التنازع والفُرقة؛ عذاب، والإتلاف والاجتماع؛ رحمة وقوة
التنازع والفُرقة؛ عذاب، والإتلاف والاجتماع؛ رحمة وقوة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله الذي بعثه الله رحمةً للمؤمنين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
فيقول الله تعالى مُحذراً من الفُرقة والاختلاف: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }. [الأنفال: 46].
وحذر سبحانه وتعالى من صفات أهل الفُرقة والضلالة، فقال تعالى:
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . آل عمران : [ 105 ].
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ . الأنعام : [ 159 ] .
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم : (.. والفُرقة عذاب ). وسيأتي بتمامه.
قال أبو جعفر الطبري في "تفسيره": يقول تعالى ذكره للمؤمنين: "ولا تنازعوا فتفشلوا"، يقول: ولا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم، "فتفشلوا"، يقول: فتضعفوا وتجبنوا، "وتذهب ريحكم" .
وهذا مثلٌ يقال للرجل إذا كان مقبلا؛ ما يحبه ويُسَرّ به: "الريح مقبلةٌ عليه"، يعني بذلك: ما يحبه" اهـ.
وقال في موضع آخر: "وقال:"الريح"؛ النصر". اهـ.
قال ابن عباس رضي الله عنه: ""الفشل"؛ الجبن".
وقال القرطبي في "تفسيره": "(وتذهب ريحكم) أي: قوتكم ونصركم، كما تقول: الريح لفلان، إذا كان غالبا في الأمر.
قال الشاعر: إذا هبت رياحك فاغتنمها * فإن لكل خافقة سكون". اهـ.
قال السعدي في "تفسيره": "{ وَلا تَنَازَعُوا } تنازعا يوجب تشتت القلوب وتفرقها، { فَتَفْشَلُوا } أي: تجبنوا، { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي: تنحل عزائمكم، وتفرق قوتكم". اهـ.
وقال الشنقيطي في "أضواء البيان": "نهى الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع، مبيناً أنه سبب الفشل ، وذهاب القوة ، ونهى عن الفرقة أيضاً في مواضع أخر، كقوله: { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ }.وقوله: { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي: قوتكم". اهـ.
أسباب الفُرقة ـ الداء ـ:
التنازع.
قال تعالى: قال الله – تعالى -: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
قال الشنقيطي في "أضواء البيان": ومن هدي القرآن للتي هي أقوم - هديه إلى حل المشاكل العالمية بأقوم الطرق وأعدلها . ونحن دائماً في المناسبات نبين هدي القرآن العظيم إلى حل ثلاث مشكلات ، هي من أعظم ما يعانيه العلالم في جميع المعمورة ممن ينتمي إلى الإسلام ، - تنبيهاً بها على غيرها ـ وذكر ـ:
المشكلة الثالثة:
هي اختلاف القلوب الذي هو أعظم الأسباب في القضاء على كيان الأمة الإسلامية . لاستلزامه الفشل ، وذهاب القوة والدوله . كما قال تعالىك { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }.
فترى المجتمع الإسلامي اليوم في أقطار الدنيا يضمر بعضهم لبعض العداوة والبغضاء ، وإن جامل بعضهم بعضاً فإنه لا يخفى على أحد أنها مجاملة ، وأن ما تنطوي عليه الضمائر مخالف لذلك .
وقد بين تعالى في سورة « الحشر » أن سبب هذا الداء الذي عَمت به البلوى إنما هو ضعف العقل . قال تعالى { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى } [ الحشر : 14 ] ثم ذكر العلة لكون قلوبهم شتى بقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } [ الحشر : 14 ] . ولا شك أن داء ضعف العقل الذي يصيبه فيضعفه عن إدارك الحقائق ، وتمييز الحق من الباطل ، والنافع من الضار ، والحسن من القبيح ".
أسباب الإتلاف ـ الدواء ـ:
الاجتماع على هدي القرآن والسنة ـ الاعتصام بالكتاب والسّنة ـ.
قال تعالى: { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. [الأنفاق: 63].
أي: وجمع بين قلوب المؤمنين بعد التفرق والتشتت؛ على دينه الحق.
كما قال تعالى ممتناً على عباده: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}. [آل عمران: 103].
وقال تعال: { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ }.
