الشيخ العلامة محمد صالح العثيمين رحمه الله ألقاها في خطبة جمعة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الجن والإنس ليعبدوه وشرع لهم ما تقتضيه حكمته ليجازيهم بما عملوه وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يبعثون وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: +وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" [الذاريات: 56-58] إن الإنس عالم مشهود هم البشر بنو آدم وأما الجن فعالم غيبي خلقوا من النار وكان خلقهم قبل خلق الإنس كما قال الله عز وجل: +وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ" [الحجر: 26-27] والجن مكلفون يوجه إليهم أمر الله ونهيه فمنهم المسلم ومنهم الكافر ومنهم المطيع ومنهم العاصي، قال الله عز وجل عنهم: +وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا" [الجن: 14-15] وقال الله عز وجل عنهم: +وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا" [الجن: 11] أي: جماعات متفرقة كما يكون هذا في الإنس أيضا يكون فيهم المؤمن والكافر والفاسق والمطيع وهم جماعات متفرقة في أهوائها وأفكارها فالكافر من هؤلاء وهؤلاء أي من الإنس ومن الجن يدخل النار بإجماع المسلمين قال الله تعالى: +قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا" [الأعراف: 38] وذَكر الله تعالى مناظراتهم ومجادلاتهم بعد ذلك وأما المؤمن من الإنس فإنه يدخل الجنة بالإجماع وكذلك مؤمن الجن يدخلون الجنة على القول الراجح كما قال الله تعالى: +وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آَلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ" [الرحمن: 46-47] والخطاب هنا للإنس والجن وعلى هذا فمؤمن الجن يدخل الجنة كما يدخلها مؤمن الإنس والظلم بين الجن فيما بينهم وبين الإنس محرم كما هو محرم بين الإنس فيما بينهم يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" (1) أخرجه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومع هذا فإنهم كانوا يعتدون على الإنس أحياناً كما يعتدي الإنس عليهم أحياناً وكما يعتدي بعض الإنس على بعض أحياناً يعتدي بعض الجن على بعض أحياناً فمن عدوان الإنس على الجن أن يستجمر الإنسان بعظم أو روث فلا يحل للإنسان إذا قضى حاجته من بول أو غائط أن يستجمر بعظم أو روث فإن فعل ذلك فإنه معتدٍ على الجن فلا يأمن من أن يأخذوا بالثأر منه وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الجن سألوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الزاد فقال لهم: "لكم كل عظم ذُكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً وكل بعرة علف لداوبكم" قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم" (2) أما عدوان الجن على الإنس فمن ذلك أن الجن يتسلطون على الإنس بالوسوسة التي يلقونها في قلوبهم سواء فيما يتعلق بالله عز وجل أو فيما يتعلق بالقرآن الكريم أو فيما يتعلق بالنبي محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم يلقون الوسوسة في قلوبهم ولهذا أمر الله عز وجل بالتعوذ من ذلك فقال جل ذكره: +قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ"[الناس: 1-6] وتأمل كيف قال الله تعالى: +مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ" فبدأ بذكر الجن لأن وسوستهم أعظم ووصولهم إلى الإنس أخفى، فإن قلت كيف يصلون إلى صدور الناس فيوسوسون فيها؟ فاستمع الجواب من محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين قال لرجلين من الأنصار: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً أو قال شيئا" (3) وفي رواية "يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم" (4) إذاً فعلينا أن نكثر دائماً من الاستعاذة بالله عز وجل من شر الجن والإنس فإن الله تعالى هو الملجأ والمعاذ ومن عدوان الجن على الإنس أنهم يخيفونهم ويلقون في قلوبهم الرعب ولا سيما إذا التجأ الإنسان إلى الجن واستجار بهم فإنه لا يزيدونه إلا ذعراً وخوفاً واستمعوا إلى قول الله تعالى: +وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا" [الجن: 6] قال العلماء أي: زادوهم خوفاً وإرهاقاً وذعراً ومن عدوان الجن على الإنس أن الجني يَصرع الإنسي فيطرحه يدعه يضطرب حتى يُغمى عليه وربما قاده إلى ما فيه هلاكه مِنْ إلقائه في حفرة أو في ماء يُغرقه أو في نار تُحرقه وربما يَنحر الإنسان نفسه وهو لا يدري وقد شبه الله تعالى آكلين الربا عند قيامهم من قبورهم بالمصروع الذي يتخبطه الشيطان قال الله تبارك وتعالى: +الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ" أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة +إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ"[البقرة: 