بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله و بركته
ترجمة معاني القرآن الكريم بين التأييد والتحريم
بقلم : السيد أحمد أبو الفضل عوض الله
كثر الجدل قديما وحديثا حول ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية . فذهب فريق إلى القول بتحريم ذلك ، وقال آخرون بجوازه ، ولكل من الفريقين أسانيد يعتمد عليها ، وبراهين يدلي بها .
رأي القائلين بالتحريم :
أصحاب الرأي بعدم جواز الترجمة يقولون - في مساق حججهم وتأييدا لرأيهم - : إن إباحة الترجمة تعتبر بدعة - وكل بدعة ضلالة - يترتب عليها ضرر ومفسدة ؛ إذ يترك المسلمون من غير العرب تعلم اللغة العربية ، ويقتصرون في تعلم القرآن ودراسته وتلاوته على الترجمة ، وسيؤدي ذلك حتما إلى الاختلاف فيه ؛ لأن الترجمات قد لا تتفق ، فيقع بذلك للمسلمين ما وقع لبني إسرائيل من اختلاف نسخ التوراة السامرية ، والعبرانية ، والسريانية واليونانية .
ويقولون أيضا : إن معاني القرآن كثيرة ، فلا يمكن لأي مترجم أن يحيط بها ، حتى يترجمها ترجمة دقيقة ، تحمل طابع القرآن في إعجازه اللفظي والمعنوي .
ويرون في الإقدام على الترجمة جرأة على القرآن بممارسة شيء لم يفعله الصحابة ولا أهل الصدر الأول .
ويقولون : إن إحجام السابقين الأولين عن ترجمة معاني القرآن أدى إلى انتشار اللغة العربية حتى عمت جميع الأقطار الإسلامية ، فتحقق للمسلمين من وراء انتشارها مزايا كثيرة : اجتماعية ، وعمرانية ، وسياسية ، فاتحدت ممالك الإسلام لغة كما اتحدت دينا ، ونشأ عن ذلك اتحادها في المجتمع ، وزوال تنافرها .
ومن رأيهم أن الممالك الداخلة في الإسلام ، لو أنها اشتغلت بترجمة معاني القرآن إلى لغاتها ، ورأت أن ذلك جائز أو واجب ، ما كانت مصر والعراق والشام وتونس والجزائر والمغرب الأقصى مجالا للعروبة في تاريخنا ، ولبقيت على عجمتها متفرقة اللسان والتفكير والثقافة والأدب ، ولآل ذلك في نهاية الأمر إلى الافتراق في الدين أيضا .
فعدول السابقين عن الترجمة - برغم يسرها عليهم - وتحمل هؤلاء الأعاجم عبء تعلم اللغة العربية ، وإحلالها محل لغاتهم الأصيلة دليل قائم على عدم جواز ترجمة معاني القرآن .
وأما عن تبليغ رسالة القرآن إلى الناس كافة وفيهم غير العرب فهم يرون في ذلك الاكتفاء بتبليغ مجمل ما جاء من أصول الدين والعقائد والعبادات والمعاملات كالإيمان ، والإقرار بالشهادتين ، وأحكام الصلاة والصوم والزكاة والحج والأحوال الشخصية . . . إلخ . ويرون أنه لا يتعين إبلاغ القرآن كله لكل الأمم ، بل يقولون : إن من واجب تلك الأمم أن تتعلم اللسان العربي ؛ حتى يمكن تبليغ رسالة القرآن إليها بنصها العربي .
ومنهم من يقول : إن بعض علماء الكلام ينصون على أن معرفة الله بالبرهان واجبة ، ولا يمكن التوصل إلى ذلك إلا بتعلم اللغة العربية ؛ إذ القرآن واللسان عربيان ، وبهما تعرف الأدلة ، وما لا يتوصل للواجب إلا به فهو واجب .
ومن أنصار هذا الرأي - أي القول بعدم جواز ترجمة معاني القرآن - ابن جزي في " القوانين الفقهية " ، فقد ذكر أن من لم يحسن تلاوة القرآن وقراءته - إن كان لم يتعلمها - وجب عليه تعلمها ، أو الصلاة وراء من يحسنها ، فإن لم يجد فقيل يذكر الله ، وقيل يسكت ، ولا يجوز ترجمتها .
