الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فقد انتشر في الآونة الأخيرة انتشارا لا نظير له ، من الطعن والإنكار العلني على الوزراء ، والأمراء ومن ولّاهم وليّ الأمر من أهل المناصب العليا في الدولة ، من قِبل بعض الفضلاء ،وطلبة العلم ،فضلا عن غيرهم ، وذلك تصريحا لا تلميحا، بل أصبح هذا مقرّر عند البعض وكأنه من منهج السلف ، وهو ليس من ذلك في شيء ،وليس عليه أثارة من علم ، بل هو من منهج الخوارج المارقين ، والحقّ أحقّ أن يقال وأن يتّبع ، وأهل السنة يعظّمون الحقّ لا الخلق ، وكلام العالم يستدلّ له ، ولا يستدل به.
فالإنكار العلني على الوزراء والولاة ، والأمراء , وأصحاب المناصب عموما ممّن ولّاهم وليّ الأمر لا يجوز بحال ،لا بالمقالات، ولا بالتصنيفات والكتابات ، فضلا أن يكون ذلك في الدروس والمحاضرات ،أو عبر هذه الوسائل الحديثة من أنواع التواصل الاجتماعي، وهو من الغش والفضيحة والتشهير المذموم شرعا ، وليس من النصيحة في شيء.
وذلك لما يترتّب على هذا الفعل الشنيع-أي: الإنكار العلني- من الفساد العظيم ، والشرّ الكبير ، والتهييج والتشغيب وانفلات الأمن وضياعه، وقطع السبّل ، وانتهاك الأعراض ، وتخريب للممتلكات ،ونحو ذلك من الفساد والدّمار التي ينتج من هذا جرّاء هذا الفعل الشنيع القبيح المخالف لشِرعة رب العالمين جلّ وعزّ.
سئل شيخنا صالح الفوزان حفظه الله ما نصه : هل يجوز انتقاد الدوائر الحكومية والقائمين عليها من وزراء، وذلك من باب الإصلاح وتوضيح الخلل، أمام عامة الناس؟
:فأجاب بقوله :
الانتقاد الذي يُقصد به التجريح ويُقصد به تنقُّص المسئولين والتماس عيوبهم، هذا لا يجوز. أما انتقادها الذي يُبلَّغ للمسئولين من أجل أن يُصلِحوها، فلا بأس بذلك؛ أنه يقول: الدائرة الفلانية فيها كذا، فيها خلل، المسئول فيها فيه كذا؛ عند ولي الأمر ما هو عند الناس. يتكلم في الدوائر وفي المسئولين عند الناس؛ هذه غيبة، ومع الغيبة فيها إفساد؛ لأنها قد تسبب مثلًا معصية ولي الأمر واحتقار ولي الأمر أو ما أشبه ذلك، فهذا شأن الخوارج، هذا من صفات الخوارج.
وقال حفظه الله : الخروج على الأئمة يكون بالخروج عليهم بالسيف، وهذا أشد الخروج،ويكون بالكلام: بسبِّهم، وشتمهم، والكلام فيهم في المجالس، وعلى المنابر، هذا يهيِّج الناس ويحثهم على الخروج على ولي الأمر، ويُنَقِّص قدر الولاة عندهم، هذا خروج، فالكلام خروج، نعم.[1]اهـ
والطعن فيهم في حقيقة أمره طعن في وليّ الأمر شاء صاحبه أم أبى، لأن الطعن فيهم يورث الحقد والغلّ والكراهية على من ولّاهم في هذه المناصب وهو: ولي الأمر، وهذا أمر لا ينكره إلا جاهل أو جاحد لا ثالث لهما ، ويظهر ذلك وضوحا جليّا لمن تأمّل حال الخوارج الفجرة الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه وغيره من الخلفاء والملوك والرؤساء .
فمن أعظم الأسباب في ذلك هو: الطعن فيمن ولّاهم ولاة الأمور من أهل المناصب من الوزراء والولاة وغيرهم.
