بسم الله الرحمن الرحيم
الأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام ، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة
يقرّرالعلامة الطحاوي رحمه الله بهذا وسطية أهل السنة والجماعة في هذا الأمر العظيم ، وهو الأمن من مكر الله ، واليأس من روح الله جل جلاله وأنّ اليأس هذا سبيل الكافرين ، والأمن من مكر الله سبيل أهل الشهوات الذين لا يرقبون الله عزوجل ولا يرقبون صفات الرب جل جلاله .
والدليل على هذا الأصل قول الله عزوجل في الكافرين في اليأس : (( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )) [يوسف : 87 ] ، في قول يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه : (( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )) [ يوسف 87 ] ، فنهاهم عن اليأس من روح الله وعلّل ذلك بأن هذا من خصال الكافرين .
وأما الأمن ، فالأمن من مكر الله عزوجل جاء النهي عنه في غير ما آية منها قوله تعالى في سورة الأعراف : (( أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون )) [ الأعراف : 99 ] .
والأمن من مكر الله كفر ، واليأس من روح الله كفر أيضا كما قال : ( ينقلان عن ملة الإسلام )لأن الله عزوجل وصف الكافرين والخاسرين الذين استحقوا العقوبة منه والعذاب بأنهم يأمنون من مكر الله وييأسون من روح الله عزوجل .
وأما أهل السنة والجماعة فهم لا يأمنون بل يخافون ذنوبهم ويخافون عقوبة الله عزوجل ، ويعلمون أنّ الله سبحانه خافته ملائكته وهم أقرب الأقربين وهم المقربون إليه عزوجل المطهّرون من دنس الآثام ومن رجس الذنوب يخافون ربهم ، كما قال : (( يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون )) [ النحل : 50 ] وكما قال : (( إذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير )) [ سبأ : 23 ] .
وهذه راجعة إلى أنهم ـ يعني أهل الحق وأهل السنة ـ يرجون رحمة الله ويخافون عذابه ، كما وصف الله عزوجل أولياؤه المقربين بقوله : (( ويرجون رحمته ويخافون عذابه إنّ عذاب ربك كان محذورا )) [ الإسراء : 57 ] . وهذه من صفات المتقين ، وكذلك في قوله في سورة الأنبياء : (( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا )) [ الأنبياء : 90 ] ، فجمع لهم بين الرغب والرهب .
إذا تبين ذلك فإن الأمن والإياس ردّة عن الدين كما قال : ( ينقلان عن ملة الإسلام ) بضابط .
ومن المهم معرفة هذا الضابط ، لأنه هو نكتة المسألة وعقدتها ، وهو :
ـ أنّ الأمن يكون كفرا إذا انعدم الخوف .
ـ واليأس يكون كفرا إذا انعدم الرجاء .
فمن لم يكن معه خوف من الله عزوجل أصلا ـ يعني أصل الخوف غير موجود ـ فقد أمن فهو كافر .
ومن لم يكن معه رجاء في الله أصلا فقد يئس من روح الله فهو كافر .
إذا الأمن والإياس مرتبطان ، بل معناهما الخوف والرجاء .
الأمن لأجل عدم الخوف ، واليأس لأجل عدم الرجاء .
فمن كان عنده خوف قليل ويأمن كثيرا فإنه من أهل الذنوب لا من أهل الكفر فإن لم يكن معه خوف أصلا فإنه كافر بالله عزوجل كما قال هنا : ( ينقلان عن ملة الإسلام ).
أما أهل التوحيد ، أهل الذنوب من أهل القبلة فإنهم بقدر ما عندهم من الذنوب يكون عندهم أمن من مكر الله عزوجل .
فإذا الأمن من مكر الله يتبعض ، لا يوجد جميعا ويذهب جميعا ، بل قد يكون في حق المعيّن أنه يخاف تارة ويأمن تارة ، يصحو تارة ويغفل تارة .