ويرى الأستاذ مصطفى صادق الرافعي أن من أسباب تحريم ترجمة معاني القرآن ونقله إلى لغات العالم قصور الترجمة ، فهي لا يمكن أن تؤديه البتة ، ولا تستطيع مطلقا
أن تحمل حقيقة ما تعنيه ألفاظه على تركيبها المعجز ، ولو هي أدت معانيه كما يفهم أهل العصر ، بقي منها ما ستفهمه العصور الأخرى . . ويقول : إن أشهر وأدق ترجمة لمعاني القرآن في اللغة الفرنسية ترجمت فيها هذه الآية : سورة البقرة الآية 187 أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ، فكانت الترجمة هكذا : هن بنطلونات لكم وأنتم بنطلونات لهن . . . وكيف يمكن أن تترجم هذه الكنايات الدقيقة بشرح وبسط تؤدى فيه الكلمة الواحدة بجمل طويلة . . ! ؟
تم يقول : إن أمثال هذه الكنايات هي وجه من وجوه إعجاز القرآن للغات العالم كله .
رأي القائلين بجواز الترجمة :
أما الفريق الآخر الذي يجيز ترجمة معاني القرآن ، ويدعو إليها ، ويحض عليها ، فمنهم الإمام أبو حنيفة ، والإمام الشاطبي والإمام البخاري . . ومن المحدثين الإمام المراغي وأضرابه .
إن أبا حنيفة يجيز ترجمة معاني القرآن ، بل يقول بصحة الصلاة بتلك الترجمة ، والحنفية قاطبة متفقون على جواز ترجمة معاني القرآن للعارف ، ويقولون : إذا ترجم القرآن فمن كان عاجزا عن القراءة باللفظ العربي وجب عليه وصحت له القراءة بالألفاظ الأجنبية المترجم إليها ، وذلك هو أقوى الآراء عندهم .
أما إذا كان القارئ الأعجمي قادرا على تحريك لسانه باللفظ العربي فقد اختلفوا في أمره ، فمنهم من يرى إلزامه بالقراءة في الصلاة وغيرها بالألفاظ العربية ما دام ذلك قد صار في مقدوره ، ومنهم من يجيز له أن يقرأ بالترجمة الأجنبية التي يعي معانيها ، ويدرك مقاصدها .
وللحنفية في هذه المسألة تفاصيل وفروع ، ولكنها جميعها تتفق على جواز ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية .
أما الشاطبي : فقد استدل في : الموافقات ، على جواز ترجمة معاني القرآن بالقياس على ما هو حاصل من إجماع الأمة على تفسيره للعامة ومن ليس له من الفهم ما يقوى به على إدراك كل معانيه الدقيقة ، وما الترجمة إلا تفسير وإيضاح لغير العربي ؛ حتى يفقه القرآن وأحكامه ، ويتدبر معانيه ومقاصده .
وأما البخاري : فإنه يستدل في " صحيحه " إلى جواز ترجمة معاني القرآن إلى لغات الأعاجم بالقياس على ما كان من ترجمة التوراة إلى العربية بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم . فقد روى في باب ما يجوز من تفسير التوراة وكتب الله بالعربية وغيرها هذا الرأي استنادا لقوله تعالى : سورة آل عمران الآية 93 فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، وذكر ما أخبر به ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب من أن هرقل دعا ترجمانه ليقرأ كتاب النبي ويترجمه إليه ، ونص الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل : سورة آل عمران الآية 64 يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ فقرأ الترجمان الرسالة وترجمها إلى هرقل ليعيها ويفهم ما جاء بها .
وأورد البخاري أيضا ما رواه محمد بن بشار مرفوعا إلى أبي هريرة ، قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري تفسير القرآن (4215). لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، سورة البقرة الآية 136 قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ .
وأورد بسنده أيضا حديث ابن عمر قال : صحيح البخاري التوحيد (7104),صحيح مسلم الحدود (1699),سنن أبو داود الحدود (4446),سنن ابن ماجه الحدود (2556),مسند أحمد بن حنبل (2/5),موطأ مالك الحدود (1551),سنن الدارمي الحدود (2321). أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة من اليهود قد زنيا ، فقال لليهود : ما تصنعون بهما ؟ قالوا : نسخم وجهيهما ونخزيهما ، قال : سورة آل عمران الآية 93 فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فجاءوا بها ، فقالوا لرجل ممن يرضون : يا أعور ، اقرأ ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه ، قال - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - ارفع يدك ، فرفع يده ، فإذا فيه آية الرجم تلوح ، فقال ( أي اليهودي القارئ ) : إن عليهما الرجم ، ولكنا نكاتمه بيننا ، فأمر بهما فرجما ، فرأيته يجنأ جنأ : أكب وحدب ، أي أشرف كاهله على صدره ، واجتنأ عليه : أكب عليه يقيه . . عليها الحجارة .
والبخاري يستنبط من ذلك كله جواز ترجمة معاني القرآن إلى لغات الأعاجم أخذا بالقياس على ترجمة التوراة .
وقد علق صاحب فتح الباري على ما ورد في الحديث الشريف من قوله تعالى : سورة آل عمران الآية 93 فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا الآية . فقال : وجه الدلالة عند الإمام البخاري ، أن التوراة بالعبرانية ، فقضية ذلك الإذن في التعبير عنها بالعربية ، وعكس ذلك يجوز أيضا بحكم قياس المساوي ، فيجوز التعبير عن القرآن العربي بالعبرانية وغيرها ، إذ لا فرق . . بل قد يقال : إن القرآن أولى لأن رسالته عامة ، فالضرورة قاضية بترجمة معانيه ، بخلاف التوراة فترجمتها للحاجة أو للكمال لا للضرورة لعدم عموم رسالة موسى عليه السلام .
وعلق أيضا صاحب فتح الباري على الحديث الذي ذكره البخاري عن ابن عباس عن أبي سفيان السابق ذكره ، فقال : ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل باللسان العربي ، وهرقل لسانه رومي ، ففيه إشعار بأنه اعتمد في إبلاغه ما في الكتاب على من يترجم عنه بلسان المبعوث إليه ليفهمه ، والمترجم المذكور هو الترجمان ، وكذا وقع ، بل الحديث واضح الدلالة في جواز ترجمة معاني القرآن لغير العربية ؛ لأن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مشتمل على آية قرآنية وهي : سورة آل عمران الآية 64 يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الآية . وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم بها للنجاشي ملك الحبشة أيضا ، ولملك الفرس كذلك ، والثلاثة أعاجم لا يعرفون العربية ، ولا يخفى أن في ذلك إذنا ضمنيا منه - عليه الصلاة والسلام - في ترجمة معنى هذه الآية للغات المذكورة كلها ، وقد جاء في الصحيح عن أبي سفيان بن حرب ، أن هرقل لما جاءه الكتاب أمر ترجمانه فترجمها له ، وما جاز في آية واحدة يجوز مثله في سائر القرآن على الإطلاق .
وعلق أيضا على حديث أبي هريرة بأن بعضهم استدل على جواز قراءة القرآن بالفارسية ، وأيد ذلك بدليل آخر هو أن الله حكى في القرآن الكريم قول الأنبياء كقول نوح وموسى وعيسى ويوسف وسائر الأنبياء بلسان القرآن وهو لسان عربي مبين ، مع أن ألسنتهم ليست بعربية ، واستدل على ما ذهب إليه من جواز ترجمة معاني القرآن بل ضرورتها بقوله تعالى : سورة الأنعام الآية 19 لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ . فذكر أن الإنذار إنما يكون بما يفهمون من لسانهم ، فقراءة كل أمة من الناس تكون بلسانها حتى يقع لهم الإنذار به .
