العمل بالعلم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّدٍ وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد سبق و أنْ أشرتُ في كتابة سابقة لي عن (العلم: فضله وشرف أهله) أنَّني سأثني بكتابة في (العمل بالعلم)، فهذه الكتابة إيفاء بالوعد السَّابق، وحسبي في هذا المقال ذكر ما تمس إليه الحاجة وقلَّ التذكير به من أقوال السَّلف في الباب، والله المسؤول أن ينفع الجميع بها، إنَّه نعم المولى ونعم النصير.
و هذا أوان الشروع في المقصود؛ فأقول وبالله تعالى التوفيق:
إنَّ الله عزَّ في علاه قد ذمَّ مَنْ لم يعمل بما علمه فقال {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُون. كَبُرَ مَقْتَاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (الصف:2-3)، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهمَّ إني أعوذُ بكَ مِنْ عِلمٍ لا ينفَع، ومِنْ قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يُستجاب لها) خرَّجه مسلمٌ في (الصحيح).
لذا مَن ْ رَامَ السَّعادة والنَّجاة في الدَّارين فَلْيَعْمل بِمَا عَلِمَ؛ قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: "والناس في العلم طبقات، موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العلم به. فحقٌّ على طلبة العلم بلوغُ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه والصَّبر على كلِّ عارضٍ دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه، نصَّاً و استنباطاً، والرغبة إلى الله في العون عليه؛ فإنَّه لا يُدركُ خيرٌ إلا بعونه. فإنَّ مَن أدرك علمَ أحكام الله في كتابه نصَّاً واستدلالاً، ووفَّقه الله للقول والعمل بما عَلمَ منه: فازَ بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عن الرِّيب، ونوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة" (الرسالة) (رقم 44،45،46 / ص19).
ومن أقوال أئمة الهدى ومصابيح الدُّجى في هذا المقام:
1/ ما أخرجه الخطيب في (اقتضاء العلم) (رقم 17) عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ( لا تكونُ عالماً حتى تكون مُتعلِّماً، و لا تكونُ بالعلمِ عالماً حتى تكون به عاملاً).
2/ ما أخرجه الإمام أحمد في (الزهد) (ص201) وابن المبارك في (الزهد) (رقم1438 / 503) و ابن أبي شيبة في (المصنف) (13 / 292) من طرقٍ عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: (قولوا خيراً تعرفونَ به، واعملوا به تكونوا من أهله، و لا تكونوا عُجُلاً مذاييعَ بُذُراً).
المذاييع: جمع مذياع، وهم الذين يشيعون الفواحش، أو الذين لا يكتمون سراً، والبُذُرُ بضمتين، جمع بذور، والبذير: من بَذر الكلام بين الناس إذا أفشاه، ويطلق على النَّمام ومَن لا يستطيع كتم سره، قال الإمام الدارمي بعد أن روى أثراً عن علي رضي الله عنه بنحو أثر ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "المذاييعُ: البُذُر: كثير الكلام" (السنن) (رقم 264 / 98- باب العمل بالعلم وحسن الينة فيه).
3/ ما أخرجه الدارمي في (السنن) (رقم 380 / 122) وأبو نعيم في (الحلية) (1 / 131) من طريق المسعودي عن القاسم قال: قال لي عبدالله- أي ابن مسعود رضي الله عنه-: "إنِّي لأحسبُ الرجل ينسى العلم كان يعلمهُ للخطيئة يعملها".
وأخرجه الإمام أحمد في (الزهد) (ص195) من طريق وكيع ثن المسعودي عن القاسم بن عبدالرحمن والحسن بن سعد عن ابن مسعود به.
4/ ما أخرجه الدارمي في (السنن) (رقم 370 / 120) واللفظ لَه، و أبو نعيم في (الحلية) (1 / 131) والخطيب في (اقتضاء العلم العلم) (رقم 10 / 22) من طريق يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "تعلَّموا، تعلَّموا، فإذا علمتم فاعملوا".