وإذا عرف السبب بطل العجب -كما يقال- ، من هنا تعرف سبب خروج الخوارج كما أسلفت آنفا على عثمان رضي الله عنه ، وهو : التلبيس والتدليس من قِبل الخوارج في إقناع الدّهماء من الناس والرعاع في خلعهم البيعة، وذلك بطرقهم الملتوية، وهو: الطعن في نوابه من الولاة ممن ولاّهم رضي الله عنه ، كمعاوية بن أبي سفيان على الشام ، ويعلى بن أمية التميمي على اليمن ، وعبد الله بن عمرو الحضرمي على مكة ، والقاسم بن ربيعة الثقفي على الطائف . والوليد بن عقبة على الكوفة ، وعبد الله بن عامر بن قريظ على البصرة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر ، وغيرهم من الولاة.
الشاهد : من الأسباب التي استطاع الخوارج أن يظفروا ببغيتهم –قبحّهم الله-في الإطاحة بالخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه وهو أن طعنوا في الولاة الذين نصبّهم رضي الله عنه ، حتى تهيأ لهم الجوّ ، وتأتّى لهم ما يريدون ، وهو : زرع الحقد والكراهية في قلوب الناس اتجاه هؤلاء الولاة ، وذلك تحت شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحت شعار العدل ، ومحاربة الظلم والفساد ونحو ذلك كما هو حال خوارج العصر-ولكلّ قوم وارث-؛ وحينئذ كان الدهماء من الناس وعوامهم متقبلّون إلى حد كبير إلى عزله والخروج عليه سواء كان ذلك بالسيف والسنان ، أو باللسان وهو أخطر مايكون[2] ، بل إنّ الخروج بالسيف والسنان لابد أن يسبقه خروج بالكلام واللسان، وأن الفتنَ ،والمصائب ،والمدلهمات ، والمحن ، تبدأ أولا بالكلام والتشهير، وكما قيلَ:
فإِنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى ...وإِنَّ الحَرْبَ أَوَّلُها كَلامُ
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : لابد أن يكون توطئة وتمهيد: قدح في الأئمة، وستر لمحاسنهم، ثم تمتلئ القلوب غيظًا وحقدًا، وحينئِذٍ يحصل البلاء.[3]
ومن هنا يتبيّن للقارئ اللبيب أن هذا هو المنهج الذي كان يسير عليه عدّو الله الخبيث المخبّث عبدالله بن سبأ اليهودي حين كان يقول لأتباعه: إن عُثْمَان أخذها بغير حق، وهذا وَصِىّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،*فانهضوا في هذا الأمر فحرِّكوه، وابدؤوا بالطعن عَلَى أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، تستميلوا الناس، وادعوهم إِلَى هَذَا الأمر.[4]
وقد تحقّق ما أراده عدوّ الله ؛ فعن عامر بن سعد، قال: كان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق السيئ جبله ابن عمرو الساعدي، مر به عثمان وهو جالس في ندي قومه، وفي يد جبلة بن عمرو جامعة، فلما مر عثمان سلم، فرد القوم، فقال جبلة: لم تردون على رجل فعل كذا وكذا! قال: ثم أقبل على عثمان، فقال: والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه قال عثمان: أي بطانه! فو الله إني لأتخير الناس، فقال: مروان تخيرته! ومعاوية تخيرته! وعبد الله بن عامر بن كريز تخيرته! وعبد الله بن سعد تخيرته! منهم من نزل القرآن بدمه، وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم *دمه.
قال: فانصرف عثمان، فما زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم. اليَوْمِ[5].
