ابن عبدون و أدبه
حدث الوزير الأندلسي أبو بكر محمد ابن الوزير أبي مروان عبد الملك ابن زهر , قال : بينما أنا قاعد في دهليز دارنا وعندي رجل ناسخ كنت أمرته أن يكتب ليكتاب الأغاني للأصفهاني إذ جاء الناسخ بالكراريس التي كتبها , فقلت له : أين الأصل الذي كتبت منه لأقابل معك به ؟
قال : ما أتيت به . فبينا أنا معه في ذلك إذ دخل الدهليز علينا رجل بذ ّ الهيئة , عليه ثياب غليظة أكثرها صوف , وعلى رأسه عمامة قد لفّهامن غير إتقان , فحسبته من بعض أهل البادية , فسلّم وقعد , وقال لي : يا بني إستأذن لي على الوزير أبي مروان . فقلت : هو نائم , هذا بعد أن تكلفت جوابه غاية التكلف , حملني على ذلك طيش الشباب , وما رأيت من خشونة بزّته , ثم سكت عني ساعة وقال : ما هذا الكتاب الذي بين يديك؟ فقلت : ما سؤالك عنه ؟ فقال : أحب أن أعرف اسمه فإني كنت أعرف أسماء الكتب .
فقلت : هو كتاب الأغاني للأصفهاني , فقال إلى أين بلغ بك الكاتب منه ؟ فقلت : بلغ إلى موضوع كذا وجعلت أتحدث معه على طريق السخرية به ... فقال : وما بال كاتبك لا يكتب ؟ قلت : طلبت منه الأصل الذي يكتب منه لأعارض به هذه الأوراق , فقال لم أجئ به معي . قال : خذ كراريسك وعارض ! قلت : بماذا ؟وأين الأصل ؟ .
قال : كنت أحفظ هذا الكتاب في صباي . فتبسمت من قوله , فلما رأى تبسمي قال : يا بني امسك علي ّ .. فأمسكت عليه , وجعل يقرأ , فوالله إن أخطأ واوًا ولا فاءا !! وقرأ هكذا نحوكرّاستين , ثم أخذت له في وسط السِّفر و آخره , فرأيت حفظه في ذلك كله سواء ! فاشتدّ عجبي , وقمت مسرعا حتّى دخلت على أبي الفرج فأخبرته بالخبر , ووصفت له الرجل , فقام كما هو من فوره , وكان ملتفا برداء ليس عليه قميص وخرج حاسر الرأس , حافي القدمين , لا يرفق على نفسه , وأنا بين يديه وهويوسعني لوما حتى ترامى على الرجل وعانقه , وجعل يُقبل رأسه ويديه ويقول : يا مولاي اعذرني , فوالله ما أعلمني هذا الجلف إلا الساعة . وجعل يَسبُّني , و الرجل يُخفِّضُ عليه و يقول : ما عرفني .. وأبي يقول له :هبه ما عرفك فما عذره في حسن الأدب ؟ ثمّ أدخله الدّار وأكرم مجلسه , وخلا به فتحدّثاطويلا ’ ثم خرج الرجل وأبي بين يديه حافيا حتى بلغ الباب , وأمر بدابّته التي يركبُها فأسرِجَت , وحلف عليه ليركبنَّها , ثم لا ترجع إليه أبدا , فلمّا انفصلَ قلت لأبي : من هذا الرجل الذي عظّمته هذا التعظيم ؟ قال اسكت ويحك .. هذا أديب الأندلس وإمامها وسيدها في علم الآداب ابن عبدون , أيسر محفوظاته كتاب الأغاني !!
النّحوي و ابنه
كان بسجستان شيخ يتعاطى النحو , فقال لابنه : إذا أردت أن تتكلم بشيئ فأعرضه على عقلك وفكر فيه بجهدك ثم قوّمه و قل الكلام مُقوّما ..
فبينا هما جالسان في بعض أيام الشتاء , و النار موقدة , وقعت شرارة على جبّة من خزٍّ كانت على الأب وهوغافل والإبن ينظر إليها , فسكت الإبن ساعة ثم قال : يا أبت أريد أن أقول شيئا , أفتأذن لي؟ قال : إن كان حقا فتكلم . قال الإبن : أراه حقا . فقال أبوه : تكلم , قال : أرى شيئا أحمر , قال وما هو ؟ قال : شرارة على جُبّتك .. فنظر الأب إلى جبته وقد احترقت منها قطعة .. فقال للإبن : لما لم تُعلمني سريعا ؟؟ قال : فكرت في ذلك كما أمرتني , ثمّ قوّمت الأمر و تكلمت فيه ... فحلف أبوه بالطلاق ألا يتكلّم بالنحو أبدا !! .
الغزو ..
سأل المنذر بن عبد الرحمن النحوي , محمد بن مبشرالوزير في بعض مجالسه : كيف تأمر المرأة بالغزو في "غزا " يغزو" ؟ فأجال ابن مبشر فكره في المسألة فلم يتّجه له جوابُها .. فقال له : يا أبا الحكم , ما رأيت أشنع من سؤالك , الله يأمر المرأة أن تقرّ في بيتها و أنت تريد أن تأمرها بأن تغزو !!!
الشجاع اللجاع
كان شجاع بن القاسم – كاتب الأمير أوتامش – أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا يفهم ، وإنما عُلـّـم علامات يكتبها في التواقيع ، وكانت جملة كلامه أغاليط .
فعمل ابن عمار شعراً لا معنى له ، واتفق مع صديق له من الهاشميين على أن ينشده شجاع بن القاسم ويُعرّفه أنه مدح ٌ له ، وضمن له على ذلك ألف درهم .. والشعر
:
شجاعٌ لجاعٌ كاتب لاتبٌ معا **** كجلمود صخر ٍحطّه السَّيل من عَـلٍٍٍ ِ
خبيصٌ لبيصٌ مُستمر ٌّمقوّم *** كثيـرٌ أثــير ٌذو شمــال مـهذّبُ ُ
بليغٌ لبيغٌ كلما شئت قلتــه **** فإن كنتَ مِسكاتاً عن القول فاسكـتِ
فطينٌ لطينٌ آمرٌ لك زاجــرٌ *****حَصيفٌ لصيفٌ كل ذلك يعــــلمُ
فوقف إليه وقال : أيها الوزير ، ليس الشعر من صناعتي ، ولكنك أحسنت إليّ وإلى أهلك بما أوجب شكرك ، فتكلفتُ أبياتاً مدحتك فيها ، فتفضّل بسماعها .. ثم أنشد الأبيات …..
فشكره شجاع عليها ، وسر بها سرورا زائدا !!!!! ، ودخل إلى الخليفة ، فأخرج لابن عمار صلة عشرة آلاف درهم !!!! ، وأجرى له ألف درهم في كل شهر !!! .
-مستجمع -
__________________