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بالجماعـة، وإياكم والفُرقـة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنـين أبعد ). أحمـد: ( 1/18، 26 )، الترمـذي: ( 2165 )، ابن أبي عاصم: ( 88 )، الحاكم: ( 1/114 ) . قال الألباني في "الإرواء": " وقال الحاكم : " صحيح على شرط الشيخين " . ووافقه الذهبي . قلت : وهو كما قالا". اهـ.
وقال صلى الله عليه وسلم: ( الجماعة رحمة والفُرقة عذاب ). أخرجه: أحمد: (4/278، 375 )، ابن أبي عاصم: ( 93، 895 ). وقال الألباني في "الصحيحة" (667): "و هذا إسناد حسن".
وقال صلى الله عليه وسلم : (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي). أخرجه: الدار قطني (4/245)، والحاكم (1/93)، والنسائي "الكبرى" (10/114). و انظر الصحيحة: (4/ 361)، وحسنه الألباني في"مشكاة المصابيح" (186).
قال الشنقيطي في "أضواء البيان": "لا دواء له ـ أي؛ التنازع والفُرقة ـ إلا إنارته بنور الوحي . لأن نور الوحي يحيا به من كان ميتاً ويضيء الطريق للمتمسِّك به . فيريه الحق حقاً والباطل باطلاً ، والنافع نافعاً ، والضار ضاراً . قال تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } [ الأنعام : 122 ] ، وقال تعالى : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } [ البقرة : 257 ] ومن أخرج من الظلمات إلى النور أبصر الحق ، لأن ذلك النور يكشف له عن الحقائق فيريه الحق حقاً ، والباطل باطلاً ، وقال تعالى : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الملك : 22 ] ، وقال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير وَلاَ الظلمات وَلاَ النور وَلاَ الظل وَلاَ الحرور وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات } [ فاطر : 19-22 ] ، وقال تعالى : { مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } [ هود : 24 ] الآية ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الإيمان يكسب الإنسان حياة بدلاً من الموت الذي كان فيه ، ونوراً بدلاً من الظلمات التي كان فيها". اهـ.
وقال السعدي في "تفسيره": "فأخبر أن ائتلاف قلوب المؤمنين وثباتهم وعدم تنازعهم؛ سبب للنصر على الأعداء، وأنت إذا استقرأت الدول الإسلامية وجدت السبب الأعظم في زوال ملكها ترك الدين والتفرق الذي أطمع فيهم الأعداء وجعل بأسهم بينهم". اهـ.
أيها الإخوة:
إن ما يحصل بين من ينتسب للمنهج السلفي هنا وهناك من فُرقة وشحناء وتباغض وتدابر وتراشق بالكلمات والعبارات، وما يحصل من هجرٍ وتحذير ـ سواء بين المبتدئين في الاستقامة على دين الله تعالى، أو بين بعض طلبة العلم و إن شئت؛ قل حتى بين بعض المشايخ ـ؛ إنما ذلك راجع إلى عدة أسباب في تقديري ـ طبعاً؛ كلا بحسب مقامه وحاله، لأنه ليس كل الفئات المذكورة يقعون في هذه الأمور ـ :
أولاً: قلة العلم.
قال تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}. [الزمر: 9].
قال صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ). أخرجه: البخاري.
وجاء عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله بسند صحيح أنه قال: " إنما العلم نور يجعله [يقذفه] الله في القلوب". أخرجه: ابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/3180)، و ابن منده في "الفوائد" (94).
فالبعض من المبتدئين والراجعين إلى الاستقامة لا عِلم عنده؛ وتراه يُدخل نفسه في مسائل يقف عندها بعض فطاحلة أهل العلم، ويتعصب فيها ويوالي ويعادي عليها من دون علم.
ثانياً: عدم الفقه في الدين.
الفقه: معناه؛ الفهم، قال تعالى: { قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ}. [هود: 91].
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يُرِدْ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ). متفق عليه.
والمراد هنا؛ الفقه في أحكام الشريعة.
و قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الْإِسْلَامِ إذا فَقُهُوا). متفق عليه.
ثالثاً: عدم الجلوس بين يدي العلماء وأخذ العلم عنهم، والتأدب بآدابهم، وتعلم سمتهم.
قال عبد الله بن عبـاس - رضي الله عنهما - : "طلبت العلم فلم أجده أكثر منه في الأنصار، فكنت آتي الرجل فأسأل عنه: فيقال لي : نائم فأتوسد ردائي ثم اضطجع حتى يخرج إلى الظهر، فيقول: بئسما صنعت هلا أعلمتني ؟ فأقول : أردت أن تخرج إلى وقد قضيت حاجتك". أخرجه: الدارمي (566).