ولكلّ قوم وارث هاهو رأس الخوارج سيد قطب عامله الله بعدله يقرّر ذلك حيث قال : "فهم عثمان – يرحمه الله – أن كونه* إماماً يمنحه حرية التصرف في مال المسلمين بالهبة والعطية، فكان رده في كثير من الأحيان على منتقديه في هذه السياسة: "وإلا؛ ففيم كنت إماماً؟"، كما يمنحه حرية أن يحمل بني معيط وبني أمية من قرابته على رقاب الناس وفيهم الحكم طريد رسول الله، لمجرد أن من حقه أن يكرم أهله ويبرهم ويرعاهم.[6]
وطعن في عثمان وفيمن ولّاهم رضي الله عنهم طعنات غادرة فاجرة، حيث قال: في خال المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين معاوية رضي الله عنه الذي استعمله رسول الله*صلى الله عليه وسلم*كاتباً للوحي، واستعمله أبوبكر وعمر على الشام : "وغير المال! كانت الولايات تغدق على الولاة من قرابةة عثمان، وفيهم معاوية الذي وسع عليه عثمان في الملك فضم إليه فلسطين وحمص، وجمع له قيادة الأجناد الأربعة، ومهد له بعد ذلك أن يطلب الملكك في خلافة علي وقد جمع المال والأجناد، وفيهم الحكم بن العاص طريد رسول الله، وفيهم عبد الله بن سعد بن أبي السرح أخوه من الرضاعة... .[7]
والثمرة المرّة ، التي وصل إليها عامله بعدله ،وهي : أن أسقط خلافته رضي الله عنه بالكليّة ومدح الخوارج ممن هو على شاكلته ودربه ، حيث قال : "ونحن نميل إلى اعتبار خلافة علي امتداداً طبيعياً لخلافة الشيخين قبله، وأن عهد عثمان كان فجوة بينهما"[8]
وقال : وأخيراً ثارت الثائرة على عثمان واختلط فيها الحق بالباطل، والخير بالشر،ولكن لابد لمن ينظر إلى الأمور بعين الإسلام ، ويستشعر الأمور بروح الإسلام أن يقرر أن تلك الثورة في عمومها كانت أقرب إلى روح الإسلام واتجاهه من موقف عثمانأو بالأدق من موقف مروان!*).*
وإذا كنا لا نؤرخ هنا للدولة الإسلامية، ولكن للروح الإسلامي في الحكم؛ نكتفي في إبراز مظاهر التحول والانحسار في هذا الروح بإثبات ثلاث خطب".
فساق خطبتين يزعم أنهما لمعاوية رضي الله عنه، وخطبة واحدة يزعم أنها للمنصور العباسي، ثم علق عليها بقوله:
"وبذلك خرجت سياسة الحكم نهائياً عن دائرة الإسلام وتعاليم الإسلام، فأما سياسة المال؛ فكانت تبعاً لسياسة الحكم"[9]
ثم دندن حول سياسة المال، ثم قال :"وخرج الحكام بذلك نهائياً من كل حدود الإسلام في المال.[10]
الشاهد : فمن عظم شأن هذه المسألة في دين الله تعالى ، وخطر مخالفتها ، والآثار السلبية التي ترجع سلبا على الفرد والمجتمع ، وأثرها بل وآثارها الوخيمة على الأمة الإسلامية التي لا تخفى على كلّ عاقل ،فقد كثرت الأدلة في شأنها حتى تعدّت مائة دليل ، والسلفيّ الصادق المتّبع يكفيه دليل واحد ، والذي اشرئبّ قلبه بالأهواء ،وانتكست فطرته لا ينقاد ولو سردت له عشرات بل ومئات الأدلة.
والعلماء قد خصّوها وأفردوها بالتصنيف والتأليف لعظم شأنها ، وعلوّ قدرها ،ومكانتها، ومنزلتها في دين الله تعالى، وإذا تكلّموا عن هذه المسألة ذكروها في باب المعتقد ،لا في باب الفقه او المعاملات ونحو ذلك من أبواب الدين .
والأدلة الشرعية على مانحن في صدده وبيانه وإيضاحه كثيرة جدا كما ذكرت ذلك آنفا ،منها :
أولا :
قال تعالى : {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [النساء: 59]
وكثير من الأدلة التي جاءت في باب الإمامة والإمارة تصلح أن يستدلّ بها على عدم جواز الطعن ، والإنكار العلني على من ولّاهم ولي الأمر من أصحاب المناصب الكبيرة في الدولة ، فــ :"أولي الأمر"، كلمة تشمل كل من له سلطان ،سواء كان وزيرا ،أو مسؤولا في الدولة، فضلا أن يكون وليّا شرعيّا للبلاد.
ثانيا :
ولأنها من باب إشاعة الفاحشة بين أهل الإسلام والإيمان ،قال عز وجل : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون } [النور: 19].
