منتديات الإسلام والسنة  

العودة   منتديات الإسلام والسنة > المنتديات الشرعية الموسمية > منتدى الحج


إنشاء موضوع جديد إضافة رد
 
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
رقم المشاركة : ( 1 )
الواثقة بالله غير متواجد حالياً
الصورة الرمزية الواثقة بالله
 
الواثقة بالله
المراقب العام

الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع
 
رقم العضوية : 4
تاريخ التسجيل : Aug 2010
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 8,176 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 10

افتراضي كتاب صفة حجة النبي - شرح حديث جابر لابن عثيمين رحمه الله

كُتب : [ 11-01-2011 - 08:46 PM ]

مقدمة الكتاب


بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان ، وسلم تسليماً كثيرا .
أما بعد :
فإن هذا الكتاب يحتوي على شرحٍ لفضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى لحديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد جاء هذا الشرح ضمن الدروس العلمية التي كان يعقدها فضيلته رحمه الله تعالى في « بلوغ المرام » و « صحيح مسلم » بالجامع الكبير في مدينة عنيزة .
ورغبة في تقديمه إلى القارئ المتطلع إلى معرفة المسائل والأحكام الفقهية في مناسك الحج والعمرة كما وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسهيلاً لتناوله ، تَمَّ إخراج هذا الشرح مفرداً .
وقد عهدت مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية إلى الشيخ مساعد بن عبدالله السلمان – أثابه الله – بالعمل لإعداد هذا الكتاب للنشر , وتخريج أحاديثه وآثاره , فجزاه الله خيراً .
نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، موافقاً لمرضاته ، نافعاً لعباده ، وأن يجزي فضيلة شيخنا عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ، ويضاعف له المثوبة والأجر , ويعلي درجته في المهديين ، إنه سميع قريب ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .


اللجنة العلمية


في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية


25/10/1424هـ

يتبع
 

رد مع اقتباس
الواثقة بالله غير متواجد حالياً
 رقم المشاركة : ( 2 )
الواثقة بالله
المراقب العام

رقم العضوية : 4
تاريخ التسجيل : Aug 2010
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 8,176 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 10
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع
افتراضي

كُتب : [ 11-01-2011 - 08:51 PM ]

بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله تعالى حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من شروط العبادة الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهما الركنان الأساسيان في كل عبادة فلا تقبل عبادة بشرك ولا تقبل عبادة ببدعة فالشرك ينافي الإخلاص والبدعة تنافي الإتباع ولا تتحقق المتابعة إلا بمعرفة الصفة والكيفية التي أدى النبي صلى الله عليه وسلم العبادة عليها ومن ثم احتاج العلماء رحمهم الله إلى بيان صفات العبادات فبينوا صفة الوضوء وصفة الصلاة وصفة الزكاة وصفة الصيام وصفة الحج وغير ذلك حتى يعبد الناس الله عز وجل على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
فحديث جابر رضي الله عنه الطويل المشهور في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله بعض العلماء عمدة صفة الحج وجعله منسكا (1) كاملا لأن جابرا رضي الله عنه ضبط حج الرسول صلى الله عليه وسلم من أوله إلى آخره. فذكر رضي الله عنه :
« أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع ؟ قال: «اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي». فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به فأهلَّ بالتوحيد « لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ».
وأهلَّ الناس بهذا الذي يهلون به فلم يَرُدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه. ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته. قال جابر رضي الله عنه : لسنا ننوي إلا الحج - لسنا نعرف العمرة - حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقرأ )وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى ((2) فجعل المقام بينه وبين البيت فكان أبي يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقرأ في الركعتين ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(، و ) قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( ، ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ ) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ((3) « أبدأ بما بدأ الله به » فبدأ بالصفا فرقي عليه، حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال:« لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده » ثم دعا بين ذلك. قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: « لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أَسُقِ الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة ». فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ! ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال:« دخلت العمرة في الحج » مرتين « لا بل لأبد أبد » وقدم عليٌ من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت: إن أبي أمرني بهذا. قال: فكان عليٌ يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه. فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها. فقال: « صدقت صدقت ماذا قلت حين فرضت الحج ؟ » قال قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك. قال: « فإن معي الهدي فلا تحل » قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة. قال فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي.فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر. ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية.
فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: « إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة ابن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله .وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون ؟ » قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس « اللهم اشهد ! اللهم اشهد » ثلاث مرات. ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا،ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى « أيها الناس السكينة السكينة » كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفاً حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف. رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده ثم أعطى علياً فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت ،فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: « انزعوا بني عبد المطلب ! فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم » فناولوه دلوا فشرب منه » (4).
شرح الحديث
قال جابر رضي الله عنه : « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله فخرجنا معه ».
قوله: « فخرجنا معه » كان ذلك في الخامس والعشرين من ذي القعدة في يوم السبت بعد أن أعلم الناس في خطبة الجمعة كيف يحرمون وسئل ماذا يلبس المحرم وأوضح للناس مبادئ النسك. وبقي في ذي الحليفة وبات بها وفي اليوم التالي اغتسل ولبس ثياب إحرامه ثم أحرم.
وقوله: « حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء » أتى بحرف (الفاء) لأنها معطوفة على جملة هي جواب الشرط يعني: حتى إذا أتينا ذا الحليفة نزل وصار كذا وكذا فولدت.
وذو الحليفة ميقات أهل المدينة وتعرف الآن بأبيار علي وهي مكان بينه وبين المدينة نحو تسعة أميال وبينه وبين مكة عشر مراحل وسمي بذي الحليفة لكثرة هذا الشجر فيه وهي شجرة الحَلْفَاءِ وهي معروفة.
وقوله:« فولدت أسماء بنت عميس » وهي زوجة أبي بكر رضي الله عنه ولدت محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف تصنع فقال لها: « اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي » فأمرها بالاغتسال للإحرام وليس لرفع الحدث لأن الحدث لازال باقيا وأمرها أن تستثفر بثوب يعني تتعصب به وتشد عليها ثوبا حتى لا يخرج شيء من هذا الدم.
وقوله: « وأحرمي » وأطلق لها الإحرام وقد أحرم الناس من ذي الحليفة على وجوه ثلاثة منهم من أحرم بالحج ومنهم من أحرم بالعمرة ومنهم من أحرم بالحج والعمرة. ولم يقل لها النبي صلى الله عليه وسلم: « افعلي ما يفعل الحاج » كما قال لعائشة رضي الله عنها لأنها إنما أرسلت تسأل عن قضية معينة وهي الإحرام كيف تحرم؟.
وقد أصابها ما أصابها ولم تسأله عن بقية النسك ولهذا أخطأ ابن حزم (5) رحمه الله حيث قال: إن النفساء يجوز لها أن تطوف بالبيت بخلاف الحائض واستدل لقوله بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: « افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت »(6).
ولو كان الطواف بالبيت ممنوعا بالنسبة للنفساء لبينه النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب الجمهور بأن المرأة لم تسأل عما تفعل في النسك وإنما تسأل ماذا تصنع عند الإحرام فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم كيف تصنع.
وقوله: « وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد » يعني مسجد ذي الحليفة.
وقوله: « ثم ركب القصواء » هو لقب ناقته وله ناقة تسمى العضباء وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في أول زاد المعاد (7) ما يلقب من دوابه صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: « حتى إذا استوت به على البيداء » يعني علت به على البيداء. والبيداء جبل صغير طرف ذي الحليفة.