275] قال ابن جرير رحمه الله: وهو الذي يتخبطه فيصرعه، وقال ابن كثير: إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وقال البغوي: يتخبطه الشيطان أي: يصرعه ومعناه أن آكل الربا يُبعث يوم القيامة كمثل المصروع، وقال بعض العلماء المتأخرين: قول الله تعالى: +لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ" [البقرة: 275] أي: أن آكل الربا في تصرفه يتصرف وكأنه مجنون يطلب الربا من كل باب ومن كل وجه فتَصرفه كتصرف المجنون الذي يتخبطه الشيطان وأيَّاً كان فإن هذا يدل على أن الشطان يتخبط الإنسان حتى يكون كالمجنون وروى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده عن يعلى بن مرة "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها قد أصابه مس بل قد أصابه لمم فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: "اخرج عدو الله أنا رسول الله" كلمة واحدة مؤيدة بالدليل"اخرج عدو الله أنا رسول الله" قال: فبرأ الصبي فأهدت أمه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبشين وشيئاً من أقط وسمن فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الأقط والسمن وأخذ أحد الكبشين ورد عليها الآخر (5) وإسناده ثقاة وله طرق قال ابن كثير عنها في تاريخه البداية والنهاية إنها جيدة متعددة تفيد غلبة الظن أو القطع عند المتبحرين أن يعلى بن مرة حدث بهذه القصة في الجملة ثم ذكر رواية البيهقي نحوه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه وقال هذا إسناد جيد رواته ثقاة قال ابن القيم رحمه الله وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميه البارزين في كتابه زاد المعاد قال: الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية وصرع من الأخلاط الرديئة، والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه وأما صرع الأرواح يعني الجن فأئمتهم أي: أئمة الأطباء وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد الزندقة فأولئك ينكرون صرع الأرواح أي صرع الجن ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع يقول ابن القيم: وليس معهم إلا الجهل وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك والحس والوجود شاهد به ومن له عقل يقول ابن القيم من له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم (م1).
أيها الناس إن التخلص من هذا النوع من الصرع يكون بأمرين وقاية وعلاج فأما الوقاية فتكون بقراءة الأوراد الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الواردة عنه على وجه صحيح وبقوة النفس وعدم الجريان وراء الوساوس والتخيلات التي لا حقيقة لها فإن جريان الإنسان وراء الوساوس والأوهام يؤدي إلى أن تتعاظم هذه الأوهام والوساوس حتى تكون حقيقة في نفس الأمر وأما العلاج أعنى علاج صرع الأرواح فقد اعترف كبار الأطباء أن الأدوية الطبيعية لا تؤثر فيه - أي الصرع الذي يكون من الجن - فالأدوية الطبيعية لا تؤثر فيه وعلاجه بالدعاء والقراءة والموعظة قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وكان شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله يعالج بقراءة آية الكرسي والمعوذتين وكثيراً ما يقرأ في أذن المصروع قول الله عز وجل: +أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ" [المؤمنون: 115] قال ابن القيم: حدثني – يعني: شيخ الإسلام - أنه قرأ مرة هذه الآية في أذن المصروع، فقالت - يعني: الجنية –: نعم، ومد بها صوته أي قالت: نَعَامْ تمد صوتها بذلك، فقال: - أي: شيخ الإسلام ابن تيمية - فأخذت له عصا وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت يدي من الضرب وفي أثناء ذلك قالت - أي: الجنية التي فيه -: أنا أحبه، فقال لها شيخ الإسلام: هو لا يحبك، قالت: أنا أريد أن أحج به، قال شيخ الإسلام: هو لا يريد أن يحج معك، قالت – أي: الجنية - أنا أدعه كرامة لك، قال شيخ الإسلام: قلت: لا، ولكن دعيه طاعة لله ورسوله، قالت: فأنا إذن أخرج، فقعد المصروع يلتفت يمينا وشمالا وقال ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ(م1)، هذا كلام ابن القيم رحمه الله عن شيخه وقال ابن مفلح في كتاب الفروع وهو – أي: ابن مفلح - من تلاميذ شيخ الإسلام البارزين في معرفة أقواله في الفقه قال: كان شيخنا إذا أُوتي بالمصروع وعظ من صرعه وأمره ونهاه فإذا انتهى وفارق المصروع أخذ عليه العهد ألا يعود وإن لم يأتمر ولم ينتهِ ولم يفارقه ضربه حتى يفارقه والضرب في الظاهر على المصروع وإنما يقع في الحقيقة على من صرعه (م2) وأرسل الإمام أحمد رحمه الله إلى مصروع صرع ففارق المصروع ولكن لما مات أحمد رحمه الله عاد إليه وبهذا يتبين أن صرع الجن للإنس ثابت بمقتضى دلالة الكتاب والسنة والواقع وإقرار الأئمة.