ثالثا :
ولأنها غيبة في حقّ هذا المسؤول إذا كانت حقا وصدقا ، وإلا تعدّ بهتانا وفجورا ،قال تعالى : { ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} [الحجرات: 12].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته.[11]
رابعا :
ولأن هذه الطعن فيهم يدخل ضمنا ، بل يدخل دخولا أوليا في القالة بين الناس ,وما يترتب عليها من جرّأء ذلك من الفتن والمحن ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس.[12]
خامسا :
ولأنها تؤدّي إلى سفك الدماء ،وقتل الأبرياء ،وضياع الأمن ونحو ذلك من الفتن ،والقلائل والمحن ،قال عبدا لله بن عكيم الجهني : لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان !!
فقيل له : يا أًبا معبدٍ أًوَ أًعنت على دمه ؟
فيقول : إِني أُعِدُّ ذِكْرَ مساويه عوناً على دمِهِ.[13]
سادسا :
الإنكار العلني لا ريب فيه ولا شكّ ولا أدنى من ذلك أنه يسبب الفتن في المجتمع، ويعود أثره على الفرد والمجتمع ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : الفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء ، وهذا شأن الفتن ، كما قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} ،وإذاا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله .[14]
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : توزيع الأشرطة الخبيثة التي تدعو إلى الفرقة والاختلاف وسب ولاة الأمور والعلماء لا شك أنها من أعظم المنكرات.
والواجب الحذر منها سواء كانت جاءت من لندن من الحاقدين والجاهلين الذين باعوا دينهم وباعوا أمانتهم على الشيطان من جنس محمد المسعري ومن معه الذين أرسلوا الكثير من الأوراق الضارة المضلة والمفرقة للجماعة يجب الحذر منهم ويجب إتلاف ما يأتي من هذه الأوراق لأنها شر وتدعو إلى الشر وما هكذا النصيحة .
فالنصيحة تكون بالثناء على ما فعل من الخير والحث على إصلاح الأوضاع والتحذير مما وقع من الشر هذه طريقة أهل الخير الناصحين لله ولعباده. اهـ
وسئل رحمه الله مانصه : هل من منهج السلف نقد الولاة من فوق المنابر؟ وما منهج السلف في نصح الولاة؟
فأجاب :ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة، وذِكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يُفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يُوجَّه إلى الخير.[15]
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : بعض الناس ديدنه في كل مجلس يجلسه الكلام في ولاة الأمور والوقوع في أعراضهم ونشر مساوئهم وأخطائهم معرضاً بذلك عمّا لهم من محاسن أو صواب ،ولا ريب أن سلوك هذا الطريق والوقوع في أعراض الولاة لا يزيد في الأمر إلا شدة فإنه لا يحل مشكلاً ولا يرفع مظلمة إنما يزيد البلاء بلاء ويوجب بغض الولاة وكراهيتهم وعدم تنفيذ أوامرهم التي يجب طاعتهم فيها.اهـ
تنبيه :
والنصيحة لولي الأمر أو لمن ولّاه ولي الأمر من أصحاب المناصب من أهم ما يكون ، ويجب وجوبا عينيا لمن استطاع إلى ذلك سبيلا بالضوابط الشرعية ، والحدود المرعية ، فعن تميم الداري رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الدين النصيحة » قلنا لمن قال: « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ».[16]
قال أبونعيم الأصبهاني رحمه الله : من نصح الولاة والأمراء اهتدى ومن غشهم غوى واعتدى.[17]
لكن مما يجب ذكره في مثل هذا المقام من البيان والكلام وهو أن النصيحة لولي الأمر أو نوابه تكون سرا *لا علنا ، وهذا أصل من أصول المنهج السلفي الذي خالفه أهل الأهواء والبدع، فعن عياض ابن غنم الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:* من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه.[18]
قال العلامة السندي رحمه الله : في قوله: "من أراد أن ينصح لسلطان"، أي: نصيحة السلطان ينبغي أن تكون في السِّر، لا بين الخلق.[19]اهـ
ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه، قال بعض الناس لأسامة بن زيد رضي الله عنه: ألا تكلم عثمان؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه، إلا أسمعكم؟ إني أكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من افتتحه.[20]
قال الشيخ ابن باز رحمه الله معلقاً على أثر أسامة رضي الله عنه : لما فتحوا الشرّ في زمن عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عثمان رضي الله عنه جهرة تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية وقتل عثمان وعلي بأسباب ذلك وقتل جم كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني وذكر العيوب علناً حتى أبغض الناس ولي أمرهم وحتى قتلوه . نسأل الله العافية.
