نعمتان أفضل من الجنة
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فمما جاءت به الشريعة الترغيب في الجنة بذكر ما أعده الله تعالى فيها من النعيم المقيم، وأنهار وقصور وجنان وعيون، ولحم طير مما يشتهون، وحور عين وغير ذلك مما ذكر في كتاب الله العزيز وسنة نبيه الأمين.
فالجنة وما فيها من نعمة مما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: ((أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله، ما اطلعتم عليه)).
ثم قرأ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
متفق عليه.
هذه الجنة لا يقدر قدرها إلا الذي خلقها.
قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
فعلى عظم هذه الجنة وكبرها وحسنها وجمالها وفضلها، خص أهلها بنعمتين خير منها وأفضل وأكمل.
النعمة الاولى: رؤية الله.
النعمة الثانية: رضوان الله.
وهاتان النعمتان بهما يكتمل ويطيب العيش في الجنة تكمل بهما السعادة.
قال العلامة السعدي رحمه الله في ((تيسير الكريم الرحمن)) : (({وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} يحله على أهل الجنة {أَكْبَرُ} مما هم فيه من النعيم، فإن نعيمهم لم يطب إلا برؤية ربهم ورضوانه عليهم، ولأنه الغاية التي أمَّها العابدون، والنهاية التي سعى نحوها المحبون، فرضا رب الأرض والسماوات، أكبر من نعيم الجنات )) اهـ.
فلما كان رضوان الله ورؤيته في الجنة أكبر من النعيم المقيم، جاء في الشريعة الترغيب فيهما وبدل الوسع في الظفر بهما.
النعمة الاولى: رؤية الله.
تواترت نصوص السنة على رؤية الله عز وجل.
مما تواتر حديث من كذب *** ومن بنى لله بيتا واحتسب
ورؤية شفاعة والحوض *** ومسح خفين وهذي بعض
بل جاء في كتاب الله تقرير هذا المعتقد وبيانه في عدة مواضع.
قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: 22-23].
وقال الله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103].
قال جل وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
وقد فسرت الزيادة برؤية الله، وسيأتي في حديث صهيب رضي الله عنه عند مسلم.
وقوله تعالى: { لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35].
قال البغوي رحمه الله في ((تفسيره)) : ((وهو قوله: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}، يعني الزيادة لهم في النعيم ما لم يخطر ببالهم. وقال جابر وأنس: هو النظر إلى وجه الله الكريم)) اهـ.
وقال سبحانه: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].
أخرج أبو العباس السراج في تاريخه كما في ((فتح الباري)) لابن حجر، عن الحسن بن عبد العزيز الجروي وهو من شيوخ البخاري سمعت عمرو بن أبي سلمة يقول سمعت مالك بن أنس وقيل له: يا أبا عبد الله قول الله تعالى: { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } يقول قوم إلى ثوابه.
فقال: (كذبوا فأين هم عن قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}).
وأخرج البيهقي في ((الاعتقاد)) عن ابن هرم القرشي أنه قال: سمعت الشافعي يقول في قول الله عز وجل: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، قال: (لما حجبهم في السخط كان هذا دليلاً على أنهم يرونه في الرضا).
وفي رواية عند البيهقي في ((مناقب الشافعي)) عن ابن هرم القرشي، يقول: سمعت الشافعي يقول في قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}.
قال: هذا دليل على أن أولياءه يرونه يوم القيامة.
وأخرج البيهقي في ((مناقب الشافعي)) عن الربيع بن سليمان يقول: كنت ذات يوم عند الشافعي، رحمه الله، وجاءه كتاب من الصَّعِيد - وهو اسم موضع - يسألونه عن قول الله جل ذكره: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فكتب فيه: لَمَّا حجب الله قوماً بالسخط دلّ على أن قوماً يرونه بالرّضا.
[قال الربيع] قلت له: أَوَتَدِينُ بهذا يا سيدي؟
فقال: والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا.
أما الأحاديث المتواترة فقد جاءت عن ثلاثين صحابيا تقريبا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((فتح الباري)) : ((جمع الدارقطني طرق الأحاديث الواردة في رؤية الله تعالى في الآخرة فزادت على العشرين وتتبعها ابن القيم في حادي الأرواح فبلغت الثلاثين وأكثرها جياد وأسند الدارقطني عن يحيى بن معين قال عندي سبعة عشر حديثا في الرؤية صحاح)) اهـ.
مما جاء فيه بيان أن رؤية الله أفضل من نعيم الجنة.
عن صهيب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟
فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟
قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل)).
أخرجه مسلم.
النعمة الثانية: رضوان الله.
قال الله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15].
قال العلامة ابن كثير رحمه الله في ((تفسير)) : (({وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} أي: يحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم بعده أبدا؛ ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] أي: أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم)) اهـ.
وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72]. أخرج ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) عن سعيد بن جبير في قوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} يعني: إذا أخبروا أن الله عنهم راض فهو أكبر عندهم من التحف والتسليم.
وقال العلامة ابن كثير رحمه الله في ((تفسير)) : ((وقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي: رضا الله عنهم أكبر وأجل وأعظم مما هم فيه من النعيم)) اهـ.
وقال العلامة محمد آمان الجامي رحمه الله في ((الصفات الإلهية)) : ((الصفة الثامنة: صفة الرضا: هذه الصفة واحدة من صفات الأفعال التي فصلنا فيها القول سابقاً مثل المعية والمحبة وغيرها، وهي ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع العلماء الذين يعتد بإجماعهم من الأئمة الأربعة وغيرهم ممن هم في طبقتهم أو بعدهم من الذين ينهجون منهج السلف الصالح.
بل هذه الصفة هي مطلب كل عابد، وغاية كل سالك من طاعتهم وعباداتهم. ومن الأدعية المأثورة التي يدعو بها طلاب الرضا في أرجى الأوقات ومظان إجابة الدعاء (اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار) فالرضى عنهم في دار الكرامة وعدم السخط عليهم بعد الرضى مطلب ليس بعده مطلب)) اهـ.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة.
فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك.
فيقول: هل رضيتم؟
فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك.
فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك.
فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك.
فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا)).
أخرجه الشيخان.
وهذا الحديث جلي في بيان أن رضا الله عز وجل أفضل من نعمة الجنة.
أسأل الله لي ولكم رؤية وجهه الكريم ورضوانه والجنة.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الخميس 1 ربيع الآخر سنة 1441 هـ
الموافق لـ: 28 نوفمبر سنة 2019 ف