أيها الإخوة المسلمون أكثروا من الاستعاذة بالله، أكثروا من اللجوء إلى الله لا تخدعوا أنفسكم ولا تتعجلوا في الأمور +وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" [يوسف: 87] نعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ونعوذ بالله من شرار خلقه من الجن والإنس إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله صحبه أجمعين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه وأشكره على توفيقه وامتنانه وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربو بيته وسلطانه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أيده الله ببرهانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأنصاره وأعوانه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى وقد سمعتم في الخطبة الأولى أن صرع الجن للإنس ثابت بالكتاب والسنة والواقع وإقرار الأئمة وهذا أمر لا شك فيه ولقد تفرق الناس في هذا إلى ثلاث فرق ففرقة أنكرت ذلك وقالت إنه لا حقيقة له وإنه لا يمكن أن يصرع الجني الإنسي ولكن هؤلاء كما قال ابن القيم مِنْ جَهلة الأطباء وسفلتهم وسقطهم وبعدهم عن نصوص الكتاب والسنة وقسم آخر فرط في هذا بل أفرط في هذا كثيراً وصار كلما أصابه شيء قال: إنه مس من الجن حتى لو أصيب بزكمة سببها ظاهر قال هذا من إصابة الجن وهذا بلا شك خطأ هذا مما يفتح الوساوس والأوهام على الإنسان حتى يصير صريعاً بالتخيلات والأوهام للجن وقسم ثالث وسط بين هؤلاء وهؤلاء أقروا بأن الجن يمكن أن يصرع الإنس ولكن لا على سبيل الإفراط ولا على سبيل التفريط.
أيها المسلمون إن ما كثر في الآونة الأخيرة من توهم كثير من الناس فيما يصيبهم من الأمراض الجسدية العضوية أنه من الجن وأنه مس من الجن هذا أمر لا ينبغي أن ينساق الإنسان معه بل الذي ينبغي للإنسان أن يكون قوي الشخصية واثقاً بالله عز وجل وإن من أسباب هذه الأوهام:
أولاً: ضعف التوكل على الله والتوكل على الله هو الاعتماد عليه وتفويض الأمور إليه والإيمان الكامل واليقين التام بأن كل شيء بيد الله، قال الله عز وجل: +قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ" [المؤمنون: 88] وقال جل ذكره: +لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ" [المائدة: 120] وقال الله تعالى: +إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا" [مريم: 93] الجأ إلى الله عز وجل توكل عليه اعتمد عليه فوض أمورك إليه، "واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" (6) توكل على الله فوض الأمر إلى الله ثق بأنه على كل شيء قدير ثق بأنه "لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع" (7) حتى تكون آوياً إلى ركن شديد آويا إلى من يحفظك من بين يديك ومن خلفك ومن يمينك ومن شمالك ومن فوقك ومن تحتك فضعف التوكل عند كثير من الناس وهو إخلال بكمال توحيد الربوبية ضعف التوكل هو الذي أوجب لهم هذه الأوهام الكثيرة.
ثانيا: قلة فعل الأسباب التي تمنع من هذه التخيلات ومن هذه الأوهام وذلك بأن كثيراً من الناس تركوا الأوراد الواردة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يمنع من شرور الإنس والجن ومنها "أن من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح" (8) هكذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فكروا في أنفسكم، هل أنتم تقرؤونها كل ليلة؟ إن كان الأمر كذلك فهو خيراً وإلا فاقرؤوها كل ليلة حتى لا يقربكم شيطان وحتى يكون عليكم من الله حافظ إلى أن تصبحوا.