قال إدريس بن عبد الكريم قال خلف : " جاءني أحمد بن حنبل يسمع حديث أبي عوانة فاجتهدتُ أن أرفعه فأبى وقال: لا أجلس إلا بين يديك، أُمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه". "مناقب الإمام أحمـد" ( 58 ) ابن الجـوزي.
عندما فقد كثير من الشباب اليوم؛ الجلوس عند العلماء لسبب أو لآخر، وعندما اكتفى البعض بشهادة الدكتوراه من غير أن يطلب العلم عند العلماء ولا الجلوس في مجالسهم، كل هذا؛ أفرز لنا متعالمين متعجلين ومتسرعين غير فقهاء.
رابعاً: الاستخفاف بالعلماء الكبار الراسخون في العلم، وعدم الرجوع إليهم.
قال تعالى: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. النساء: [83].
وقال تعالى: { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }. [النحل: 43].
قال ابن المبارك رحمه الله: "حق على العاقل أن لا يستخف بثلاثة ـ وذكر منها ـ: العلماء فإنه من استخف بالعلماء ذهبت آخرته". أخرجه السلمي في "آداب الصحبة" (62).
لمّا رأى البعض من طلبة ومشايخ ـ من تلقاء نفسه ـ أنه قادر على أن يبحث وينظر في المسائل؛ ترك العلماء والرجوع إليهم، ولسان حاله يقول كما قال القائل: "نحن رجال وانتم رجال"، اغتر بنفسه المسكين؛ فحصلت الفوضى العلمية التي نراها اليوم.
خامساً: عدم التأدب مع العلماء، والتقدم بين أيديهم في الحكم، والتقدم عليهم في المجلس والحديث.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل - رحمه الله -: "قلت لأبي: ما لكَ لم تسمع من إبراهيم بن سعد، وقد نزل بغداد في جوارك؟، فقال: أعلم يا بُنيَّ أنه جلس مجلساً واحداً، وأملى علينا، فلما كان بعد ذلك خرج وقد إجتمع الناس فرأى الشباب تقدموا بين يدي المشايخ، فقال ما أسوأ آدابكم تتقدمون بين يدي المشايخ، لا أحدثكم سنة، فمات ولم يحدث". " أدب الإملاء" ( 355 ) للسمعاني .
لمّا كان السلف من الصحابة ومَن بعدهم يحترمون علماء زمانهم ويعرفون لهم قدرهم؛ أثمر علمهم وحصل المقصود من طلبهم العلم، والعكس حصل اليوم.
سادساً: الكِبر والاستعلاء على الأقران أو من دونهم، وعدم التواضع.
قال ابن المبارك رحمه الله: "حق على العاقل أن لا يستخف بثلاثة ـ وذكر منها ـ: "الإخوان؛ فمن استخف بالإخوان ذهبت مروءته". سبق.
و قال عمـر بن الخطاب رضي الله عنه : "تواضعوا لمن علمكم وتواضعوا لمن تعلمون".
وهذا ملاحظ اليوم هنا وهناك من خلال ازدراء البعض وتنقصه لبعض إخوانه في حال الرد عليه في مسألة اختلف معه فيها، فيتهمه بالجهل والسفه بينما يضفي على نفسه أوصاف الكمال وأنه لا يُشق له غبار.
سابعاً: التعالم وحب الظهور والشهرة، وحب التصدر.
وقد ذمّ الله عز وجل من كانت هذه صفاته، قال تعالى: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (*) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }. [الأعلى: 16ـ17].
وكما قيل: "حب الظهور يقصم الظهور".
فإذا ما رأى المرء أنه أعلم من غيره؛ فهذا يُشعر بقرب سقوطه، وهذا ما لمسناه في هذا الزمن، فقد تساقطت أقنعة وتحطمت رموز، وذلك بسبب التعالم وحب الظهور والتصدر.
يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله –:
"وقد ابتلينا بجهلة من الناس، يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم؛ فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهـم لكثرة بيانه ومقاله ..
وقد فُتِن كثير من المتأخرين بهذا، وظنوا أن من كُثر كلامه، وجداله، وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك ..