وقوله: « نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك » أي أنهم كثير وقد قدروا بنحو مائة ألف الذين حجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لم يبق من الصحابة رضي الله عنهم إلا أربعة وعشرون ألفا وإلا فكلهم حجوا معه لأنه أعلن عليه الصلاة والسلام للناس أنه سيحج فقدم الناس كلهم من أجل أن ينظروا إلى حج النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدوا به.
وقوله « وهو يعرف تأويله » المراد بالتأويل هنا التفسير فإن أعلم الخلق بمعاني كلام الله تعالى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال العلماء رحمهم الله يرجع في التفسير إلى القرآن الكريم ثم إلى السنة ثم إلى أقوال الصحابة ثم إلى كلام التابعين الذين أخذوا عن الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله:« ثم أهل بالتوحيد » أي رفع صوته بالتوحيد قائلا:
« لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك » رفع صوته بهذه الكلمات العظيمة التي سـماها جابررضي الله عنه توحيداً لأنـها تضمنت التوحيد والإخلاص.
ولبيك كلمة إجابة والدليل على هذا ما ورد في الصحيح « أن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك »(8) وتحمل معنى الإقامة من قولهم ألبَّ بالمكان: أي أقام فيه فهي متضمنة للإجابة والإقامة. الإجابة لله والإقامة على طاعته ولهذا فسرها بعضهم بقوله: لبيك أي أنا مجيب لك مقيم على طاعتك وهذا تفسير جيد.
فإذا قال قائل: أين النداء من الله حتى يلبيه المحرم ؟
قلنا: هو قوله تعالى ) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً((9) أي أعلم الناس بالحج أو ناد فيهم بالحج و ) يَأْتُوكَ رِجَالاً ( أي: على أرجلهم وليس المعنى ضد الإناث والدليل على أنهم على أرجلهم ما بعدها ) وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (.
وهذه قاعدة مفيدة في التفسير ( فإنه قد يعرف معنى الكلمة بما يقابلها ).
ومثلها قوله تعالى: وهو أخفى من الآية التي معنا: ) فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ((10) فمعنى ثبات: متفرقون مع أن ثبات يبعد جدا أن يفهمها الإنسان بهذا المعنى لكن لما ذكر بعدها ) أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ( علم أن المراد بالثبات المتفرقون.
والتثنية في التلبية هل المقصود بها حقيقة التثنية أي أجبتك مرتين أو المقصود بها مطلق التكثير؟
الجواب: المقصود بها الثاني لأن المعنى إجابة بعد إجابة وإقامة بعد إقامة فالمراد بها مطلق التكثير أي: مطلق العدد وليس المراد مرتين فقط.
ولهذا قال النحويون: إنها ملحقة بالمثنى وليست مثنى حقيقة لأنه يراد بها الجمع والعدد الكثير.
ولماذا جاءت بالياء الدالة على أنها منصوبة ؟
قالوا: لأنها مصدر لفعل محذوف وجوبا لا يجمع بينه وبينها والتقدير ألببت إلبابين لك.
ألببت يعني: أقمت بالمكان إلبابين.
لكن حصل فيها حذف حرف الهمزة وصارت لبابين بعد حذف الهمزة.
ثم قيل: تحذف أيضا الباء الثانية فنقول لبيك والياء علامة للإعراب.
وقوله: « اللهم » معناها: يا الله لكن حذفت ياء النداء وعوض عنها الميم وجعلت الميم أخيرا ولم تكن في مكان الياء تبركا بذكر اسم الله ابتداءً وعوض عنها الميم لأن الميم أدل على الجمع ولهذا كانت الميم من علامات الجمع.
فكأن الداعي جمع قلبه على ربه عز وجل لأنه يقول يا الله.
قوله: « لبيك » الثانية من باب التوكيد اللفظي ولم يتغير عن لفظ الأول لكن له معنى جديد فيكرر ويؤكد أنه مجيب لربه مقيم على طاعته: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ، لأنك تجيب الله عز وجل وكلما أجبته ازددت إيماناً به وشوقاً إليه فكان التكرير مقتضى الحكمة ولهذا ينبغي لك أن تستشعر - وأنت تقول: لبيك - نداء الله عز وجل لك وإجابتك إياه لا مجرد كلمات تقال.
وقوله « لا شريك لك » أي: لا شريك لك في كل شيء وليس في التلبية فقط لأنه أعم ، أي: لا شريك لك في ملكك ولا شريك لك في ألوهيتك ولا شريك لك في أسمائك وصفاتك ولا شريك لك في كل ما يختص بك.
ومنها إجابتي هذه الإجابة فأنا مخلص لك فيها، ما حججت رياءً ولا سمعة ولا للمال ولا لغير ذلك إنما حججت لك ولبَّيت لك فقط.
وقوله: « لا شريك لك » إعرابها: لا نافية للجنس ، وشريك: اسمها ، ولك خبرها ، والنافية للجنس أعم من النافية لمطلق النفي لأن النافية للجنس تنفي أي شيء من هذا بخلاف ما إذا قلت لا رجلٌ في البيت بالرفع فهذه ليست نافية للجنس بل هذه لمطلق النفي.
ولهذا يجوز أن تقول لا رجلٌ في البيت بل رجلان ، لكن لو قلت: لا رجلَ في البيت بل رجلان صاح عليك العالمون بالنحو وقالوا: هذا غلط لا يصح أن تقول لا رجلَ في البيت بل رجلان فتنفي الجنس أولا ثم تعود وتثبت ولكن إن شئت فقل لا رجلَ في البيت بل أنثى.
وقوله « إن الحمد والنعمة لك » يقال: بكسر همزة إن ورويت بالفتح. فعلى رواية فتح الهمزة « أن الحمد لك » تكون الجملة تعليلية أي: لبيك لأن الحمد لك فصارت التلبية مقيدة بهذه العلة أي: بسببها والتقدير لبيك لأن الحمد لك.
أما على رواية الكسر: « إن الحمد لك » فالجملة استئنافية وتكون التلبية غير مقيدة بالعلة بل تكون تلبية مطلقة بكل حال ، ولهذا قالوا: إن رواية الكسر أعم وأشمل فتكون أولى أي: أن تقول: إن الحمد والنعمة لك، ولا تقل: أن الحمد والنعمة لك ، ولو قلت ذلك لكان جائزاً.
والحمد والمدح يتفقان في الاشتقاق أي في الحروف دون الترتيب ح- م - د موجودة في الكلمتين فهل الحمد هو المدح أو بينهما فرق ؟
الجواب: الصحيح أن بينهما فرقاً عظيماً لأن الحمد مبني على المحبة والتعظيم.
والمدح لا يستلزم ذلك فقد يبنى على ذلك وقد لا يبنى وقد أمدح رجلاً لا محبة له في قلبي ولا تعظيم ولكن رغبة في نواله فيما يعطيني مع أن قلبي لا يحبه ولا يعظمه.
أما الحمد فإنه لا بد أن يكون مبنياً على المحبة والتعظيم ولهذا نقول في تعريف الحمد: هو وصف المحمود بالكمال محبةً وتعظيماً ، ولا يمكن لأحد أن يستحق هذا الحمد على وجه الكمال إلا الله عز وجل.
وقول بعضهم: الحمد هو الثناء بالجميل الاختياري، أي: أن يثني على المحمود بالجميل الاختياري. ويفعله اختياراً من نفسه ، تعريف غير صحيح، يبطله الحديث الصحيح: « أن الله قال: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين ، قال: حمدني عبدي ، وإذا قال: الرحمن الرحيم قال: أثنى عليَّ عبدي »(11) فجعل الله تعالى الثناء غير الحمد لأن الثناء تكرار الصفات الحميدة ، وأل في الحمد للاستغراق ، أي: جميع أنواع المحامد لله وحده ، المحامد على جلب النفع وعلى دفع الضرر ، وعلى حصول الخير الخاص والعام ، كلها لله على الكمال كله.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه «بدائع الفوائد»(12) بحثاً مستفيضاً حول الفروق بين ( المدح - والحمد ) وكلمات أخرى في اللغة العربية تخفى على كثير من الناس ، وقال كان شيخنا- ابن تيمية - إذا تكلم في هذا أتى بالعجب العجاب ولكنه كما قيل:
تألق البرق نجدياً فقلت له.... إليك عني فإني عنك مشغول
أي أن شيخ الإسلام رحمه الله مشغول بما هو أهم من البحث في كلمة في اللغة العربية، وأسرار اللغة العربية.
وقوله: « النعمة » أي الإنعام ، فالنعمة لله.