وعن سعيد بن جمهان قال: أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر، فسلمت عليه، قال لي: من أنت؟ فقلت: أنا سعيد بن جمهان، قال: فما فعل والدك؟ قال: قلت: قتلته الأزارقة، قال: لعن الله الأزارقة، لعن الله الأزارقة، حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنهم كلاب النار» ، قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: «بل الخوارج كلها» . قال: قلت: فإن السلطان يظلم الناس، ويفعل بهم، قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة، ثم قال: «ويحك يا ابن جمهان عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم إن كان السلطان يسمع منك، فأته في بيته، فأخبره بما تعلم، فإن قبل منك، وإلا فدعه، فإنك لست بأعلم منه»”.[21]
وعن شريح بن عبيد الحضرمي قال: "جلد عياض بن غنم صاحب دارا حين فتحت، فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض، ثم مكث لياليف أتاه هشام بن حكيم فاعتذر إليه، ثم قال هشام لعياض: ألم تسمع النبي يقول: (إن من أشد الناس عذابا أشدهم عذابا في الدنياللناس)، فقال عياض بن غنم: يا هشام قد سمعنا ما سمعت ورأينا ما رأيت، أو لم تسمع رسول يقول: "من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبد له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك،وإلا كان قد أدى الذي عليه"، وإنك يا هشام لأنت الجريء إذ تجترئ على سلطان الله،فهلا خشيت أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى؟".
قال سعيد بن جبير قال رجلٌ لابن عباس: آمر أميري بالمعروف؟ قال: إن خفت أن يقتلك فلا تُؤنّب الإمام، فإن كنت لا بد فاعلاً، فيما بينك وبينه.[22]
قال الشوكاني رحمه الله : ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله ”.[23] (5.
وسئل شيخنا صالح الفوزان حفظه الله مانصه : ما هو المنهج الصحيح في المناصحة ،وخاصة مناصحة الحكام أهو بالتشهير على المنابر بأفعالهم المنكرة ؟ أم مناصحتهم في السرّ ؟ أرجو توضيح المنهج الصحيح في هذه المسألة ؟
فأجاب حفظه الله بقوله :
العصمة ليست لأحد إلا لرسول الله ؛ فالحكام بشر يخطئون ، ولا شك أن عندهم أخطاء وليسوا معصومين ، ولكن لا نتخذ من أخطائهم مجالاً للتشهير بهم ونزع اليد من طاعتهم ، حتى وإن جاروا ، وإن ظلموا، حتى وإن عصوا ، ما لم يرتكبوا كفراً بواحاً – كما أمر بذلك النبي وإن كان عندهم معاصٍ وعندهم جور وظلم ؛ فإن الصبر على طاعتهم جمع للكلمة ووحدة المسلمين وحماية لبلاد المسلمين ، وفي مخالفتهم ومنابذتهم مفاسد عظيمة – أعظم من المنكر الذي هم عليه – يحصل ما هو أشد من المنكر الذي يصدر منهم ما دام هذا المنكر ودن الكفر ودون الشرك .
ولا نقول : إنه يسكت على ما يصدر من الحكام من أخطاء ، لا .. بل تُعالَج ، ولكن تُعالَج بالطريقة السليمة ، بالمناصحة لهم سراً ، والكتابة لهم سراً .
وليست بالكتابة التي تكتب ويوقع عليها من جمع كثير وتوزع على الناس ، هذا لا يجوز ، بل تكتب كتابة سرية فيها نصيحة وتسلمها لولي الأمر أو تكلمه شفوياً ، أما الكتابة التي تُكتب وتُصَوَّر وتُوَزَّع على الناس ؛ فهذا لا يجوز ؛ لأنه تشهير ، هذا مثل الكلام على المنابر بل هو أشد ، بل الكلام يمكن أن يُنسى ، ولكن الكتابة تبقى تتداولها الأيدي ؛ فليس هذا من الحق .
قال صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، قلنا لمن يا رسول الله ؟. قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .
وفي الحديث : إن الله يرضى لكم ثلاثاً : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم.
