بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين ، حمدا يليق بجلاله وكماله وجماله في الأولين والآخرين ، ملأ السموات والأراضين عدد خلقه ورضا نفسه إلى يوم الدين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين .
إن مما جبل عليه الإنسان الذهول والسهو والنسيان ، فهو رحمة من ربنا الرحمن ، ولما كان طبعه كذلك رفع عنه المؤاخذة والحرج حين النسيان .
قال العلامة السعدي في منظومته القواعد الفقهية :
وليس مشروعا من الأمور - - - غير الذي في شرعنا مذكور
والخطْأ والإكراه والنسيان - - - أسقطه معبودنا الرحمن .
ومن ذلك مسألة نسيان التسمية عند الذبح ، وبحكم أن المؤمن فيه من الإيمان والذكر والطهر فإنه يتجاوز عنه إذا نسي التسمية في أول الطعام ويشرع له أن يسمي حين يذكرها نيابة عن البداية ولو كانت قريبا من النهاية لقوله صلى الله عليه وسلم :<< من نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ فِي أَوَّلِ طَعَامِهِ, فَلْيَقُلْ حِينَ يَذْكُرُ: بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ وآخره، فإنه يستقبل طعاماً جَدِيدًا، وَيَمْنَعُ الْخَبِيثَ مَا كَانَ يُصِيبُ مِنْهُ>>. أخرجه النسائي في الكبرى وابن السني في عمل اليوم والليلة (145) التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان وقال صحيح - ((الصحيحة)) (198).
فقوله : فإنه يستقبل طعاما جديدا ، ويمنع الخبيث ما كان يصيب منه ..فيه دليل على أن التسمية لها تأثير في الطعام إذا نسيها في البدء ثم ذكرها سواء في الأكل أو الذبح ، ولأن المسلم فيه اسم من أسماء الله كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ، ولأن التسمية على فمه كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هذه لا تصح مسندة .
ونِسْيَانُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ ؛ فإن جماهير العلماء على أن التسمية على الذبيحة واجبة مع الذكر دون النسيان، وبه قال ابن عباس وأبو هريرة من الصحابة رضي الله عنهم ، ومن التابعين سعيد بن المسيب وطاووس وعطاء والحسن البصري والنخعي وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمَّد ومن غيرهم الحكم وربيعة ومالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة. حكاه عنهم ابن المنذر.وستأتي بعض أقوالهم منقولة من مصنف عبد الرزاق .
وقال ابن سيرين وأبو ثور وداود: لا تحل سواء تركها عمدًا أو سهوًا. حكاه عنهم العبدري.
وقال ابن المنذر عن الشعبي ونافع كمذهب ابن سيرين.
وذهب الشافعي إلى أنها مستحبة غير واجبة ولا تشترط لحل الذبيحة فإذا تركها عمدا فلا تؤثر في ذلك وتحل فإذا نسيها فمن باب أولى تحل .(1).
والراجح هو قول الجمهور أنها تحل مع النسيان ولا تحل مع العمد لما سيأتي :
فقد بوب البخاري في صحيحه(7/91) 15 - باب التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَمَنْ تَرَكَ مُتَعَمِّدًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : (( مَنْ نَسِيَ فَلاَ بَأْسَ ))
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَالنَّاسِي لاَ يُسَمَّى فَاسِقًا. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].انتهى .
وسبب نزول قول الله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121].
هو ما جاء في سنن ابن ماجة (3173) عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {إِنَّ الشَّيَاطِينَ، لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] قَالَ: " كَانُوا يَقُولُونَ: مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ، فَلَا تَأْكُلُوا، وَمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوهُ "، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] (2).
فتحمل على غير الناسي لأن الناسي لا يسمى فاسقا فتحمل الآية على المتعمد وعلى ذبيحة غير المسلم أما الساهي فهو مستثنى من الحكم لأنه مرفوع عنه القلم بنص حديث رسول الله ، وقد أخبرنا الله تعالى أن لا يؤاخذ الناسي كما في قوله تعالى : {.. رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَاإِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }البقرة (286). روى مسلم ( 200-126)أنه سبحانه وتعالى قال : (( قد فعلت )).