وقوله: « النعمة لك » كيف تتعدى باللام ؟ مع أن الظاهر أن يقال: النعمة منك ؟
الجواب: النعمة لك يعني التفضل لك فأنت صاحب الفضل.
وقوله: « والملك لا شريك لك » الملك شامل لملك الأعيان وتدبيرها وهذا تأكيد بأن الحمد والنعمة لله لا شريك له فإذا تأملت هذه الكلمات وما تشتمل عليه من المعاني الجليلة وجدتها أنها تشتمل على جميع أنواع التوحيد وأن الأمر كما قال جابر رضي الله عنه « أهلَّ بالتوحيد ». والصحابة رضي الله عنهم أعلم الناس بالتوحيد.
فقوله « الملك » من توحيد الربوبية ، والألوهية من توحيد الربوبية أيضا لأن إثبات الألوهية متضمن لإثبات الربوبية ، وإثبات الربوبية مستلزم لإثبات الألوهية ولهذا لا تجد أحداً يوحد الله في ألوهيته إلا وقد وحده في ربوبيته ، لكن من الناس من يوحد الله في ربوبيته ولا يوحده في ألوهيته وحينئذ نلزمه ونقول: إذا وحدت الله في الربوبية لزمك أن توحده في الألوهية ولهذا فإن عبارة العلماء رحمهم الله محكمة:حيث قالوا ( توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية ).
ونأخذ توحيد الأسماء والصفات من قوله « إن الحمد والنعمة ».
فالحمد: وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
والنعمة من صفات الأفعال ، فقد تضمنت توحيد الأسماء والصفات.
ومن أين نعرف أنه بلا تحريف ، ولا تعطيل ، ولا تكييف ، ولا تمثيل؟
الجواب: من قوله « لا شريك لك » لأن التمثيل شرك والتعطيل شرك أيضا والمعطل لم يعطل إلا حين اعتقد أن الإثبات تمثيل فمثَّل أولا وعطَّل ثانيا والتحريف والتكييف متضمنان التمثيل والتعطيل.
وبهذا تبين أن هذه الكلمات العظيمة مشتملة على التوحيد كله ومع الأسف أنك تسمع بعض الناس في الحج أو العمرة يقولها وكأنها أنشودة ، لا يأتون بالمعنى المناسب تقول: ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ).
لكنهم يقفون على ( إن الحمد والنعمة لك ) ثم يقولون: ( والملك لا شريك لك ).
مسألة: فهل لنا أن نزيد على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من التلبية التي رواها جابر رضي الله عنه ؟
نقول: نعم فقد روى الإمام أحمد في المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: « لبيك إله الحق » (13) و « إله الحق » من إضافة الموصوف إلى صفته أي: لبيك أنت الإله الحق.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يزيد: « لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والرغباء إليك والعمل »(14).
فلو زاد الإنسان مثل هذه الكلمات فلا بأس ، اقتداء بعبدالله بن عمر رضي الله عنهما ، لكن الأولى ملازمة ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهل لهم أن يكبروا بدل التلبية إذا كان في وقت التكبير كعشر ذي الحجة ؟
الجواب: نعم، لقول أنس رضي الله عنه « حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم منا المكبر ومنا المهل » (15) وهذا يدل على أنهم ليسوا يلبون التلبية الجماعية ولو كانوا يلبون التلبية الجماعية لكانوا كلهم مهلين أو مكبرين لكن بعضهم يكبر ، وبعضهم يهل ، وكل يذكر ربه على حسب حاله.
مسألة: قال العلماء رحمهم الله: وينبغي أن يذكر نسكه في التلبية ، فإذا كان في العمرة يقول: لبيك اللهم عمرة ، وفي الحج: لبيك اللهم حجاً ، وفي القران: لبيك اللهم عمرة وحجاً.
ثم قال جابر رضي الله عنه : « حتى إذا أتينا البيت » يعني الكعبة.
وقوله: « استلم الركن » أي الحجر الأسود. وأطلق عليه اسم الركن لأنه في الركن، والاستلام قال العلماء رحمهم الله أن يمسحه بيده وليس أن يضع يده عليه لأن الوضع ليس فيه استلام بل لابد من المسح، والمسح يكون باليد اليمنى لأن اليد اليمنى تقدم للإكرام والتعظيم.
وهل يقبله ؟ نقول: نعم لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقبله(16) لكن يقبله محبةً لله عز وجل وتعظيماً له لا محبةً للحجر لكونه حجراً ولا يتبرك به أيضاً كما يصنعه بعض الجهال فيمسح يده بالحجر الأسود ثم يمسح بها بدنه أو يمسح صبيانه الصغار تبركاً به فإن هذا من البدع.
ولهذا لما قبّل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحجر الأسود قال: « إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك »(17) فأفاد رضي الله عنه بهذا أنه مجرد تعبد واتباع للرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً فتقبيلنا للحجر الأسود هو محبةٌ لله عز وجل وتعظيمٌ له ومحبة للقرب منه سبحانه وتعالى. فإن شق الاستلام والتقبيل فإنه يستلمه بيده ويقبل يده(18).
وهذا بعد استلامه ومسحه لا أنه يقبل يده بدون مسح وبدون استلام فإن شق اللمس أشار إليه(19). وإذا أشار إلـيه فإنه لا يقبل يده.
كل هذه الصفات وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي مرتبة حسب الأسهل.
فأعلاها استلام اليد وتقبيل الحجر ثم استلام باليد مع تقبيلها، ثم استلام بعصاً ونحوه مع تقبيله إن لم يكن فيه أذية، والسنة إنما وردت في هذا للراكب فيما نعلم ثم إشارة.
فالمراتب صارت أربعاً تفعل أولاً فأول بلا أذية ولا مشقة.
مسألة: كيفية الإشارة ؟ هل الإشارة كما يفعل العامة أن تشير إليه كأنما تشير في الصلاة أي: ترفع اليدين قائلاً الله أكبر ؟ الجواب: لا بل الإشارة باليد اليمنى. كما أن المسح يكون باليد اليمنى. ولكن هل تشير وأنت ماشٍ والحجر على يسارك، أم تستقبله ؟ الجواب: روي عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: « إنك رجل قوي فلا تزاحم فتؤذي الضعيف إن وجدت فرجة فاستلم وإلا فاستقبله وهلل وكبر»(20) قال: « وإلا فاستقبله » فالظاهر: أنه عند الإشارة يستقبله ولأن هذه الإشارة تقوم مقام الاستلام والتقبيل والاستلام والتقبيل يكون الإنسان مستقبلاً له بالضرورة لكن إن شق أيضاً مع كثرة الزحام فلا حرج أن يشير وهو ماشٍ.
ويقول عند محاذاته ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنه عند ابتداء الطواف « بسم الله والله أكبر »(21) « اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاءً بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم »(22) كما كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول ذلك.
أما في الأشواط الأخرى فإنه يكبر كلما حاذى الحجر اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم (23). إذاً الحجر الأسود له سنتان: سنة فعلية وسنة قولية.
وأما الركن اليماني فيستلمه بلا تقبيل ولا تكبير ولا إشارة إليه عند التعذر. لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم. والقاعدة الفقهية الأصولية الشرعية: ( أن كل ما وجد سببه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فالسنة تركه ) وهذا قد وجد سببه فالركن اليماني كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستلمه ولم يكن يكبر وعلى هذا فلا يسن التكبير عند استلامه.
مسألة: وهل يستلمهما في آخر شوط ؟
الجواب: يستلم الركن اليماني ولا يستلم الحجر الأسود لأنه إذا مر بالركن اليماني مر وهو في طوافه. وإذا انتهى إلى الحجر الأسود انتهى طوافه.ولهذا لا يستلم الحجر الأسود ولا يكبر أيضاً في آخر شوط. لأن التكبير تابع للاستلام ولا استلام الآن والتكبير في أول الشوط ، وليس في آخر الشوط.
مسألة: ماذا يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود ؟