وأولى من يقوم بالنصيحة لولاة الأمور هم العلماء وأصحاب الرأي والمشورة وأهل الحل والعقد ، قال - تعالى –{وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}.
فليس كل أحد من الناس يصلح لهذا الأمر ، وليس الترويج للأخطاء والتشهير بها من النصيحة في شيء ، ولا هو من منهج السلف الصالح ، وإن كان قصد صاحبها حسناً وطيباً ، وهو : إنكار المنكر - بزعمه - ، لكن ما فعله أشد منكراً مما أنكره ، وقد يكون إنكار المنكر منكراً إذا كان على غير الطريقة التي شرعها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فهو منكر ؛ لأنه لم يتبع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم الشرعية التي رسمها ، حيث قال عليه الصلاة والسلام : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ؛ فإن لم يستطع فبلسانه ؛ فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الناس على ثلاثة أقسام ؛ منهم من يستطيع أن يزيل المنكر بيده وهو صاحب السلطة ولي الأمر أو من وُكِل إليه الأمر من الهيئات والأمراء والقادة..[24] اهـ
ولنختم بكلام ماتع للعلامة ابن باز رحمه الله حيق قال رحمه الله : فالنصح يكون بالأسلوب الحسن والكتابة المفيدة والمشافهة المفيدة, وليس من النصح التشهير بعيوب الناس, ولا بانتقاد الدولة على المنابر ونحوها, لكن النصح أن تسعى بكل ما يزيل الشر ويثبت الخير بالطرق الحكيمة ،وبالوسائل التي يرضاها الله عز وجل[25].
تنبيه :
وأما من رفع الزلات ، والهفوات ، والعظائم من الفساد ،والنهب في المال العام ونحو ذلك التي يقع فيها هذا الوزير أو الأمير لولي أمر البلاد ، أو ممّن دونه ممن له سلطة عليه ،فهذا من أوجب ما يكون لمن استطاع إلى ذلك سبيلا ، لكن تكون بالضوابط الشرعية ،والحدود المرعية.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه ، وهذا ما يسر الله إيراده ، ولمن عنده إفادة ، أو إشادة ، أو تعقيب فالمجال مفتوح لتعمّ الفائدة ، والله الموفقّ والهادي إلى سواء السبيل.
كتبه : عبد الحميد الهضابي.
13 / 08 / 1438
مكة المكرمة
الحواشي :
[1] ـ محاضرة ألقاها الشيخ بمسجد الملك فهد بالطائف بتاريخ 3-3-1415 هـ، والمادة موجودة على الموقع الرسمي للشيخ، بعنوان: (صور الخروج على الأئمة)
[2] ـ قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مبيِّنًا خطورة اللسان: «الإفسادُ قد يكون باليد وقد يكون باللسان، وما يُفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تُفسده اليد، كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد». [الصارم المسلول على شاتم الرسول (صـ 385)].
وقد سُئل شيخنا صالح الفوزان -حفظه الله-: هل الخروج على الحاكم بالقول كالخروج بالسيف سواء بسواء؟ وما الحكم بالخروج على الحاكم؟
فأجابَ:الخروج على الحاكم بالقول قد يكون أشد من الخروج بالسيف، بل الخروج بالسيف مترتب على الخروج بالقول ، الخروج بالقول خطيرٌ جدًا، ولا يجوز للإنسان أن يحث الناس على الخروج على ولاة الأمور، ويبغَّض ولاة أمور المسلمين إلى الناس، فإن هذا سبب في حمل السلاح فيما بعد والقتال، فهو أشد من الخروج بالسيف؛ لأنه يُفسِد العقيدة، ويُحرِّش بين الناس، ويُلقي العداوة بينهم، وربما يسبب حمل السلاح ، نعم.[الموقع الرسمي للشيخ، مادة بعنوان: (الخروج على الحاكم بالقول أخطر من الخروج عليه بالسيف)].
هذا، ومما يؤكِّد على أن الخروج يكون باللسان -كما يكون بالسِّنان- أنّ أهلَ العِلم ذكروا نوعًا من الخوارج، وهم الخوارج القَعَدِيَّة.
هؤلاء الخوارج القَعَدِيَّة ما خرجوا بالسيف!!، فمَن هم الخوارج القَعَدِيَّة؟!