الحكم في قضية ترجمة معاني القرآن
والحكم عندنا في هذه القضية أن ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية أمر جائز بالأدلة الشرعية . . بل إن الدعوة الإسلامية تقتضيه وتوجبه ، فهو رأي ليس فيه ابتداع ، بل إنه واجب الاتباع . ويشترط في المترجم أن يكون على دراية تامة ومعرفة يقينية باللسان العربي واللسان المترجم إليه ، مع معرفة تامة بأسباب نزول الآيات ، متمكن من كل أداة توصله إلى الإدراك والفهم الدقيق لما تضمنته الآيات عند ترجمة معناها من العربية إلى اللغة الأجنبية المترجم إليها .
بل لقد أفتى بعض الحريصين على نشر الدعوة - ومنهم السيد محمد بن الحسن الحجوي المغربي - بجواز ترجمة معاني القرآن مطلقا ، فقال : إن ترجمتها من الأمور المرغوب فيها ، وإنها من فروض الكفاية التي يجب على الأمة القيام بها ، فإذا قام بها البعض سقط عن الباقين القيام بها ولم يكن عليهم حرج ، وإن لم يقم بها أحد أثم الكل . ودليل ذلك عنده ، أن القرآن تبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه هو القائل في خطبته المشهورة غداة فتح مكة ، وفي خطبته في حجة الوداع : صحيح البخاري الحج (1654),صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679),سنن ابن ماجه المقدمة (233),مسند أحمد بن حنبل (5/49),سنن الدارمي المناسك (1916). فليبلغ الشاهد منكم الغائب ، وهو القائل أيضا : صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3274),سنن الترمذي العلم (2669),مسند أحمد بن حنبل (2/159),سنن الدارمي المقدمة (542). بلغوا عني ولو آية ، ولقد أوجب الله سبحانه وتعالى على رسوله الأمين أن يقوم بتبليغ الرسالة إلى الناس فقال : سورة المائدة الآية 67 يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ، فالنبي صلى الله عليه وسلم بلغ العرب بلسانهم ، كما قال تعالى : سورة إبراهيم الآية 4 وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ، بل إنه قد بلغ غير العرب أيضا ، فبلغ هرقل قيصر الروم ، وكسرى فارس ، والنجاشي ملك الحبشة ، والمقوقس عظيم القبط ، فيجب على العرب أن يبلغوا رسالة الإسلام لغيرهم من الأمة نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذا قال لهم : صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3274),سنن الترمذي العلم (2669),مسند أحمد بن حنبل (2/159),سنن الدارمي المقدمة (542). بلغوا عني ولو آية . والتبليغ لجميع الأمم لا يمكن أن يكون في العادة شاملا لجميع أفراد الشعب إلا إذا كان بالترجمة إلى لغاتهم . وما دامت أمة من الأمم لم يترجم معنى القرآن إلى لغتها ففرض الكفاية بالتبليغ لم يؤد ، ولم يحصل القيام به من الأمة كما يجب .
أما عن القائلين بعدم جواز الترجمة والاكتفاء في التبليغ بمجمل ما جاء به الدين ، فحجتهم داحضة لا يقوم عليها دليل ؛ إذ الظاهر من قوله تعالى : سورة المائدة الآية 67 يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أن المراد بما أنزل هو عموم القرآن لا جزء خاص منه ، بل إنه يشمل السنة أيضا .
وإنه لمن الدلالات القاطعة بفساد ما دعا إليه القائلون بعدم جواز الترجمة وإلزام الأمم بتعلم اللغة العربية ، أنهم لن يستطيعوا أن يقيموا على ما ذهبوا إليه أي دليل نقلي أو عقلي . . فالدلالات النقلية تعوزهم ، والدلالات العقلية المنطقية تسفه رأيهم ، وليس أدل على ما نقول من قوله تعالى : سورة الروم الآية 22 وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ، ولقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كلم أهل اليمن بلغتهم ، كما جاء في كتاب ( الشفاء ) وغيره . ثم إنه لاختلاف ألسن العرب ولهجاتهم اقتضت حكمة الله أن يكون نزول القرآن على سبعة أحرف ليقرأ العرب ما تيسر لهم منه ، وما كان ذلك إلا تسهيلا عليهم كي لا يلزموا بلغة خاصة .