فيجب أن يُعتقد أنه ليس كل من كثر بسطه للقول وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك". " بيان فضل علم السلف على علم الخلف ".
ثامناً: فقدان الحكمة والحِلم والأناة.
قال تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}. [البقرة: 269].
قال صلى الله عليه وسلم لِأَشَجِّ عبد الْقَيْسِ: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا الله الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ). أخرجه: أحمد، ومسلم.
والحِلْم ومنه الأَناة في الأُمور؛ من شِعار العقلاء.
فعندما فقد بعض من يُنظر إليه ويُشار إليه بالبنان الحكمة والحلم؛ أثّر ذلك في كتاباته وفي ردوده العلمية على مخالفيه، وكذلك أثّر على أداء وتفاعل طلابه ومحبيه.
تاسعاً: الإصرار على قوله وعدم الرجوع للحق ـ إما استكباراً واستنكافا، أو تحرجاً من لوم الآخرين، وإما هوىً في نفسه ـ.
عاشراً: عدم إعذار من خالفه في اجتهاده أو تبنيه قول عالم معتبر من أهل السنّة في مسألة ما.
الحادي عشر: سوء الظن.
سوء الظن؛ خلق ذميم لا يفيد العلم اليقيني، قال تعالى: { وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتبِعُونَ إِلا الظن وَإِن الظن لَا يُغْنِي مِنَ الْحَق شَيْئا}.[النجم:28].
ونحن المسلمون عموما مأمورين باجتناب الظن السيئ بإخواننا فكيف بالخواص؟؟
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}. [الحجرات : 12].
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فإن الظَّنَّ أَكْذَبُ الحديث). متفق عليه.
وحسن الظن فيه اطمئنان للقلوب وراحة للنفوس، فينبغي أن نحسن الظن بإخواننا ما دام أظهروا لنا الخير.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك منه ما يغلبك ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا". "مداراة الناس" (ص/50) لابن أبي الدنيا، "أمالي المحاملي" (ص/395)، "التدوين في أخبار قزوين" (1/217) للرافعي القزويني. واللفظ له.
أما من ظهر منه القبيح فعند ذلك سوء الظن به أقرب، يقول ابن الخطاب رضي الله عنه: " من تعرض للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن". المصدر السابق.
فجاهد نفسك أخي على حسن الظن بإخوانك واحتسب ذلك كي يأجرك الله تعالى على ذلك.
الثاني عشر: القيل والقال ونقل الكلام.
قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}. [الإسراء: 36].
جاء في تفسير قوله تعالى: ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) عن قتادة قال: "لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم".
وقال ابن عباس رضي الله عنه: "لا ترم أحداً بما ليس لك به علم".
قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا قِيلَ وقال وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ). متفق عليه.
ومع هذا النهي الإلهي والتحذير النبوي كثرة الكلام ونقل الكلام والقيل والقال؛ إلا أن البعض يقعون في ذلك؛ مما يجرهم ذلك إلى الفُرقة والخلاف، لا لشيءٍ؛ إلا أنه سمع فلاناً يقول، وروى فلان كذا، ونقل فلان كلام كذا، "وما آفة الأخبار إلا رواتها".
فالذي أنصح به نفسي وجميع إخواني المنتسبين للمنهج السلفي بأن يبتعدوا عن هذه الأسباب الموحشة والمؤلمة، والتي من شأنها تُقسِّي القلوب وتصدءها وتُفرِّق ولا تجمع، وتُبَغض ولا تُألَّف، وكن يا أخي رحيماً ودوداً لطيفاً مع إخوانك، فالتراحم والتآلف من صفات المؤمنين، قال تعال:
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}. [الحجرات: 29].
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ مَأْلَفَةٌ وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤْلَفُ). أخرجه: أحمد واللفظ له، والحاكم وقال: " صحيح على شرط الشيخين ولا أعلم له علة ولم يخرجاه".
وفي لفظ: (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا الموطئون أكنافا الذين يألفون و يؤلفون و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف). حسنه الألباني في "الصحيحة" (رقم/ 751).
وفي رواية : (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً). أخرجه أحمد، والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث صحيح ولم يخرج في الصحيحين وهو صحيح على شرط مسلم بن الحجاج. وحسنه الألباني في "المشكاة" (5101).
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين،،
كتبه
أبو فريحان جمال بن فريحان الحارثي
الخميس 13/1/1433هـ.
سحاب السلفية