الجواب: يقول « ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ».
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: ( والمناسبة في ذلك أن هذا الجانب من الكعبة هو آخر الشوط وكان النبي صلى الله عليه وسلم يختم دعاءه غالبا بهذا الدعاء ).
وأما الزيادة « وأدخلنا الجنة مع الأبرار يا عزيز يا غفار » فهذه لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي للإنسان أن يتخذها تعبداً لله لكن لو دعا بها لم ينكر عليه لأن هذا محل دعاء.
ولكن كونه يجعله مربوطا بهذه الجملة ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) غير صحيح وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كـان يقول أيضاً: « اللهم إني أسألك العفو والعافية » ولكنه حديث ضعيف(24).
وقوله: « فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً » قال العلماء رحمهم الله: الرمل هو سرعة المشي مع مقاربة الخطا.
والظاهر أن مرادهم مع تقارب الخطا أي أن الإنسان لا يمد خطوه لأن العادة في الإنسان إذا أسرع تكون خطوته أبعد. لكن يسرع ولا يمد خطوه بل يكون طبيعيا وليس الرمل هو هز الكتفين كما يفعله الجهال.
« ثلاثاً » أي: ثلاثة أشواط « ومشى أربعاً » يعني أربعة أشواط مشى على عادته بدون إسراع. ويسن له الإضطباع في الطواف وهو : أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر والحكمة من ذلك: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم(25) وإظهار القوة والنشاط إذ هو أنشط للإنسان مما لو التحف والتف بردائه.
مسألة: وهل الإضطباع مثل الرمل يكون في الأشواط الثلاثة أو يكون في جميع الأشواط ؟
الجواب: نقول يكون في جميع الأشواط.
وقوله « ثم نفذ إلى مقام إبراهيم » يدل على أن هناك زحاما، وفي رواية ثم تقدم إلى مقام إبراهيم والجمع بينهما أنه نفذ متقدما إلى مقام إبراهيم ليصلي خلفه.
ومقام إبراهيم هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يرقى عليه لما ارتفع جدار الكعبة.
وقوله: « فقرأ ) وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى ( » قرأ ذلك في حال نفوذه إشارة إلى أنه إنما فعل ذلك امتثالا لأمر الله تعالى في قوله ) وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى ((26) وهذا أمر مطلوب منا عندما نفعل العبادات أن نستشعر بأننا نقوم بها امتثالا لأمر الله تعالى لأن شعور الإنسان عندما يفعل العبادة بأنه يفعلها امتثالا لأمر الله تعالى فإن هذا مما يزيد في إيمانه ويجد لها لذة وهذه هي نية المعمول له. بخلاف الذي يفعل العبادة وهو غافل عن هذا المعنى فإن العبادة تكون كالعادة، ولهذا قال المتكلمون على النيات إن النية نوعان نية العمل ونية المعمول له والأخيرة أعظم مقاما من الأولى لأن نية العمل تأتي ضرورة فما من إنسان عاقل يقوم بعمل إلا وقد نواه وقصده حتى قال بعض العلماء رحمهم الله لو كلفنا الله عملاً بلا نية لكان من تكليف مالا يطاق. لكن المقام الأسنى والأعلى نية المعمول له التي تغيب عنا كثيراً.
وقوله تعالى: ) وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى ( استدل بعض العلماء رحمهم الله باستشهاد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على أن ركعتي الطواف واجبة وهذا له حظ من النظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر به الآية الدالة على الوجوب للأمر بها ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يدع الركعتين بعد الطواف.
وقوله « فجعل المقام بينه وبين البيت » المقام أي مقام إبراهيم جعله بينه وبين الكعبة.
وهذا يشعر بأن المقام في مكانه الحالي لأنه لو كان لاصقا بالبيت كما في الرواية المشهورة ما احتاج أن يقول جعل بينه وبين البيت لأن المقام لاصق بالبيت.
وهذه المسألة اختلف فيها المؤرخون وأكثر المؤرخين على أنه كان في أول الأمر لاصقا بالبيت ثم زحزح ولكن الذي يظهر أنه من الأصل في مكانه هذا.
ومقام إبراهيم جعل الله فيه آية وهي أثر قدمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقد شهده أوائل هذه الأمة شهدوا أثر القدم ولكنه انمحى وزال لكثرة مسه من الناس. وقد أشار إلى هذا أبو طالب في قوله:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة... على قدميه حافيا غير ناعل(27).
وقوله: « فصلى » يعني ركعتين. واعلم أن المشروع في هاتين الركعتين التخفيف وأن يقرأ فيهما بـ ) قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( و ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( وأنه ليس قبلهما دعاء وليس بعدهما دعاء.
والحكمة من تخفيفهما أن تفسح المجال لمن هو أحق منك فالناس ينتهون من الطواف أرسالاً فإذا انتهى الطائفون وأنت حاجز هذا المكان تطيل الصلاة فمعناه أنك حجزت مكاناً لمن هو أحق منك فلا تطل الصلاة ثم إنه قد يكون المطاف مزدحما فيحتاج الطائفون إلى المكان الذي أنت فيه أيضا فمن ثم خفف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة واختار أن يقرأ بعد الفاتحة بسورتي الكافرون و الإخلاص ) قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( و ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( لأن إمام الحنفاء هو صاحب هذا المقام وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ((28).
والحكمة في قراءة هاتين السورتين أن فيهما التوحيد كله بنوعيه التوحيد الخبري والتوحيد الطلبي العملي فالتوحيد الخبري في ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( والعملي الطلبي في ) قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (.
وهل للمقام دعاء ؟
الجواب: ليس للمقام دعاء ولا دعاء قبل الركعتين ولا بعدهما ولكن المشكلة أن مثل هذه البدع صارت كأنها قضايا مسلمة مشروعة حتى إن الحاج ليرى أن حجه ناقص إذا لم يفعل هذا وكل هذا بسبب تقصير العلماء أو قصورهم وإلا فمن الممكن أن يعطى هؤلاء الحجاج مناسك من بلادهم توجههم للطريق الصحيح.
وقوله: « ثم رجع إلى الركن فاستلمه » يعني استلم الحجر الأسود ولم يقبله ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشار إليه وعلى هذا فيكون هنا استلام بلا تقبيل ولا إشارة إليه عند التعذر.
وقوله: « ثم خرج من الباب إلى الصفا » يعني بعد أن صلى الركعتين خلف المقام رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب أي من باب المسجد إلى الصفا ومن المعلوم أنه سيختار الباب الذي يلي الصفا. والصفا هو الجبل الذي يكون أمام الحجر الأسود من الكعبة أو يميل قليلا إلى الركن اليماني.
وهو جبل معروف يسمى جبل أبي قبيس(29).
وقوله: « فلما دنا من الصفا » يعني قرب منه. « قرأ ) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ( أبدأ بما بدأ الله به ».
وفائدة هذه القراءة إشعار نفسه بأنه إنما اتجه إلى السعي امتثالاً لما أرشد الله إليه في قوله:) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ((30) وليعلم الناس أنهم إنما يسعون بين الصفا والمروة من أجل أنهما من شعائر الله ، وليعلم الناس أيضا أنه ينبغي للإنسان إذا فعل عبادة أن يشعر نفسه أنه يفعلها طاعة لله عز وجل كما لو توضأ الإنسان فينبغي أن يستشعر عند وضوئه أن يتوضأ امتثالا لقوله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ((31). ويشعر أيضا أنه يتوضأ كأن النبي صلى الله عليه وسلم أمامه يتبعه في وضوئه وهكذا جميع العبادات فإذا استشعر الإنسان عند فعل العبادة أنه يفعلها امتثالا لأمر الله فإنه يجد لها لذةً وأثراً طيباً.
