاريات بعد أن ذكر جل وعلا أنواع العقوبات وصنوف المثُلات التي أحلَّها بالأمم السالفة جزاء إعراضهم عن التوحيد الذي خُلقوا لأجله وأوجدوا لتحقيقه وبُعثت الرسل إليهم للدعوة إلى القيام به فأعرضوا عن ذلك ولاقَوا دعوة الأنبياء بالصدود فأحلَّ بهم تبارك وتعالى أنواع المثلات والعقوبات ؛ فلنتأمل ما خُتم به هذا السياق الكريم حيث قال الله سبحانه وتعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)} ؛ وهذا نستفيد منه فائدة عظيمة ألا وهي : أن ذكر الله سبحانه وتعالى لقصص الأمم السالفة وبيانه تبارك وتعالى لأخبارهم وما أحلَّه بهم ليس لمجرد العلم والاطلاع على ذلك ، وإنما المراد منه الاتعاظ والاعتبار ، وأن يحرص العبد على النجاء النجاء كما قال الله : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} طالبًا النجاة من سخطه وما يغضبه سبحانه وتعالى ، ولا يمكن أن ينال ذلك إلا بتوحيده وإخلاص الدين له وإفراده وحده تبارك وتعالى بالعبادة والبراءة من الشرك كله دقيقه وجليله ، ولهذا أتْبعها بقوله: { وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} ؛ وهذا حقيقة الفرار إلى الله : بأن يُخلَص الدين له، وأن يفرَد سبحانه وتعالى وحده بالعبادة ، وأن لا يُجعل معه الشركاء والأنداد .
ولهذا أُتبع أيضًا هذا السياق بتحقيق هذا الأمر وتوثيقه والتأكيد عليه بقول الله سبحانه وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58 } .
وقوله جل وعلا {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} فيه بيان لأهمية الذكرى وعِظم شأنها ورفعة قدرها وعظم أثرها على الناس ؛ فإنها تنفع ، نافعة جدًا ومفيدة لمن كتب الله سبحانه وتعالى له الانتفاع والاستفادة من الذكرى .
ولما دعا جل وعلا إلى الذكرى وبيَّن عظم نفعها سبحانه وتعالى بيَّن أعظم ما يذكر به وأهم ما يُدعى الناس إليه ألا وهو التوحيد الذي خلقهم تبارك وتعالى لأجله وأوجدهم لتحقيقه . وهذه فائدة عظيمة وثمينة لجميع الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ؛ أن أعظم ما يذكِّرون الناس به هو توحيد الله الذي خلقهم الله سبحانه وتعالى لأجله وأوجدهم لتحقيقه ، وتأمل هذا واضحًا في قوله:
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وكأنه قيل وما أهم ما يذكَّر الناس به ؟ فقال: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ؛ أي أن العبادة والتوحيد الذي خُلقوا لأجله وأوجدوا لتحقيقه هو أهم وأولى وأعظم ما ينبغي أن يذكَّر الناس به .
وقوله جل وعلا: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} تبيانٌ للغاية التي خُلق الناس لأجلها وأوجدوا لتحقيقها ، فأخبر تبارك وتعالى أنه فعل بهم الأول وهو الخلق ليفعلوا هم الثاني وهو العبادة {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فلأجل هذه الغاية خلقهم .
ومعنى { لِيَعْبُدُونِ}: أي ليوحِّدون . وكل أمرٍ بالعبادة في القرآن أمرٌ بالتوحيد ؛ لأن العبادة بدون التوحيد لا تكون عبادةً ، ويصح أن يوصف فاعلها بأنه لم يعبد الله . العبادة بدون التوحيد يصح أن لا تسمى عبادة ويصح أن لا يسمى فاعلها بأنه عبَد الله كما في قوله {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ }[الكافرون:2-3] مع أنهم يعبدون الله في جملة ما يعبدون !! فوصفهم بأنهم لا يعبدون الله لأنهم لم يخلِصوا دينهم لله سبحانه وتعالى. وكما أنه يصح أن تُنفى الصلاة عمَّن صلى بدون طهارة بحيث يقال لم يصل لأنه لم يصلها بطهارة ، فكذلك من عبَد الله عز وجل بغير التوحيد والإخلاص يصح أن يقال أنه لم يعبد الله وليس عبدًا لله تبارك وتعالى، فلا يكون عبدًا لله تبارك وتعالى إلا بالتوحيد ، والتوحيد هو مدلول «لا إله إلا الله» الذي هو النفي والإثبات ؛ «لا إله» ، «إلا الله» ، ولا يكون التوحيد إلا بهما : النفي والإثبات ؛ نفي العبودية عن كل من سوى الله تبارك وتعالى ، وإثباتها بكل معانيها لله وحده ذلًّا وخضوعا وانكسارًا ورغبًا ورهبًا ودعاءً ورجاءً وسجودًا وركوعًا إلى غير ذلك من أنواع العبادة {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] .
أسأل الله الكريم أن يوفقنا أجمعين لكل خير ، وأن يمنَّ علينا أجمعين بالعلم النافع والعمل الصالح ، وأن يجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين ، وأن يصلح لنا شأننا كله ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.