قال القسطلاني في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري (باب) حكم (التسمية على الذبيحة و) حكم (من ترك) التسمية حال كونه (متعمدًا) وتقييده بالعمدية مشعر بالتفرقة بين العمد والنسيان ويدل لذلك قوله: (قال ابن عباس) -رضي الله عنهما-: (من نسي) التسمية عند الذبح (فلا بأس) يأكل ما ذبح ومفهومه عدم الحل مع العمدية.
وهذا وصله الدارقطني، وأخرجه سعيد بن منصور عن ابن عباس فيمن ذبح ونسي التسمية فقال المسلم فيه اسم الله وإن لم يذكر التسمية وسنده صحيح، وهو موقوف وأخرجه الدارقطني من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعًا.انتهى .
وفي مصنف عبد الرزاق (8538) قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «الْمُسْلِمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسَمِّيَ عَلَى الذَّبِيحَةَ فَلْيُسَمِّ وَلَيْأَكُلْ» وهذا إسناد صحيح .
وفيه (8548) عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَيْنٌ يَعْنِي عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ فِي الْمُسْلِمِ اسْمُ اللَّهِ، فَإِنْ ذَبَحَ، وَنَسِيَ اسْمَ اللَّهِ فَلْيَأْكُلْ، وَإِنْ ذَبَحَ الْمَجُوسِيُّ، وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ فَلَا تَأْكُلْهُ» وهذا أيضا إسناد صحيح .
وفيه (8541) عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَذْبَحُ فَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ قَالَ: «لَا بَأْسَ سَمُّوا عَلَيْهِ، وَكُلُوهُ» فيه يزيد بن أبي زياد فيه ضعف ولكن يتقوى بما قبله .
وفيه(8539 ) عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاووُسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «مَعَ الْمُسْلِمِ ذِكْرُ اللَّهِ، فَإِذَا ذَبَحَ فَنَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ فَلْيُسَمِّ وَلَيْأَكُلْ، وَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ لَوْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى ذَبِيحَتِهِ لَمْ تُؤْكَلْ»
وفيه (8540) عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يَذْبَحُ فَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ قَالَ: «لَا بَأْسَ»
وفيه (8544) عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي مِينَاءُ قَالَ: كَانَ لِحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ دَاجِنٌ مِنْ غَنَمٍ، فَبَالَ عَلَى فِرَاشَهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ مُغْضَبًا فَذَبَحَهُ، وَهُوَ مُغْضَبٌ، وَلَمْ يُسَمِّ قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «لَا بَأْسَ لِيُسَمِّ عَلَيْهِ إِذَا أَكَلَ».
وفيه (8545 ) عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَكَمِ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى عَنْ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ، يَنْسَى أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ قَالَ: «تُؤْكَلُ إِنَّمَا الذَّبْحُ عَلَى الْمِلَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَجُوسِيًّا لَوْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى ذَبِيحَتِهِ لَمْ تُؤْكَلْ».
وسئل أبو عبد الله أحمد بن حنبل : من نسي التسمية عند الذبح.
قال: لا بأس به.
قال إسحاق: هو كما قال.انظر المغني (11/32-33) والمبدع (9/223-224) الإنصاف (10/441-442).
والمشهور من مذهبه أن التسمية شرط مع الذكر، وتسقط سهواً، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "من نسي فلا بأس". وقد مر تخريجه .
وهذه فتوى للعلامة الشيخ ابن باز رحمه الله - تحت عنوان حكم نسيان التسمية عند رمي الطيور وغيرها.
السؤال : نحن نعيش في الصحراء، ونقوم باصطياد الطيور المهاجرة بالبنادق، ولكننا في بعض الأحيان ننسى أن نسمي على الطائر فيسقط ميتا فهل نأكله؟ .