وكذلك في اليأس من روح الله يغلب على المرء الموحّد تارة أن ييأس إذا نظر إلى ذنبه ، أو نظر إلى ما يحصل في مجتمعه أو ينظر إلى ما قضى الله عزوجل في هذه الأرض وعلى أهلها من الشرك مثلا أو من الذنوب أو من الكبائر أو من القتل أو من الفساد فيأتيه اليأس ، فإن غلب عليه اليأس بحيث انعدم الرجاء لنفسه أو للناس ، فإنه يكفر بذلك .
أما إذا وجد عنده اليأس ووجد عنده رجاء، فإنه لا يخرج من الملّة .
فإذا هنا ضابط الأمن والإياس الذي ينقل عن الملة هو ما ذكرته لك .
وأما الموحّد المعيّن من أهل الإيمان ، فإنه بحسب قوة يقينه يجتمع فيه أنه ـ يعني قد يكون عنده أمن بحسب ذنوبه ـ ومن كمّل الإيمان وحقق التوحيد ، فإنه يخاف ولا يأمن من مكر الله .
والأمن من مكر الله ، يعني الأمن من استدراج الله عزوجل للعباد .
وقد وصف الله عزوجل بعض عباده بقوله : (( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ـ وأملي لهم إنّ كيدي متين )) [ الأعراف : 182 ـ 183 ]، هذا الاستدراج يحدث الأمن ، وما عذبت أمة إلا وقد أمنت ، لأن الله عزوجل يبلوهم بالخيرات ويبلوهم بالسيئات ويبلوهم بالشر والخير فتنة ثم هم لا يتوبون ولا هم يذكّرون .
فإذا وقع منهم الأمن وقعت عليهم العقوبة ، نسأل الله عزوجل لنا ولإخواننا العفو والعافية .
فهذا ضابط المسألة .
( وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة ) .
إذا تبين ذلك ، فالواجب على كل موحّد ، كل مؤمن : أن يعظّم في قلبه جانب الخوف من الله عزوجل .
فلا يفلح من أمن الله على نفسه طرفة عين ، الله عزوجل يقلب القلوب ويقلب الأبصار ، وقال في وصف الأولين : (( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرّة ونذرهم في طغيانهم يعمهون )) [ الأنعام: 110 ] .
يرى العبد أن الخيرات تنفتح عليه وهو مقيم على الذنوب وهو مقيم على المعاصي وهو مقيم على الكبائر ، سواء كان العبد فردا أم كان مجتمعا .
بنو إسرائيل ادّعوا أنهم أحباب الله عزوجل وأنهم أبناؤه وأنه لا يعذبهم ولو حصل لهم تعذيب فإنما تمسهم النار أياما معدودة ، والله عزوجل عاقب بني إسرائيل العقوبة العظيمة ولعنهم حيث قال سبحانه في سورة المائدة : (( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون )) [ المائدة : 78 ـ 79 ] ، الآيات .
فالواجب إذا على الموحّد أن يخاف ذنبه ولا ييأس من روح الله .
كل أحد يذنب ولكن إذا أذنب استغفر .
يخاف ذنبه ويخشى أن الله عزوجل لم يقبل توبته ، لم يقبل حوبته ، لم يقبل إنابته ، يرجو رحمة الله عزوجل ويخاف ذنوبه .
فما اجتمع هذان في قلب أحد إلا ونجا ، وهو رجاء الرحمة وخوف الذنوب .
وهذا هو سبيل الحق الذي هو بين الأمن والإياس لأهل القبلة .
أسأل الله عزوجل أن يجعلني وإياكم من الرّاغبين الرّاهبين الخاشعين ، وأن يجنبنا الأمن كما أسأله أن يجنبنا الإياس ، فإنه سبحانه على كل شيء قدير .
المصدر :
شبكة سحاب السلفية
شرح العقيدة الطحاوية
لفضيلة الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله [ ج 1 ص 552 ] .