ومن ذلك وهو السبب الثالث: ضعف اليقين أي أن الإنسان قد يقرأ الأوراد وقد يقول مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن ليس عنده قوة اليقين التي يجزم جزماً بأن هذه سوف تمنعه وسوف تدفع عنه شرور الإنس والجن. كثير من الناس قد يقولها وقد يقرأها على سبيل التبرك أو على سبيل التجريب وهذا بلا شك لا ينفعك ذلك إلا أن تتيقن أنه نافع لك كما أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذلك أن الأشياء لا تتم إلا بآلة فاعلة وفاعل جازم ومحل قابل أي لا بد أن يقول الإنسان القائل بما جاءت به النصوص مما فيه الحماية لا بد أن يكون موقناً بذلك ولا بد أن يكون ما قاله مما جاء به الشرع ولا بد أن يكون المقروء عليه قابلاً بهذه القراءة موقناً بها ولهذا لو وجدنا خشبة في يد شجاع ليقتل بها عدوا كافراً فإنه لن يستطيع أن يقتله بهذه الخشبة التي هي على مثال السيف لكن لو كان بيده سيف قاطع باتر لاستطاع أن يقتله به ولو كان السيف في يد جبان ولو سلط هذا السيف على حجر لم يقطعه إذاً لا بد من أمور ثلاثة: فاعل وآلة وقابل فلا بد أن يكون الإنسان الذي يقرأ هذه الأوراد موقن بأنها نافعة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
السبب الرابع: ضعف الإنسان هلع الإنسان من الجن وهذا من العجب كيف تخاف وفوق الجميع رب العالمين اعتمد على الله عز وجل أنت أفضل من الجن أمر أبو الجن أن يسجد لأبيك فأبى فماذا كانت النتيجة قيل لأبى الجن +قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا" [الأعراف: 18] وقيل لأبيك: +اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ" [البقرة: 35] وقيل لأبي الجن: +قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ" [الحجر: 34-35] وفي الآية الثانية: +وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ" [ص: 78] البشر منهم النبيون ومنهم الصديقون ومنهم الشهداء ومنهم الصالحون أما الجن فلم نسمع إلا أن منهم الصالحين فقط ودون ذلك الذي يظهر من كتاب الله أنه ليس فيهم صديقون وليس فيهم شهداء أما الأنبياء فقطعاً ليس فيهم أنبياء إنما الأنبياء والرسل من بني آدم قال الله عز وجل:+وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ" [الحديد: 26] كيف تخاف وكيف تهرب وكيف يوسوس لك الشيطان إنك منهزم مهزوم أمام الجن مع أنك أشرف منه عند الله جنساً وأعلى قدراً وإن كان في الجن الصالحون ولكن فيهم دون ذلك فيهم القاسطون والمسلمون.
أما السبب الخامس: فهو ما يفعله بعض الناس الجهلاء البسطاء في أولادهم الصغار حيث يخوفونهم ويرهبونهم بأشياء جاءك كذا جاءك كذا فيبقى الصبي خائفاً ويبقى هذا الخوف والذعر في قلبه وينطبع في قلبه ويكون دائماً في ذعر وخوف وقلق وهذا تكون جناية من الأب على ابنه ومن الأم على ابنها وبنتها بل من السفهاء من قيل لنا إنه إذا أخطأ الصبي حبسه في الحجرة وحده وأغلق عليه الباب وصار الصبي يصرخ ويصيح ولكن لا يرحمه ولا يفتح له الباب وهذا من أسباب تسلط الجن عليه كما نطق بذلك بعض الجن في المصروعين وقال إنه دخل فيه حين أغلق عليه أبوه الباب وجعل يصيح ويصرخ فتلبس به الجني إذاً يجب أن نحذر الأسباب التي تكون سبباً لهذه الفاجعة التي استولت على كثير من الناس اليوم وليس ذلك عن أمر واقع حقيقة أي ليس كثير منه عن أمر واقع حقيقة وإنما هي أوهام وخيالات فاعتمدوا على الله توكلوا على الله افعلوا ما هو سبب لدرء هذه الشرور واستعينوا بالله عز وجل.
أيها الإخوة المسلمون "اعلموا أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار فعليكم بالجماعة" والجماعة أن تجتمعوا على دين الله ولا تتفرقوا في دين الله ومن الجماعة المحافظة على الصلاة جماعة في المساجد على من تجب عليه "فإن يد الله على الجماعة ومن شذ، شذ في النار" (9) وأعلموا أن الله أمركم بأمر بدأه بنفسه فقال جل من قائل عليماً: +إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [الأحزاب: 56] كرمكم الله تعالى بهذا النداء +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا" وما أعظمه من وصف الإيمان بالله أفضل أوصاف الإنسان +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" فصلوا على رسول الله وسلموا عليه امتثالاً لأمر الله وأداء لحق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وزيادة في حسناتكم فإن "من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرا" (10) اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته، اللهم اجعلنا من أتباعه ظاهراً وباطنا، اللهم اجعلنا ممن يموت على ملته، اللهم اجعلنا ممن يحشر تحت لوائه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفضل أتباع المرسلين، اللهم ارض عن بقية الصحابة أجمعين، اللهم ارض عن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارض عنا معهم، وأصلح أحوالنا كما أصلحت أحوالهم يا رب العالمين، اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم اجعلهم يقودون عبادك في شريعتك يارب العالمين، اللهم وأصلح لولاة أمور المسلمين بطانتهم، اللهم اجعل بطانتهم بطانة خير تدلهم على ما فيه صلاح البلاد والعباد، اللهم ابعد عنهم كل بطانة سوء يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر من قاتل لتكون كلمتك هي العليا في كل مكان يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصرهم، اللهم أعنهم على تحمل المآسي التي لحقت بهم، اللهم أعنهم على ذلك، اللهم انصرهم على عدوهم من الصرب والكروات ومن ساعدهم يارب العالمين، اللهم اهزم الكروات والصرب، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد على القوم المجرمين، اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزم كل عدو للمسلمين في أي مكان