وقوله: قرأ ) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ( يحتمل أنه قرأ الآية كلها وكان السلف يعبرون ببعض الآية عن جميعها، ويحتمل أنه لم يقرأ إلا هذا فقط الذي هو محل الشاهد، وهو كون الصفا والمروة من شعائر الله وكون الصفا هو الذي يبدأ به، وهذا هو المتعين وذلك لأن الأصل أن الصحابة رضي الله عنهم ينقلون كل ما سمعوا وإذا لم يقل: حتى ختم الآية أو حتى أتم الآية فإنه يقتصر على ما نقل فقط.
وقوله ) مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ( الشعائر جمع شعيرة وهي النسك أو العبادة المتميزة عن غيرها بتعظيم الله عز وجل.
وقوله: « أبدأ بما بدأ الله به » لأن الله بدأ بالصفا فقال: ) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ( وفيه إشارة إلى أن الله إذا بدأ بشيء كان دليلاً على أنه مقدم إلا بدليل.
وقوله: « فرقي الصفا » أي: عليه وهذا الرقي ليس بواجب وإنما هو سنة وإلا لو وقف على حد الصفا من أسفل حصل المقصود لقوله تعالى ) فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ((32) وحد الواجب الآن هو حد هذه الأسياخ التي جعلوها للعربات وعلى هذا فلا يجب أن يصعد ويتقدم ولا سيما في أيام الزحام.
وقوله: « حتى رأى البيت » أي: الكعبة « فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ».
وقوله: « وحد الله » أي: نطق بتوحيده ولعله قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير الله أكبر. والنفي هنا نفي للإله الحق أي: لا إله حق إلا الله وأما الآلهة التي تعبد من دون الله فليست بحق كما قال تعالى ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ((33).
وقوله: « وكبره وقال لا إله إلا الله » يحتمل أنه زائد على قوله فوحد الله أو أنه تفسير له. لكن وردت السنة بأنه يكبر ثلاث تكبيرات ولكنه ليس كتكبير الجنازة كما يتوهم بعض العامة حيث يقول الله أكبر بيديه يشير بها كما يشير بها في الصلاة هذا خطأ. لكن يرفع يديه ويكبر ثلاثاً ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.
وقوله: « وحده لا شريك له » وحده تأكيد للإثبات و « لا شريك له » تأكيد للنفي واستفدنا توحده بالملك من تقديم الخبر « له الملك » لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر. والملك يشمل ملك الذوات أي الأعيان وملك التصرف والله سبحانه وتعالى مالك لكل ما في السموات والأرض مالك للتصرف فيهما لا شريك له في ملكه ولا في تدبيره.
وقوله: « وله الحمد » يعني أنه يحمد على كمال صفاته وعلى كمال إنعامه و إحسانه وكذلك على كمال تصرفه وأفعاله. وأعقب به قوله « له الملك » ليفيد أن ملكه ملك يحمد عليه فما كل من ملك شيئا وتصرف فيه يحمد على تصرفه لكن الله عز وجل يحمد على ملكه وتصرفه.
وقوله: « وهو على كل شيء قدير » كل شيء فالله تعالى قادر عليه إن كان موجوداً فهو قادر على إعدامه وتغييره وإن كان معدوماً فهو قادر على إيجاده. والقدرة: صفة يتمكن بها من الفعل بدون عجز وهي أخص من القوة من وجه وأعم من وجه لأن القوة يوصف بها من له إرادة ومن لا إرادة له فيقال: حديد قوي وإنسان قوي وأما القدرة فلا يوصف بها إلا من كان ذا إرادة فيقال الإنسان قدير ولا يقال الحديد قدير لكن القوة أخص لأنها قدرة وزيادة ولهذا نقول: كل قوي ممن له قدرة فهو قادر ولا عكس.
وقوله: « لا إله إلا الله وحده » كرر ذلك لأن باب التوحيد أمر مهم ينبغي تكراره ليثبت ذلك في قلبه وهو مع ذلك يؤجر عليه.
وقوله: « أنجز وعده » يعني: بنصر المؤمنين فأنجز للرسول صلى الله عليه وسلم ما وعده قال الله تعالى ) لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ((34).
وقوله: « ونصر عبده » هذا اسم جنس يشمل كل عبد من عباد الله قائم بأمر الله فإنه منصور قال الله تعالى ) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ((35).
وقوله: « وهزم الأحزاب وحده » الأحزاب جمع حزب وهم الطوائف الذين تحزبوا على الباطل وتجمعوا عليه ) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ((36).
فهزمهم الله وحده ومثال على ذلك قصة الأحزاب الذين تجمعوا لحرب النبي صلى الله عليه وسلم وحاصروه في المدينة وهم نحو عشرة آلاف نفر ومع ذلك هزمهم الله وحده أرسل عليهم ريحاً وجنوداً فقلقلتهم حتى انهزموا. وهل المراد بهزيمة الأحزاب في قوله « وهزم الأحزاب وحده » ما جرى في عام الخندق أو ما هو أعم !؟ نقول ما هو أعم.
وقوله: « ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات » يعني قال هذا الذكر ثم يدعو ثم يقوله مرة أخرى ثم يدعو ثم يقوله مرة ثالثة ثم ينزل لأنه قال: « ثم دعا بين ذلك » والبينية تقتضي أن يكون محاطاً بالذكر من الجانبين فيكون الدعاء مرتين والذكر ثلاث مرات.
وقوله: « ثم نزل إلى المروة » أي مشى إلى المروة متجهاً إليها.
والمروة هي الجبل المعروف بقعيقعان (37) وهما جبلان معروفان في مكة أحدهما أبو قبيس والثاني قعيقعان.
وقوله: « حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى » بطن الوادي هو مجرى السيل ومكانه ما بين العلمين الأخضرين الآن وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مسيل المياه النازلة من الجبال.
وقوله: « سعى » أي: ركض ركضاً شديداً حتى إن إزاره لتدور به من شدة السعي.
وقوله: « حتى إذا صعدتا » يعني ارتفع عن بطن الوادي « مشى حتى أتى المروة » وإنما فعل ذلك اقتداءً بأم إسماعيل رضي الله عنها فإن أم إسماعيل لما وضعها إبراهيم عليه الصلاة والسلام هي وولدها في هذا المكان وجعل عندهما ماء وتمرا فجعلت الأم تأكل من التمر وتشرب من الماء وترضع الطفل فنفد التمر والماء وجاعت الأم وعطشت ونقص لبنها فجاع الطفل فجعل الطفل يصيح ويتلوى من الجوع فأمه من أجل الأمومة رحمته وخرجت إلى أدنى جبل إليها تستمع لعلها تسمع أحداً أو ترى أحدا فصعدت الصفا وجعلت تستمع وتنظر فلم تجد أحداً فرأت أقرب جبل إليها بعد الصفا المروة فاتجهت إليه تمشي وهي تنظر إلى الولد فلما نزلت بطن الوادي احتجب الولد عنها فجعلت تركض ركضا شديدا من أجل أن تلاحظ الولد فلما صعدت من المسيل مشت حتى أتت المروة ففعلت ذلك سبع مرات وهي في أشد ما تكون من الشدة لا بالنسبة إليها جائعة عطشى فقط ولا بالنسبة إلى الولد فقط وعند الشدة يأتي الفرج فبعث الله عز وجل جبريل فضرب بعقبه أو جناحه الأرض في مكان زمزم فنبع الماء بشدة فجعلت أم إسماعيل تحجر الماء تخشى أن يضيع من شدة شفقتها قال النبي صلى الله عليه وسلم يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً. ولكن لا شك أن هذا من حكمة الله عز وجل ووجه ذلك أنه لو كانت عينا معينا في هذا المكان وقرب الكعبة لصار فيها مشقة على الناس ولكن من نعمة الله عز وجل أن صار الأمر كما أراد الله تبارك وتعالى.
لكنها حجرتها ثم شربت من هذا الماء فكان هذا الماء طعاماً وشراباً و جعلت تسقي الولد والحديث ذكره البخاري مطولا (38) فهذا أصل السعي كما قال النبي صلى الله عليه وسلمفلذلك سعى الناس.
والمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى من أجل أن الناس إنما سعوا من أجل سعي أم إسماعيل.
وقوله: « ففعل على المروة كما فعل على الصفا » لم يذكر جابر رضي الله عنه ماذا يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم في بقية سعيه ولكن قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن السعي لذكر الله فقال: « إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله »(39). فأي ذكر تذكر الله به فهو خير سواء بالقرآن أو بالتسبيح أو بالتهليل أو بالتكبير أو بالتحميد أو بالدعاء فأي شيء تذكر الله به فإنك قد حصلت على المطلوب.
وهل ينافي ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ الجواب: لا، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الذكر لأنه تذكير للخلق بما شرع الله لهم.
وقوله: « ففعل على المروة كما فعل على الصفا » يعني من الصعود والدعاء والمقام، فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك سبع مرات فلما كان آخر طواف على المروة نادى وهو على المروة وأمر الناس من لم يسق الهدي منهم أن يجعلوا نسكهم عمرة فجعلوا يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم حتى قالوا: الحل كله يا رسول الله قال: الحل كله قالوا: نخرج إلى منى وذكر أحدنا يقطر منياً يعني من جماع أهله قال: افعلوا ما آمركم به فلولا أن معي الهدي لأحللت معكم فأحلوا رضي الله عنهم. أما النبي صلى الله عليه وسلم ومن ساق الهدي فلم يحلوا ثم نزلوا بالأبطح (40) في ظاهر مكة فلما كان يوم التروية خرجوا إلى منى فمن كان منهم باقياً على إحرامه فهو مستمر في إحرامه ومن كان قد أحل أحرم بالحج من جديد.
وقوله: « لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة » هل يقال أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى خلاف الواقع أو يقال إن هذا خبر مجرد الجواب: الثاني. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يتمنَ لأنه يعلم أن هذا هو الأفضل أعني قرانه، لكنه قال للصحابة رضي الله عنهم هكذا لتطيب نفوسهم ويحلوا برضى.
وقوله: « فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد ؟ » قوله « فقام سراقة » كان هذا عند المروة والسياق الذي في صحيح البخاري (41) رحمه الله كان عند العقبة فما الجمع بينهما ؟ نقول الجمع بينهما: ربما أن سراقة رضي الله عنه أعاد السؤال مرة ثانية إما لأنه نسي ما قاله عند المروة وإما لزيادة التأكد وهذا يقع.
وقوله: « وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً، واكتحلت فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: « صَدَقتْ صَدَقتْ. ماذا قلت حين فَرضْتَ الحج » قال: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك ».
قوله: « قدم علي من اليمن » أي وصل إلى مكة والنبي صلى الله عليه وسلم في الأبطح. والسبب في ذهابه إلى اليمن لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إلى اليمن للدعوة إلى الله وأخذ الزكوات منهم وغير ذلك.
وقوله: « ببدن النبي صلى الله عليه وسلم » أي ببعضها لأن بعضها جاء بها علي رضي الله عنه وبعضها جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم كما يأتي في آخر الكلام.
وقوله: « فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً » أي ثوباً جميلاً وكأنها متهيئة لزوجها رضي الله عنهما.
وقوله: « فأنكر ذلك عليها » لأنهم لم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج.
وقوله: « فقالت: إن أبي أمرني بهذا » أي أخبرته أن أباها صلى الله عليه وسلم أمرها بهذا.
وقوله: « فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه » التحريش في الأصل التهييج والإغراء كما يحرش بين البهائم وكما يحرش بين الناس ولهذا يقال حرش فلان على فلان أي هيج غيره عليه وأغراه به. فذهابه للنبي صلى الله عليه وسلم لغرضين الغرض الأول التحريش على فاطمة رضي الله عنها لماذا تحل، والثاني الاستفتاء هل عملها صحيح أو غير صحيح ؟
وقوله: « فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال: صدقت صدقت » يعني أمرتها بهذا وكرر ذلك توكيدا لأن المقام يقتضي ذلك. فقوله « صدقت » أي فيما قالت أني أمرتها به. وإنما أمرها النبي صلى الله عليه وسلم كما أمر غيرها لأنها لم تسق الهدي فحلت.
وقوله: « ماذا قلت حين فرضت الحج » أي سأل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ماذا قال حين فرض الحج قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسولك قال: إن معي الهدي فلا تحل.
ففي هذا دليل على مسألة خاصة بعلي رضي الله عنه، وعلى مسألة عامة للمسلمين.
أما المسألة الخاصة بعلي فهو ذكاؤه رضي الله عنه وفطنته وحرصه على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أحرم بما أحرم به الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما المسألة العامة فهي جواز مثل هذا أي أنه يجوز للإنسان أن يقول لبيك أو أحرمت بما أحرم به فلان ممن يثق بعلمه ودينه مع أنه سيكون مجهولاً له حتى يصل إلى فلان.
فإذا قال أحرمت بما أحرم به فلان وكان فلان قارناً فهل لهذا إذا لم يكن معه هدي أن يحل بعمرة ؟
الجواب: نعم لأنه لو أحرم به من أول فإننا نأمره أن يحل بعمرة فكيف إذا كان مقتدياً بغيره، ولكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أشركه النبي صلى الله عليه وسلم في هديه وجعل منه نصيبا. ولهذا قال معي الهدي فلا تحل.
وظاهر هذه العبارة أن من أحرم بمثل ما أحرم به فلان وكان فلان قد ساق الهدي ولم يحل فإن الثاني لا يحل لكن هذا مقيد بما إذا كان الثاني قد ساق الهدي أو مشاركاً له فيه كما سيأتي في سياق الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرك علياً رضي الله عنه في هديه.
وقوله: « قال فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة ».
قوله: « جماعة » أي مجموع الهدي و( مائة ) بالألف ولكن هذه الألف لا ينطق بها والناطق بها يعتبر لاحناً بل يقال مئة كما يقال فئة بدون نطق الألف.
وقوله: « فلما كان يوم التروية » « يوم » بالرفع مع أنه ظرف زمان لأنه هنا سلبت منه الظرفية فـ « يوم » هنا فاعل « كان » وكان هنا تامة وليست ناقصة فلا تحتاج إلى اسم وخبر والمعنى: لما جاء يوم التروية توجهوا إلى منى.
ويوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة وسمي بذلك لأن الناس يتروون فيه الماء لما بعده يعني يستسقون فيه الماء ليوم عرفة وأيام منى. ومن هذا اليوم إلى آخر أيام التشريق لكل يوم من هذه الأيام الخمسة اسم خاص فالثامن يوم التروية والتاسع يوم عرفة والعاشر يوم النحر والحادي عشر يوم القر والثاني عشر يوم النفر الأول والثالث عشر يوم النفر الثاني.
وقوله: « توجهوا إلى منى » الضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توجهوا من الأبطح لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل هناك في الأبطح ولم يذكر جابر رضي الله عنه أن أحداً من الصحابة رضي الله عنهم جاء إلى البيت وأحرم منه ولو أن أحداً فعل ذلك لبينه.