فإذا كان بنو تميم وهوازن وعرب اليمن لم يلزموا بتعلم لغة قريش لغة القرآن ، بل أبيح لهم أن يقرءوه بحروفهم ولحونهم مع أنه من السهل عليهم أن يروضوا ألسنتهم على لسان قريش . فغير العرب أولى وأحرى بأن لا يلزموا بتعلم العربية ؛ حتى يتسنى لنا تعليمهم الدين والقرآن - طبقا لما يقول به مخالفونا في الرأي - بل يجب أن نيسر لهم تفهم القرآن بلغاتهم وألسنتهم ، وبذلك نكون قد بلغناهم الرسالة وألزمناهم الحجة .
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة بتعلم اللغات الأعجمية ليبلغوا عنه ، فقد أمر زيد بن ثابت بتعلم لغة اليهود ولغة السريان ، فكان يبلغ عنه إليهم ، ويبلغ عنهم إليه صلى الله عليه وسلم .
وكذلك أمر عمر بن الخطاب قواد جيوشه باتخاذ التراجمة مع من لم يعرف العربية من شعوب الأقطار التي فتحها المسلمون كفارس ، والروم ، ومصر ، والسودان ، وبرقة ، وطرابلس . وكان أبو جمرة ترجمانا لعبد الله بن عباس حين كان واليا على البصرة . وكانت دفاتر الخراج ودواوين الأموال تكتب في كل قطر بلغة أهله ، ويتولاها كتاب من الفرس أو الروم أو القبط أو غيرهم على حسب ما يقتضيه لسان كل إقليم ، واستمر الحال كذلك إلى زمن عبد الملك بن مروان حين كثر من أبناء الموالي من أتقنوا اللغة العربية ، ووجد من أبناء العرب من عرفوا ألسنة الأعاجم ، فأمر بنقل دواوين الخراج والمحاسبة جميعها في سائر الأقطار إلى اللغة العربية .
إن ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية ما هي في الواقع إلا ترجمة لمعاني الكلمات ، وتفسير وتوضيح لمقاصد آيات الكتاب بتلك اللغات على نحو ما يفعل المفسرون باللسان العربي . . فما أقوال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وابن جبير وغيرهم من المفسرين القدامى والمحدثين إلا ترجمة لمعاني القرآن وإيضاح لها ، ولذلك سمي ابن عباس ترجمان القرآن . . ومن البدهي الذي لا خلاف فيه أن القرآن لا يمكن أن يسمى قرآنا إلا إذا كان عربيا كما أنزل بنصه ولفظه ولغته .
وإذا كان القرآن قد فسر باللغة العربية ، فلقد فسر أيضا بغير اللسان العربي كتفسير العالم المحقق إسماعيل حقي الذي فسره باللغة الفارسية ، وكذلك فعل غيره من المفسرين الذين فسروه بلغات مختلفة ، وقد أقرهم على هذا العمل علماء الإسلام .
إن ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية أمر لا معدى عنه ، لأنه - كما صرح في غير موضع من آياته : ذكر للعالمين فرسالته عامة لجميع الأمم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سورة الفرقان الآية 1 لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ، قال صلى الله عليه وسلم : مسند أحمد بن حنبل (1/301). أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي . . إلى أن قال :
صحيح البخاري التيمم (32,صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521),سنن النسائي الغسل والتيمم (432),مسند أحمد بن حنبل (3/304),سنن الدارمي الصلاة (1389). وكان النبي يبعث في قومه خاصة ، وبعثت للناس عامة . وقال تعالى : سورة المدثر الآية 2 قُمْ فَأَنْذِرْ ، وقال : سورة الأنعام الآية 19 لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ، ويلزم من عموم الرسالة المحمدية جواز ترجمة معاني القرآن ؛ لأنه دستور الإسلام لسائر الأمم . إن القرآن قد ترجم معناه إلى كثير من لغات العالم ، ترجمه الشيخ سعدي إلى اللغة الفارسية ، وترجمه كذلك العالم الهندي شاه ولي الله إلى الفارسية ، وترجمه إلى اللغة الأردية أفراد من بني شاه ولي الله ، وشاه رفيع الدين ، وشاه عبد القادر ، وهناك تراجم أخرى إلى هذه اللغة وضعت حديثا . وقد ترجم معاني القرآن أيضا إلى لغات البوشتو والترك والجاوة والملايو والجوجراتي والبنجالي والهندي والجرموقي . . . إلخ .