5/ ما أخرجه الدارمي في (السنن) (رقم 367 / 119- باب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله) عن سفيان رحمه الله قال: "كان يقالُ: العلماء ثلاثةٌ:
عالمٌ بالله؛ يخشى الله، ليس بعالمٍ بأمر الله.
عالمٌ الله، عالمٌ بأمر الله يخشى الله، فذاك العالمُ الكامل.
عالمٌ بأمر الله، ليس بعالمٍ بالله لا يخشى الله، فذلك العالم الفاجرُ".
6/ ما أخرجه ابن حبان في (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء) (ص39) عن الإمام وكيع بن الجراح الرؤاسي رحمه الله قوله: "استعينوا على الحفظ بترك المعصية".
و جاء في (جامع بيان العلم و فضله) لابن عبدالبر (1 / رقم 1286 / 709) و(2 / رقم 1979 / 1031) عن وكيع قوله: "كُنَّا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، و كُنَّا نستعين على طلبه بالصَّوم".
وفي (الزهد) لوكيع (3 / رقم 539 / 862) عن شيخٍ لهم قال: "كنا نستعين على طلب الحديث بالصوم".
وأخرج الخطيب في (اقتضاء العلم) (رقم149 / ص90) بسنده عن وكيع عن إبراهيم ابن إسماعيل بن مجمع رحمه الله قوله: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به".
فأنت ترى أنَّهم كانوا يتقلبون في الطَّاعات، و تأمل قوله (كنَّا) وهذا يعني أنَّ ذلك هو الذي كانوا عليه!!!.
7/ ما أخرجه ابن المبارك في (الزهد) (رقم 1345 / 474) عن حبيب بن عبيد الرحبي رحمه الله أنَّه قال: "تعلموا العلم واعقلوه، وانتفعوا به، و لا تعلَّموه لتجمَّلوا به، فإنه يوشكُ إن طالَ بك العُمر أنْ يُتَجمَّل بالعلم كما يتجمَّل الرَّجلُ ببزِّته" أي بثوبه كما في موطنٍ آخر منه (برقم 1442 / 505).
8/ ما أخرجه الخطيب في (اقتضاء العلم) (رقم84 / 55-56) عن الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله : "العلمُ إن لم ينفعكَ ضرَّكَ ".
قال الحافظ الخطيب رحمه الله معلِّقاً: "قلتُ: يعني إن لم ينفعهُ بأنْ يعمل بهِ، ضرَّهُ بكونهِ حُجَّة عليه".
وفي هذا المعنى يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله فيما أخرجه الدارمي في (السنن) (رقم368 / 120): "العلمُ علمان: فعلمٌ في القلبِ فذلك العلمُ النَّافع، وعلمٌ على اللسان فذلك حجُّة الله على ابن آدم"، ومراده رحمه الله بعلم القلب: أي العلم الذي ينفع صاحبه فيعلمه ويعمل به، وكما قيل:
وإذا حلَّت الهداية قلباً نشطت في العبادة الأعضاءُ.
و أما علم اللسان: هو العلم الذي لم يعمل به صاحبه مع كونه نافعاً في أصله، وإنما لم ينفعه لأنَّه لم يعمل به فعاد عليه كَلاًّ! نسأل الله السلامة والعافية.
و أخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) (13 / 499) عن الحسن البصري رحمه الله قوله : "إنَّ المؤمن أحسنَ الظَّنَّ بربِّه فأحسنَ العمل، و إنَّ المنافق أساء الظَّنَّ بربِّه فأساء العمل".
قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه النافع (فضل علم السلف على علم الخلف) (ص11-13):"..قد ذكر الله في كتابه العلم تارة في مقام المدح، وهو العلم النافع، وذكر العلم تارة في مقام الذم، وهو العلم الذي لا ينفع. فأما الأول: فمثل قوله تعالى {قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون}- (الزمر:9)-..ثم ذكر عدة آيات في هذا المقام ثم قال- فهذا هو العلم النافع. وقد أخبر عن قومٍ أنهم أوتوا علماً ولم ينفعهم علمهم، فهذا عمله نافعٌ في نفسه لكن صاحبه لم ينتفع به، قال تعالى {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً}-(الجمعة:5)-...ثم ذكر آيات عديدة في هذا المقام ثم قال- و أما العلم الذي ذكر الله على جهة الذم لَه، فقوله في السحر {ويتعلمون ما يضرُّهم و لا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما لَه في الآخرة من خلاق}-(البقرة:102)- ثم ذكر بعض الآيات في ذلك، ثم قال- ولذلك جاءت السنة بتقسيم العلم إلى نافع وإلى غير نافع، والاستعاذة من العلم الذي لا ينفع، وسؤال العلم النافع..".
8/ قال الحافظ العراقي رحمه الله في (ألفية الحديث) (3 / 283- مع فتح المغيث):
و أخلص النية في طلبكا وجد و ابدأ بعوالي مصركا إلى أن قال:
و اعمل بما تسمع في الفضائل والشيخ بجلّه و لا تثاقل".
قال الحافظ السخاوي رحمه الله في (فتح المغيث) (3 / 282-286)شارحاً البيت الأخير- وهو محل الشاهد-: "(واعمل بما تسمع) ببلدك و غيرها من الأحاديث التي يسوغ العمل بها....ولقول مالك بن مغول في قوله تعالى {فنبذوه وراء ظهورهم}- (آل عمران:187) - قال: تركوا العمل به.
ولقول إبراهيم الحربي: إنَّه ينبغي للرجل إذا سمع شيئاً في آداب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتمسَّك به.
و لأنَّ ذلك سبب ثبوته وحفظه ونموه والاحتياج فيه إليه- ثم ذكر أقوالاً عدَّة عن السلف ومنها-:
ورويناه عن عمرو بن قيس الملائي أنه قال: إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرَّة تكن من أهله...
وعن أبي عصمة عاصم بن عصام البيهقي قال: بت ليلة عند أحمد- يعني ابن حنبل- فجاء بالماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء، فإذا هو كما كان، فقال: سبحان الله! رجلٌ يطلب العلم لا يكون لَه وِرْدٌ بالليل.
و قال أحمد أيضاً في قصَّة: صاحب الحديث عندنا منْ يَستعمل الحديث... وعن الحسن البصري قال: كان الرجل يطلبُ العلم، فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشُّعه وهديه ولسانهِ وبصرهِ ويدهِ..".
ومن جميل ما يؤثر في تراجم الأئمة في هذا الباب:
1/ قال وكيع بن الجراح الرؤاسي: "كان الأعمش قريباً من سبعين سنة، لم تفته التكبيرة الأولى" (سير أعلام النبلاء) (6 / 228).
2/ قال القاضي تقي الدين سليمان: "لم أُصلِّ الفريضة قطُّ منفرداً إلاَّ مرَّتين، وكأني لم أصلها قطُّ" (ذيل طبقات الحنابلة) (2 / 365).
3/ قال محمد بن سماعة الكوفي : "مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوماً واحداً ماتت فيه أُمِّي، ففاتتني صلاة واحدة في جماعةٍ، فقمت فصليت خمساً وعشرين صلاة، أريد بذلك التضعيف، فغلبتني عيناي، فأتاني آتٍ، فقال: يا محمد: قد صليت خمساً وعشرين صلاة، ولكن كيف لك بتأمين الملائكة" (تهذيب التهذيب) (9 / 204).
4/ قال إبراهيم بن يزيد التيمي: "إذا رأيت الرجلَ يتهاونُ في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه" (سير أعلام النبلاء) (5 / 62).
