السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أورد الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة حديث:
" لا أشبع الله بطنه . يعني معاوية " .
برقم 82
ثم قال بعد أن خرجه:
و قد يستغل بعض الفرق هذا الحديث ليتخذوا منه مطعنا في معاوية رضي الله عنه ،
و ليس فيه ما يساعدهم على ذلك ، كيف و فيه أنه كان كاتب النبي صلى الله عليه
وسلم ؟ ! و لذلك قال الحافظ ابن عساكر ( 16 / 349 / 2 ) " إنه أصح ما ورد في
فضل معاوية " فالظاهر أن هذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم غير مقصود ، بل هو
ما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كقوله صلى الله عليه وسلم في بعض
نسائه " عقرى حلقى " و " تربت يمينك " . و يمكن أن يكون ذلك منه صلى الله عليه
وسلم بباعث البشرية التي أفصح عنها هو نفسه عليه السلام في أحاديث كثيرة
متواترة .
منها حديث عائشة رضي الله عنها قالت :
" دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان ، فكلماه بشيء لا أدري ما هو
فأغضباه ، فلعنهما و سبهما ، فلما خرجا قلت : يا رسول الله من أصاب من الخير
شيئا ما أصابه هذان ؟ قال : و ما ذاك ؟ قالت : قلت : لعنتهما و سببتهما ،
قال : " أو ما علمت ما شارطت عليه ربي ؟ قلت : اللهم إنما أنا بشر ، فأي
المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة و أجرا " .
رواه مسلم مع الحديث الذي قبله في باب واحد هو " باب من لعنه النبي صلى الله
عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه و ليس هو أهلا لذلك كان له زكاة و أجرا و رحمة "
.
ثم ساق فيه من حديث أنس بن مالك قال :
" كانت عند أم سليم يتيمة و هي أم أنس ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
اليتيمة ، فقال : آنت هي ؟ لقد كبرت لا كبر سنك فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي
فقالت أم سليم : ما لك يا بنية ؟ فقالت الجارية : دعا علي نبي الله صلى الله
عليه وسلم أن لا يكبر سني أبدا ، أو قالت : قرني ، فخرجت أم سليم مستعجله تلوث
خمارها حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله
عليه وسلم : ما لك يا أم سليم ؟ فقالت يا نبي الله ، أدعوت على يتيمتي ؟ قال :
و ما ذاك يا أم سليم ؟ قالت : زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها ، و لا يكبر قرنها
قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال :
" يا أم سليم ! أما تعلمين أن شرطي على ربي ؟ أني اشترطت على ربي فقلت : إنما
أنا بشر أرضى كما يرضى البشر ، و أغضب كما يغضب البشر ، فأيما أحد دعوت عليه
من أمتي بدعوة ليس لها بأهل ، أن يجعلها له طهورا و زكاة و قربة يقربه بها منه
يوم القيامة " .
ثم أتبع الإمام مسلم هذا الحديث بحديث معاوية و به ختم الباب ، إشارة منه
رحمه الله إلى أنها من باب واحد ، و في معنى واحد ، فكما لا يضر اليتيمة دعاؤه
صلى الله عليه وسلم عليه بل هو لها زكاة و قربة ، فكذلك دعاؤه صلى الله عليه
وسلم على معاوية .
و قد قال الإمام النووي في " شرحه على مسلم " ( 2 / 325 طبع الهند ) :
" و أما دعاؤه صلى الله عليه وسلم على معاوية ففيه جوابان :
أحدهما : أنه جرى على اللسان بلا قصد .
و الثانى : أنه عقوبة له لتأخره ، و قد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن
معاوية لم يكن مستحقا الدعاء عليه ، فلهذا أدخله في هذا الباب ، و جعله غيره من
مناقب معاوية لأنه في الحقيقة يصير دعاء له " .
و قد أشار الذهبي إلى هذا المعنى الثاني فقال في " سير أعلام النبلاء "
( 9 / 171 / 2 ) :
" قلت : لعل أن ، يقال : هذه منقبة لمعاوية لقوله صلى الله عليه وسلم : اللهم
من لعنته أو سببته فاجعل ذلك له زكاة و رحمة " .
و اعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث : " إنما أنا بشر أرضى كما
يرضى البشر .. " إنما هو تفصيل لقول الله تبارك و تعالى : ( قل إنما أنا بشر
مثلكم ، يوحى إلي .... ) الآية .
و قد يبادر بعض ذوي الأهواء أو العواطف الهوجاء ، إلى إنكار مثل هذا الحديث
بزعم تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم و تنزيهه عن النطق به ! و لا مجال إلى مثل
هذا الإنكار فإن الحديث صحيح ، بل هو عندنا متواتر ، فقد رواه مسلم من حديث
عائشة و أم سلمة كما ذكرنا ، و من حديث أبي هريرة و جابر رضي الله عنهما ،
و ورد من حديث سلمان و أنس و سمرة و أبي الطفيل و أبي سعيد و غيرهم .
انظر " كنز العمال " ( 2 / 124 ) .
و تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما مشروعا ، إنما يكون بالإيمان بكل ما
جاء عنه صلى الله عليه وسلم صحيحا ثابتا ، و بذلك يجتمع الإيمان به صلى الله
عليه وسلم عبدا و رسولا ، دون إفراط و لا تفريط ، فهو صلى الله عليه وسلم بشر ،
بشهادة الكتاب و السنة ، و لكنه سيد البشر و أفضلهم إطلاقا بنص الأحاديث
الصحيحة . و كما يدل عليه تاريخ حياته صلى الله عليه وسلم و سيرته ، و ما حباه
الله تعالى به من الأخلاق الكريمة ، و الخصال الحميدة ، التي لم تكتمل في بشر
اكتمالها فيه صلى الله عليه وسلم ، و صدق الله العظيم ، إذ خاطبه بقوله
الكريم : ( و إنك لعلى خلق عظيم ) .
اهــ.