من الأرض، واهزم الصرب والكروات يا رب العالمين، اللهم اجعل بأس الصرب والكروات بينهم، اللهم اجعل بعضهم يقتل بعضاً، إنك على كل شيء قدير، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادعُ الله يغيثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يديه، ورفع الناس أيديهم معه، فقال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" ثلاث مرات قال أنس بن مالك رضي الله عنه: والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة أي: ولا قطعة غيم السماء صحو وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار – وسلع: تبتيل في المدينة تطلع من نحوه السحاب – قال: فخرج من ورائه سحابة مثل الترس الذي يتترس به المقاتل - وهو مثل الطشت – قال: فارتفعت في السماء وانتشرت ورعدت وبرقت ثم أمطرت وما نزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته" (11) فسبحان الله العظيم، سبحان من يقول للشيء كن فيكون هذه السماء الصحو في هذه المدة اليسيرة نشأ السحاب ورعد وبرق وأمطر لو اجتمع الخلق كلهم على شيء من ذلك ما استطاعوا إليه سبيلاً ولكن من هو على كل شيء قدير ومن يقول للشيء كن فيكون كان هذا بأمره كان هذا بخلقه وفي ذلك آية عظيمة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنه صادق بار فيما ادعى من الرسالة وأنه صلى الله عليه وسلم أصدق الناس قلباً وإخلاصاً ولهجةً ومقالاً فصلوات الله وسلامه عليه وإننا لندعو الله سبحانه وتعالى على تقصير منا واعتراف منا بذنوبنا ولكننا نسأل الله العفو والعافية والمغفرة نقول: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً غدقاً مجللاً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أغثنا غيثاً تحيي به البلاد، وترحم به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم إنا نعترف بذنوبنا وبتقصيرنا ولكنك أنت أهل العفو والمغفرة، اللهم اعفُ عن تقصيرنا، واغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، ولا ترد دعائنا بتقصيرنا يا رب العالمين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، +رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"(12) [البقرة: 201] اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
---------------------
(1) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب البر والصلة والأدب، باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه (4674) ت ط ع.
(2) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (682) ت ط ع.
(3) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، من حديث صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنه (3039)، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رُئي خالياً بامرأة وكانت زوجته أو محرماً له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به، من حديث صفية بنت حُيي رضي الله تعالى عنها (4041) ت ط ع.
(4) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب الاعتكاف، باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد، من حديث علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما (1894) ت ط ع.
(5) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، في مسند الشاميين، من حديث مرة السقفي رضي الله تعالى عنه (16890) ت ط ع.
(م1) انظر إلى هذا الكلام الذي ذكره الشيخ رحمه الله نقلاً عن ابن القيم رحمه الله تعالى المذكور في كتابه "زاد المعاد" المجلد الرابع ص60.
(م2) انظر إلى بحث هذه المسألة في شرح منتهى الإرادات جـ1 ص268.
(6) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، في مسند بني هاشم، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (2666)، وأخرجه الترمذي رحمه الله تعالى في سننه، في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب ما جاء في صفة أواني الحوض (2440) ت ط ع.
(7) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيح، في كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه (799)، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه (933) ت ط ع.
(8) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (3033) ت ط ع.
(9) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، في مسند باقي الأنصار (22562)، والبخاري رحمه الله تعالى، في كتاب الجنائز (1272)، ومسلم رحمه الله تعالى، في كتاب الإيمان (35)، والنسائي رحمه الله تعالى في سننه، في كتاب الجنائز (2008)، عن سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله تعالى عنهما ت ط ع.
(10) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل الله له الوسيلة، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما (577) ت ط ع، وأخرجه ابن حبان رحمه الله تعالى في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، جـ3 ص186 واللفظ له في قوله صلى الله عليه وسلم: "مرة واحدة" وذكر بدل صلى الله عليه بها عشرا "يكتب".
(11) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب الجمعة، باب الاستغفار في المسجد الجامع، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه (957)، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، في كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه (1493) ت ط ع.
(12) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب تفسير القرآن، باب قول الله تعالى: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" [البقرة: 201]، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه (4160)، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه (4853) ت ط ع.