5/ جاء في ترجمة أحمد بن محمد بن عبدالوارث القرطبي في كتاب (الصلة) لابن بشكوال (1 / 23) أنَّه رأى يحيى بن مالك بن عائذ وهو شيخٌ كبير يتهادى إلى المسجد، وقد دخل والصلاة تقام، قال: فسمعته ينشد بأعلى صوته:
يا رب لا تسلبني حبّها أبداً... ويرحمُ الله عبداً قال آمينا
قال: فلم أشك أنَّه يريد الصلاة".
6/ أحمد بن محمد بن سليم الطليطلي، قال فيه ابن بشكوال في (الصلة) (1 / 30): " وكانت تُقرأُ عليه كتب الحديث؛ فإذا مرَّ القارئ بذكر الجنَّة والنار بكى".
7/ قال الضحاك بن مزاحم رحمه الله للأجلح: "اعمل قبل أن لا تستطيع أن تعمل. قال الأجلح: و يكون هذا؟ قال: فأنا أريد أن أعمل اليوم فما أستطيع".
(الطبقات الكبرى) لابن سعد (6 / 301).
وجاء في ترجمته من (تهذيب الكمال) (13 / 295): "أنه كان إذا أمسى بكى، فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: لا أدري ما صعدَ اليومَ مِنْ عملي".
8/ عبدالرحمن بن أبي نُعمٍ البجلي الكوفي الإمام، قال بكير بن عامر: "لو قيل لَه - أي لعبدالرحمن- قدْ توجَّه إليك ملكُ الموت، ما كان عندهُ زيادةُ عملٍ، وكان يمكث جمعتين لا يأكلُ" (سير أعلام النبلاء) (5 / 62).
9/ قال الإمام الذهبي في (تذكرة الحفاظ) (2 / 592) في ترجمة الإمام أبي داود السجستاني صاحب (السنن): "وبلغنا أنَّ أبا داود كان من العلماء العاملين، حتى إنَّ بعض الأئمة قال: كان أبو داود يُشبه أحمد بن حنبل في هديه و دلِّه وسمته، وكان أحمد يشبه في ذلك بوكيع، وكان وكيع يشبه في ذلك بسفيان، وسفيان بمنصور، ومنصور بإبراهيم، وإبراهيم بعلقمة، وعلقمة بعبدالله بن مسعود، وقال علقمة: كان ابن مسعود يشبه النبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودلِّه".
ثم إنني أختم بما قَالَه الحافظ الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه (اقتضاء العلم العمل) (ص14-16):".. ثم إنِّي موصيك يا طالب العلم؛ بإخلاص النِّيَّة في طلبه وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً...فلا تأنس بالعمل ما دمتَ مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما، وإن قلَّ نصيبك منهما....والعلم يراد للعمل كما العمل يرادُ للنجاة، فإذا كان العمل قاصراً عن العلم كان العلم كَلاًّ على العالم، ونعوذ بالله من علم عادَ كَلاًّ، وأورث ذُلاًّ، وصار في رقبة صاحبه غُلاًّ...-إلى أن قال- وهل أدركَ مَنْ أدرك من السَّلف الماضين الدَّرجات العُلى إلا بإخلاص المعتقد، والعمل الصَّالح، والزهد الغالب في كلِّ ما رَاقَ من الدُّنيا... و هل جامع كُتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب، وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما، وهل المغرم بحبها إلا ككانزهما. وكما لا تنفع الأموال إلاَّ بإنفاقها، كذلك لا تنفعُ العلوم إلا لمن عمل بها، وراعى واجباتها، فلينظر امرؤٌ لنفسهِ وليغتنم وقتهُ؛ فإنَّ الثِّواء قليلٌ، والرحيل قريبٌ، والطريقُ مَخُوفٌ والاغترارُ غالبٌ، والخطر عظيمٌ، والنَّاقدُ بصيرٌ، والله تعالى بالمرصاد وإليه المرجع والمعاد {فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ}". (الزلزلة: 7-8).
ولعل في هذا القدر كفاية وتذكرة لمن كان لَه قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، وصلى الله على نبينا محمدٍِ وآله وصحبه وسلم.
وكتب:
عبد الله بن عبد الرحيم البخاري