ترتيب الأدلة عند الاستدلال يعين المتفقه على الوصول إلى الحق في المسألة.
والأصوليون يهتمون به في باب التعارض والترجيح والاستدلال.
وقد حكى الشيرازي رحمه الله في التبصرة في أصول الفقه (ص: 501): "إِجْمَاع الْأمة على وجوب النّظر وَالِاسْتِدْلَال فِي تَرْتِيب الْأَدِلَّة وَبِنَاء بَعْضهَا على بعض"اهـ.
ولعل مما يؤكد خطورة هذا الفصل من أصول الفقه، وقوع بعض الفضلاء في أخطاء في الاستدلال بسبب ذلك.
والواقع أن بعض مسائل ترتيب الأدلة واضحة ، وبعضها يحتاج إلى انتباه؛
فمن مسائل ترتيب الأدلة :
- تقديم الخاص على العام.
- وتقديم المقيد على المطلق.
- وتقديم النص على القياس .
ومن ما يحتاج إلى انتباه :
- لا مصير إلى الاستصحاب مع وجود ما فوقه من الأدلة.
- لا مصير إلى المصلحة مع وجود النص.
ومن باب التمثيل لبعض ما تقدّم:
مسألة عروض التجارة فإن الاستدلال فيها ببراءة الذمة واستصحاب الأصل بذلك، في نفي وجوب عروض التجارة، خطأ في الاستدلال، من جهة ترك مراعاة ترتيب الأدلة، إذ الذمة انشغلت بالنصوص العامة الموجبة للزكاة في كل مال المسلم، فصارت المسألة الأصل فيها لا براءة الذمة بل شغل الذمة بوجوب الزكاة في كل مال المسلم، إلا ما جاءت النصوص بأن لا زكاة فيه، ولذلك تأتي الأحاديث في هذا الباب على هذه الصورة، أقصد تخرج بعض مال المسلم من الزكاة، كحديث : "وليس على العوامل شىء" أخرجه أبوداود تحت رقم (1572)، وهو قطعة من حديث طويل. وكحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَغُلاَمِهِ صَدَقَةٌ» أخرجه البخاري تحت رقم (1463)، ومسلم تحت رقم (982). فصارت القضية هي إخراج مال المسلم الذي لا تجب فيه الزكاة، لأن الأصل وجوب الزكاة في كل مال المسلم، لدلالة العمومات على ذلك، التي رفعت براءة الذمة في ذلك كقوله تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (الذاريات:19) ، وكقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (سورة المعرج:24 – 25).
فالاستدلال بالاستصحاب في هذه المسألة لا يصح لوجود ما يقدم عليه من الأدلة، ولذلك محله عند عدم الدليل من فوقه. والاستدلال به والحال هذه إخلال بترتيب الأدلة.
قال ابن تيمية (ت728هـ) رحمه الله (القواعد النورانية ص210، بتصرف.): "الأدلة العقلية التي هي الاستصحاب و انتفاء المحرم لا يجوز القول بموجبها في أنواع المسائل و أعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة: هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضى التحريم أم لا؟ إذ قد أجمع المسلمون و علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد و يفتى بموجب هذا الاستصحاب و النفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك؛ فإن جميع ما أوجبه الله و رسوله - صلى الله عليه وسلم -، و حرمه الله و رسوله - صلى الله عليه وسلم - مغير لهذا الاستصحاب فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل لذلك."اهـ.
ومن ذلك : استدلال الطوفي رحمه الله على تقديم المصلحة على النص بأن المصلحة قطعية والنص ظني إما في ثبوته أو دلالته. فإن هذا الاستدلال اختل فيه ترتيب الأدلة.
ولتوضيحه أقول:
إن محل ذكر المصلحة في مسالك العلة، عند اعتبار مسلك المناسبة في الوصف، ليكون علة. ومعنى ذلك أن باب اعتبار المصلحة هو القياس.
وعليه فإنه لا يجوز تقديم المصلحة على النص .
لأنه لا قياس مع النص.
لكن الطوفي رحمه الله افتأت على أصل الباب، وألغى صلته به، وجعل المصلحة دليلاً مستقلاً كأنه خارج عن القياس ثم جعل رتبته القطع، فقدمه على الظن! وكل هذا خلل في ترتيب الأدلة.
فإن تقديم المصلحة على النص لا يجوز ، لأن موضعها هو القياس و لا قياس مع النص!
والله الموفق.
منقول من صفحة الشيخ