الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد:
قال الإمام الناصح والعالم المصلح ابن قيم الجوزية ـ رحمه الله ـ في "الرسالة التبوكيه"(ص:٧٦ـ٧٨):
ﻭﻗﻮﻟﻪ - تعالى -: { فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) }.
ﻣﺘﻀﻤﻦ ﻭﺟﻮﻫﺎً ﻣﻦ اﻟﻤﺪﺡ، ﻭﺁﺩاﺏ اﻟﻀﻴﺎﻓﺔ، ﻭﺇﻛﺮاﻡ اﻟﻀﻴﻒ.
ﻣﻨﻬﺎ ﻗﻮﻟﻪ: { فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ }.
ﻭاﻟﺮﻭﻏﺎﻥ: اﻟﺬﻫﺎﺏ ﺑﺴﺮﻋﺔ ﻭاﺧﺘﻔﺎء، ﻭﻫﻮ ﻳﺘﻀﻤﻦ اﻟﻤﺒﺎﺩﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺇﻛﺮاﻡ اﻟﻀﻴﻒ، ﻭاﻻﺧﺘﻔﺎء لترك ﺗﺨﺠﻴﻠﻪ، ﻭﺃﻻ ﻳﻌﺮضه ﻟﻠﺤﻴﺎء، ﻭﻫﺬا ﺑﺨﻼﻑ ﻣﻦ ﻳﺘﺜﺎﻗﻞ، ﻳﺘﺒﺎﺭﺩ ﻋﻠﻰ ﺿﻴﻔﻪ، ﺛﻢ ﻳﺒﺮﺯ ﺑﻤﺮﺃﻯ ﻣﻨﻪ، ﻭﻳﺤﻞ ﺻُﺮَّﺓ اﻟﻨﻔﻘﺔ، ﻭﻳﺰﻥ ﻣﺎ ﻳﺄﺧﺬ، ﻭﻳﺘﻨﺎﻭﻝ اﻹﻧﺎء ﺑﻤﺮﺃﻯ ﻣﻨﻪ، ﻭﻧﺤﻮ ﺫﻟﻚ ﻣﻤﺎ ﻳﺘﻀﻤﻦ ﺗﺨﺠﻴﻞ اﻟﻀﻴﻒ ﻭﺣﻴﺎءﻩ.
ﻓﻠﻔﻈﺔ "ﺭاﻍ" ﺗﻨﻔﻲ ﻫﺬﻳﻦ اﻷﻣﺮﻳﻦ.
ﻭﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: { إِلَى أَهْلِهِ }.
ﻣﺪﺡ ﺁﺧﺮ، ﻟﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ اﻹﺷﻌﺎﺭ ﺃﻥ ﻛﺮاﻣﺔ اﻟﻀﻴﻒ ﻣﻌﺪﺓ ﺣﺎﺻﻠﺔ ﻋﻨﺪ ﺃﻫﻠﻪ، ﻭﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﻘﺮﺽ ﻣﻦ ﺟﻴﺮاﻧﻪ، ﻭﻻ ﻳﺬﻫﺐ ﺇﻟﻰ ﻏﻴﺮ ﺃﻫﻠﻪ، ﺇﺫ نُزُلُ اﻟﻀﻴﻒ ﺣﺎﺻﻞ ﻋﻨﺪﻫﻢ.
ﻭﻗﻮﻟﻪ: { فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ }.
ﻳﺘﻀﻤﻦ ﺛﻼﺛﺔ ﺃﻧﻮاﻉ ﻣﻦ اﻟﻤﺪح:
ﺃﺣﺪﻫﺎ: ﺧﺪﻣﺔ ﺿﻴﻔﻪ ﺑﻨﻔﺴﻪ، ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺮﺳﻞ ﺑﻪ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺟﺎء ﺑﻪ بنفسه.
اﻟﺜﺎﻧﻲ: أﻧﻪ ﺟﺎءﻫﻢ ﺑﺤﻴﻮاﻥ ﺗﺎﻡ ﻟﻢ يأﺗﻬﻢ ﺑﺒﻌﻀﻪ، ﻟﻴﺘﺨﻴﺮﻭا ﻣﻦ ﺃطايب ﻟﺤﻤﻪ ﻣﺎ ﺷﺎءﻭا.
اﻟﺜﺎﻟﺚ: أﻧﻪ ﺳﻤﻴﻦ ﻟﻴﺲ ﺑﻬﻤﺰﻭﻝ، ﻭﻫﺬا ﻣﻦ ﻧﻔﺎﺋﺲ اﻷﻣﻮاﻝ، ﻭﻟﺪ اﻟﺒﻘﺮة اﻟﺴﻤﻴﻦ، ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﻌﺠﺒﻮﻥ ﺑﻪ، ﻓﻤﻦ ﻛﺮﻣﻪ ﻫﺎﻥ ﻋﻠﻴﻪ ﺫﺑﺤﻪ ﻭﺇﺣﻀﺎﺭﻩ.
ﻭﻗﻮﻟﻪ: { إِلَيْهِمْ }.
ﻣﺘﻀﻤﻦ ﻟﻤﺪﺡ ﻭأدب آﺧﺮ، ﻭﻫﻮ ﺇﺣﻀﺎﺭ اﻟﻄﻌﺎﻡ ﺇﻟﻰ ﺑﻴﻦ أﻳﺪﻱ اﻟﻀﻴﻒ، ﺑﺨﻼﻑ ﻣﻦ ﻳﻬﻴﺊ اﻟﻄﻌﺎﻡ ﻓﻲ ﻣﻮﺿﻊ ﺛﻢ ﻳﻘﻴﻢ ﺿﻴﻔﻪ، ﻓﻴﻮﺭﺩﻩ ﻋﻠﻴﻪ.
ﻭﻗﻮﻟﻪ: { أَلَا تَأْكُلُونَ }.
ﻓﻴﻪ ﻣﺪﺡ ﻭأﺩﺏ آﺧﺮ، ﻓﺈﻧﻪ ﻋﺮﺽ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻷﻛﻞ ﺑﻘﻮﻟﻪ: { أَلَا تَأْكُلُونَ }.
ﻭﻫﺬﻩ ﺻﻴﻐﺔ ﻋﺮﺽ ﻣﺆﺫﻧﺔ ﺑﺎﻟﺘﻠﻄﻒ، ﺑﺨﻼﻑ ﻣﻦ ﻳﻘﻮﻝ: ﺿﻌﻮا ﺃﻳﺪﻳﻜﻢ ﻓﻲ اﻟﻄﻌﺎﻡ، ﻛﻠﻮا، ﺗﻘﺪﻣﻮا، ﻭﻧﺤﻮ ذلك.انتهى.
انتقاء: فضيلة الشيخ عبد القادر الجنيد –حفظه الله