أقسام الناس في تحقيق (إيَّاك نَعبُد) لابن القيم الجوزية
لا يكون العبد متحققا بـ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾إلا بأصلين عظيمين :
أحدهما : متابعة الرسول.
والثاني : الإخلاص للمعبود. فهذا تحقيق إياك نعبد.
والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أيضاً إلى أربعة أقسام :
أحدها : أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة؛
وهم أهل إياك نعبد حقيقة، فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم، ولا هرباً من ذمهم، بل قد عدّوا الناس بمنزلة أصحاب القبور؛ لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فالعمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ورجائهم للضر والنفع منهم لا يكون من عارف بهم ألبتة، بل من جاهل بشأنهم وجاهل بربه، فمن عرف الناس أنزلهم منازلهم، ومن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله وعطاءه ومنعه وحبه وبغضه، ولا يعامل أحدٌ الخلق دون الله إلا لجهله بالله وجهله بالخلق، وإلا فإذا عرف الله وعرف الناس آثر معاملة الله على معاملتهم.
وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله، ولما يحبه ويرضاه، وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله من عامل سواه، وهو الذي بلى عباده بالموت والحياة لأجله قال الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ وجعل ما على الأرض زينة لها ليختبرهم أيهم أحسن عملا.
قال الفضيل بن عياض: «العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه». قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: «إن العمل:
إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل،
وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل،
حتى يكون خالصاً صواباً؛
والخالص: ما كان لله،
والصواب: ما كان على السنة».
وهذا هو المذكور في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾، وفي قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه على متابعة أمره، وما عدا ذلك فهو مردود على عامله يرد عليه أحوج ما هو إليه هباء منثوراً. وفي الصحيح من حديث عائشة عن النبي – صلى الله عليه وسلم - : «منْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا، فَهو ردٌّ» وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعداً؛ فإن الله تعالى إنما يُعبد بأمره لا بالآراء والأهواء.
الضرب الثاني : من لا إخلاص له ولا متابعة، فليس عمله موافقا لشرع، وليس هو خالصا للمعبود.
كأعمال المتزينين للناس، المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله، وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز و جل، ولهم أوفر نصيب من قوله: ﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يفرحون بما أُتوا من البدعة والضلالة والشرك، ويحبون أن يُحمدوا بإتباع السنة والإخلاص.
وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة عن الصراط المستقيم، فإنهم يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الإتباع والإخلاص والعلم فهم أهل الغضب والضلال.
الضرب الثالث : من هو مخلص في أعماله لكنها على غير متابعة الأمر:
كجهال العبُّاد، والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر، وكل من عبد الله بغير أمره واعتقد عبادته هذه قربة إلى الله، فهذا حاله؛ كمن يظن أن سماع المكاء والتصدية [المُكَاء: الصفير، والتصدية: التصفيق]قربة، وأن الخلوة التي يترك فيها الجمعة والجماعة قربة، وأن مواصلة صوم النهار بالليل قربة، وأن صيام يوم فطر الناس كلهم قربة، وأمثال ذلك.
الضرب الرابع : من أعماله على متابعة الأمر لكنها لغير الله.
كطاعة المرائين، وكالرجل يقاتل رياء وحمية وشجاعة، ويحج ليقال، ويقرأ القرآن ليقال، فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها لكنها غير صالحة، فلا تقبل ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾.
فكل أحد لم يؤمر إلا بعبادة الله بما أمر، والإخلاص له في العبادة، وهم أهل إياك نعبد وإياك نستعين.
من كتاب مدارج السالكين لابن القيم الجوزية ـ رحمه الله ـ