(الخوارج القَعَدِيَّة): هم الذين يهيِّجون الناسَ على حكامهم؛ بذكر مثالبهم والتشهير بعيوبهم؛ ويزينوا الخروجَ عليهم، ولكنهم لا يرون الخروجَ بالسيف.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: «القَعَدِيَّة: الذين يزينون الخروج على الأئمة، ولا يُباشرون ذلك». [هدي الساري صـ 459].
وقال -أيضًا-: «والقعدية: قومٌ من الخَوَارِج كَانُوا يَقُولُونَ بقَوْلهمْ، وَلَا يرَوْنَ الخُرُوجَ بل يزينونه». [فتح الباري لابن حجر (1/432)].
وقال -أيضًا-: «القَعَدُ: الخوارج، كانوا لا يُرون بالحرب، بل يُنكِرون على أمراء الجور حسب الطاقة، ويدعون إلى رأيهم، ويزينون مع ذلك الخروج ويحسنونه». [تهذيب التهذيب (8/129)].
وقال في ترجمة (عِمْرَان بن حِطَّان): «كان من رءوس الخوارج من القعدية -بفتحتين-، وهم الذين يحسّنون لغيرهم الخروج على المسلمين، ولا يباشرون القتال». [الإصابة في تمييز الصحابة (5/232)] .
وقال السيوطي -رحمه الله-: «عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ مِنَ القُعْدِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ الخُرُوجَ عَلَى الأَئِمَّةِ، وَلَا يُبَاشِرُونَ ذَلِكَ». [تدريب الراوي (1/390)].
ولهذا قال فيه الدّارقطنيّ: «متروكٌ، لسوء اعتقاده وخُبث مذهبه». [الإصابة (5/234)] .
وهؤلاء الخوارج القعدية أخبث فِرق الخوارج؛ فقد روى أبو داود في مسائل الإمام أحمد صـ271 عن عبدالله بن محمد الضعيف -أحد أئمة السلف- أنه قال : «قَعَدُ الخوارج هم أخبثُ الخوارج».
[3] ـ من تعليقه على رسالة الإمام الشوكاني: «رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين»، ( الشريط : ظ¢/أ )].
[4] ـ "تاريخ الطبري" (4/ 340-341)].
[5] ـ [تاريخ الطبري (4/366)] .
[6] ـ "العدالة الاجتماعية" ص (186/ الطبعة الخامسة).
[7] ـ "العدالة الاجتماعية" ص (187/ الطبعة الخامسة)، ومعناه في (ص 159/ الطبعة الثانية عشر).
[8] ـ "العدالة الاجتماعية" ص (206/ الطبعة الخامسة).
[9] ـ "العدالة الاجتماعية" (ص 200 ط الخامسة، ص 168 ط الثانية عشر).
[10] ـ العدالة الاجتماعية" (ص 199 - 200/ الطبعة الخامسة). ص 168 الطبعة الثانية عشر.
[11] ـ أخرجه مسلم (2589)
[12] ـ أخرجه مسلم (2606)
[13] ـ "سير أعلام النبلاء" (3|512)
[14] ـ منهاج السنة النبوية (4/343) .
[15] ـ [مجموع فتاوى ابن باز (8/211)].
[16] ـ أخرجه مسلم ( 55 )
[17] ـ فضيلة العادلين (140) .
[18] ـ أخرجه أحمد في (3 / 403 – 404 )، وابن أبي عاصم في "السنة" (2/ 521). وصححه الألباني في ظلال الجنة (507).
[19] ـ "حاشيته على مسند الإمام أحمد" (24/ 50):
[20] ـ أخرجه البخاري (3267) ومسلم (2989).
[21] ـ أخرجه أحمد في المسند (4/382) وابن أبي عاصم في السنة (424رقم2905) . وحسنه الألباني في "ظلال الجنة" (424) .
[22] ـ أخرجه ابن أبي الدنيا في الأمر بالمعـروف (113رقم76) والبيهقي في الشعب (13/273رقم7185،7186
[23] ـ "السيل الجرار "(4/556) .
[24] ـ "الأجوبة المفيدة"(ص :24)
[25] ـ "مجموع فتاوى ابن باز" (7 / 306)