وكان أول من حاول ترجمة معاني القرآن إلى اللاتينية من الأوربيين الإنجليزي روبرت من رتينا ، وألماني اسمه هيرمان من دلماسيا ، وكان ذلك في عام 1143 م بأمر من بطرس راعي دير كلاجني ، ولكن الترجمة لم تنشر إلا بعد أربعة قرون أي في سنة 1543 م على يد تيودور بيبلباندر ، ثم ترجم إلى الإيطالية والألمانية والهولندية بعد ذلك .
وأقدم ترجمة إلى الفرنسية قام بها دي رييه في باريس عام 1647 م ، ثم نشرت لمعاني القرآن ترجمة باللغة الروسية في سان بطرس برج ( لينينجراد ) عام 1776 م .
وأول ترجمة إنجليزية لمعاني القرآن قام بها إسكندر روس وقد نقلها عن الترجمة الفرنسية ( 1649 - 1688 ) م ، وكذلك نشرت ترجمة سيل الشهيرة عام 1737 م . وطبعت ترجمة رودويل عام 1861 م ، ونشرت ترجمة بالمر من كلية كمبريدج عام 1880 م .
وفي القرن العشرين قامت الجمعية الأحمدية بلاهور في الهند بترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأوربية ، فترجمته إلى الإنجليزية والهولندية والألمانية عام 1951 م .
وقد يقول قائل : إن معاني القرآن كثيرة ، فليس في مقدور مخلوق أن يحيط بها فيترجمها ، وللرد على ذلك نقول : إن الله نزل القرآن وهو حافظ له ، سورة الحجر الآية 9 إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ،
فلا يمكن أن تنشأ من تعدد الترجمات اختلاف في القرآن كما وقع في التوراة والإنجيل ، لأن القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وقد أوحي إليه بلفظه ونصه وأسلوبه . وأما غير القرآن من كتب الشرائع السماوية فقد أوحى بها إلى أصحابها بمعانيها دون ألفاظها وأساليبها . ولذلك فإن القرآن لا يمكن أن يتطرق إليه تغيير أو اختلاف أو تبديل ، أما الترجمات المختلفة لمعاني القرآن فهي تفسير لمعانيه ، ومن اليسير على أئمة المسلمين وعلمائهم أن يقابلوا الترجمة على الأصل العربي المنزل ، فيقبل الموافق للنص ، وينبذ المخالف .
وكل تفسير للقرآن - سواء أكان بلسان عربي أم غير عربي - ليس هو القرآن ، وإنما القرآن هو المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بنصه ولفظه ولغته . وللقرآن الكريم سمات وصفات لا يمكن أن تنطبق على غيره من التفاسير والشروح والترجمات . قال تعالى : سورة الزخرف الآية 3 إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ سورة الزخرف الآية 4 وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ، وقال : سورة الزمر الآية 28 قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ، وقال : سورة مريم الآية 97 فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ، ولسان النبي صلى الله عليه وسلم لسان عربي مبين ، قال تعالى : سورة النحل الآية 103 لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ، وقال : سورة البروج الآية 21 بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ سورة البروج الآية 22 فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ، وقال : سورة الدخان الآية 3 إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ سورة الدخان الآية 4 فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ .
وبعد : فالذي نستخلصه من كل ما سبق ، هو ضرورة ترجمة معاني القرآن ضرورة ملزمة ، وهي فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، وأنه من الخير أن يقوم بالترجمة جماعة على مستوى عال من الثقافات الشرعية واللسانية والعلوم الاجتماعية مع سلامة العقيدة ، والحذق التام والمهارة البارعة في اللغتين العربية والأجنبية المترجم إليها . وحسبنا من القائمين بترجمة معاني القرآن أن يبذلوا أقصى الجهد في نقله إلى اللغات الأجنبية بما يوضح معانيه ولا يخرج عن مقاصده ، في أسلوب واضح وبيان مقنع راجح . . . وبالله التوفيق .
مجلة البحوث الإسلامية