الجواب : إذا نسي المسلم التسمية عند الذبح، أو عند رمي الصيد، أو إرسال الكلب المعلم للصيد فإن الذبيحة حلال وهكذا الصيد إذا أدركه ميتا، لقول الله عز وجل: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الله قد فعلت » . أخرجه مسلم في صحيحه . ولما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الله عز وجل عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » (3)ولأدلة أخرى، والله ولي التوفيق.مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (23/92)
---------------
الهامش :
(1) وفي البيان في مذهب الإمام الشافعي
لأبي الحسين يحيى بن أبي الخير بن سالم العمراني اليمني الشافعي ،تحقيق قاسم محمد النوري ، الناشر: دار المنهاج – جدة . [فرع استحباب التسمية عند الذبح]
ويستحب أن يسمي الله تعالى عند الذبح؛ لما روى أنس: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمى وكبر) . فإن ترك التسمية لم يؤثر، وحل أكلها، سواء تركها عامدا أو ناسيا، وبه قال في الصحابة ابن عباس وأبو هريرة، وإليه ذهب عطاء ومالك.
وذهب الشعبي وداود وأبو ثور إلى: أن التسمية شرط في الإباحة فمن تركها عامدا أو ناسيا حرم أكلها.
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (هي شرط في الإباحة مع الذكر، وليست بشرط مع النسيان) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] إلى أن قال: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] . ولم يفرق بين أن يسمى أو لا يسمى.
وروت عائشة: «أن قوما قالوا: يا رسول الله إن قوما من الأعراب حديثو عهد بالجاهلية يأتونا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، أفنأكل منها؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اذكروا اسم الله عليه وكلوا» .
عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ قَوْما قالُوا يَا رسولَ الله إنَّ قَوْما يأتُونَنَا باللَّحْمِ لاَ نَدْرِي أذَكَرُوا اسْمَ الله عَلَيْهِ أمْ لاَ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمُّوا الله عليْهِ وكُلُوه.
وَقَالَ الْكرْمَانِي كما في عمدة القارئ (11/172): قَوْله: (سَمُّوا) أَي: اذْكروا اسْم الله عَلَيْهِ.
وَفِيه: دَلِيل على أَن التَّسْمِيَة عِنْد الذّبْح غير وَاجِبَة، إِذْ هَذِه التَّسْمِيَة هِيَ الْمَأْمُور بهَا عِنْد أكل الطَّعَام وَشرب الشَّرَاب. انْتهى. قلت ( أي بدر الدين العيني : كَيفَ غفل الْكرْمَانِي عَن هَذِه الْآيَة: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} (الْأَنْعَام: 121) . وَهَذَا عَام فِي كل ذبيح ترك عَلَيْهِ التَّسْمِيَة، لَكِن الْمَتْرُوك سَهوا صَار مُسْتَثْنى بِالْإِجْمَاع، فَبَقيَ الْبَاقِي تَحت الْعُمُوم.
وقال البيهقي في معرفة السنن والآثار( 18789 ) قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ لَمْ يُسَمِّ نَاسِيًا فَقَتَلَ أَكَلَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَالذَّكَاةِ فَهُوَ لَوْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فِي الذَّبِيحَةِ أَكَلَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَإِنْ نَسِيَ .
(2) حديث صحيح، سماك -وهو ابن حرب، وإن كان في روايته عن عكرمة اضطراب- متابع. إسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وعمرو بن عبد الله: هو ابن حنش الأودي. وقد صحيح إسنادَ حديث سماك ابنُ كثير في "تفسيره" 3/ 321، وابنُ حجر في "الفتح" 9/ 624، وسبقهما الحاكم 4/ 113 و 231 ووافقه الذهبي. وصححه الشيخ الألباني .
3 - وفي صحيح(1731)بلفظ «إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .وقال (صحيح) أخرجه [حم هـ] عن أبي ذر [طب ك] عن ابن عباس [طب] عن ثوبان. أنظر صحيح ابن ماجة (2043) المشكاة (6293) الإرواء: (82) الروض (404) حب، الضياء.