وقوله: « إلى منى » منى: اسم مكان معروف وسميت بهذا الاسم لكثرة ما يمنى فيها من الدماء. أي: يراق من الدماء وهي من حيث الإعراب مصروفة فنقول: منىً بالتنوين. وحدُّها شرقاً وغرباً من وادي محسر إلى جمرة العقبة. ومن الشمال والجنوب قال العلماء رحمهم الله: كل سفوح الجبال الكبيرة ووجوهها التي تتجه إلى منى من منى. وبناء على هذا تكون منى واسعة جداً وتسع الحجاج لو أنها نظمت تنظيماً تاماً مبنياً على العدل. لكن بعض الناس يتخذ مكاناً واسعاً يسع أكثر من حاجته.
مسألة: توجد مشكلة في الوقت الحاضر. يقول بعض الناس أنا لا أجد أرضاً بمنى إلا بأجرة فهل يجوز لي أن أستأجر أرضا في منى ؟
فالجواب: نعم يجوز والإثم على المؤجر الذي أخذ المال بغير حق أما المستأجر فلا إثم عليه. ولهذا قال فقهاء الحنابلة رحمهم الله: لا يجوز تأجير بيوت مكة ولكن إذا لم يجد بيتا إلا بأجرة دفع الأجرة والإثم على المؤجر وبيوت منى وأرضها من باب أولى لأن منى مشعر محدود محصور، فأين يذهب الناس إذا استولى عليها من يقول: أنا لا أُنزل فيها الناس إلا بأجرة ؟!
أما مكة فيمكن أن ينزل الإنسان بعيدا ولكن منى وعرفة ومزدلفة مشاعر كالمساجد، لا يجوز لأحد إطلاقاً أن يبني فيها بناءً يؤجره ولا أن يختط أرضاً ويؤجرها فإن فعل فالناس معذورون يبذلون الأجرة والإثم على الذي أخذها.
وقوله: « وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر » صلى بمنى خمس صلوات كل صلاة في وقتها بدون جمع لأنه لو كان يجمع لبينه جابر رضي الله عنه فإن الجمع خلاف الأصل ولما لم ينبه عليه علم أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلوات الخمس صلاة مفرودة كل صلاة في وقتها ، الظهر والعصر والعشاء قصراً لحديث أنس الثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عام حجة الوداع ولم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة (42) وأنس رضي الله عنه له خبرة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم لأنه خادمه.
وقوله: « أمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية » قريش لحميتها الجاهلية وتعصبها لا تقف يوم عرفة إلا في مزدلفة تقول نحن أهل الحرم فلا نخرج إلى الحل وأما بقية الناس فيقفون في عرفة لكن النبي صلى الله عليه وسلم جدد الحج على مشاعر إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وقوله: « فأجاز حتى أتى عرفة » أجاز بمعنى تعدى يعني جاوز مزدلفة إلى عرفة.
وقوله: « فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها » أجاز النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة وكان قد أمر أن تضرب له قبة بنمرة (43) وهي قرية قرب عرفة فضربت له القبة بنمرة فنزل بها حتى زالت الشمس وهذا النزول فيه استراحة بعد التعب من المشي من منى إلى عرفة لأن هذه هي أطول مسافة في الحج - من منى إلى عرفة - فبقي النبي صلى الله عليه وسلم هناك واستراح.
وظاهر السياق أن نمرة من عرفة لأنه قال: « حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة » وهذا يدل على أن نمرة من عرفة وأنها جزء منها فتكون نمرة اسم لمكان معين من عرفة.
وهذا أحد القولين لأهل اللغة وأهل الفقه فإن أهل اللغة وأهل الفقه اختلفوا هل نمرة من عرفة أم لا ؟
فجزم النووي رحمه الله (44) وجماعة بأنها ليست من عرفة وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله وهذا هو الصواب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن ببناء الخيمة فيها ولو كانت مشعراً لم يأذن ببناء الخيمة فيها ولهذا ما بني له خيمة في عرفة ولا بني له خيمة في منى حتى إنه يروى أنه قيل له ألا نبني لك خيمة في منى فقال: (لا منى مناخ من سبق) (45) هكذا روي عنه وكونه يأذن أن يبنى له خيمة في نمرة يدل على أنها ليست من المشاعر وإلا لما أذن فيها.
وأما قوله « حتى أتى عرفة » فمعناه بيان لمنتهى تجاوزه وأنه لم يقف بمزدلفة كما كانت قريش تفعل بل تجاوزها حتى بلغ عرفة التي هي موقف الناس كما قال الله تعالى: ) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ((46) والناس يفيضون من عرفة ولهذا لم يقل: « فوجد القبة قد ضربت بها في نمرة ».
وذهب آخرون إلى أنها من عرفة وهو قول جماعة من أهل الفقه ومن أهل اللغة أيضا كما في القاموس (47) وسيأتي إن شاء الله ما يترتب على هذا الخلاف من الحكم في الفوائد.
فإن قال قائل: أين تقع نمرة ؟ قلنا: تقع نمرة على حدود الحرم عند الجبل الذي يكون على يمينك وأنت سائر إلى عرفة من الطريق الذي يخرج على المسجد ويقولون إن نمرة عند أعلام الحرم وهذا ما جزم به الأزرقي رحمه الله صاحب تاريخ مكة (48).
وقوله: « فوجد القبة » القبة خيمة من صوف أو غيره ضربت للرسول صلى الله عليه وسلم فنزل بها واستراح.
وقوله: « حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له » زاغت: بمعنى مالت إلى الغرب والقصواء اسم ناقته التي حج عليها صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: « فرحلت له » أي جعل رحلها عليها وفيه دليل على أنه قد نزل الرحل عنها لأنه استراح من أول النهار إلى زوال الشمس وهذه مدة طويلة.
وقوله: « فأتى بطن الوادي » يعني وادي عرنة نزل فيه عليه الصلاة والسلام لأنه أسهل من الأرض الجرداء إذ إن مجرى الوادي سهل لين. ففي هذا دليل على طلب السهل في النزول ولكن لا يبيت الإنسان في مجاري السيول لأن السيول قد تأتي بدون شعور فيكون في ذلك ضرر ولهذا نهي عن الإقامة فيها، أما إقامة النبي صلى الله عليه وسلم هنا فإنها إقامة قصيرة يسيرة.
وقوله: « فخطب الناس » خطبهم خطبة عظيمة بليغة قرر فيها قواعد الإسلام (49) فقال عليه الصلاة والسلام: « إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا » أكد التحريم عليه الصلاة والسلام تحريم الدماء والأموال بهذا التأكيد كحرمة يومكم هذا وهو يوم عرفة فإنه يوم حرام لأنه من جملة أيام الحج والناس فيه محرمون.
وقوله: « في شهركم هذا » يعني شهر ذي الحجة لأنه من الأشهر الحرم بل هو أوسط الأشهر الحرم الثلاثة المقترنة.
وقوله: « في بلدكم هذا » يعني مكة فإنه لا شك أنه أعظم البلاد حرمة هي مكة.
وقوله: « ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع » يعني موضوع تحت القدم وهذا كناية عن إبطاله وإهانته لأن الناس جرت العادة أن الشيء المكرم يقال على الرأس والمهان يقال تحت القدم.
والمعنى أنها باطلة مهينة لا عبرة بها. وهذا عام في جميع أمور الجاهلية كلطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية وغير ذلك. وعلى هذا فيكون كل أمور الجاهلية قد محيت بهذا الحديث ولا اعتماد عليها ولا رجوع إليها.
وقوله: « ودماء الجاهلية موضوعة » أي الدماء التي حصلت بين أهل الجاهلية كلها موضوعة لا حكم لها ولا قصاص ولا دية ولا شيء.
وقوله: « وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث » يعني ابن عمه عليه الصلاة والسلام وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه أولى الناس به، أولى بالمؤمنين من أنفسهم فوضعه.
وقوله: « فقال كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل » فهذا قريب النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه وجعله موضوعا يعني فلا يطالب به، كل هذا لئلا يعود الناس إلى أمور الجاهلية فيطالبون ما كان بينهم من أمور الجاهلية من دماء أو أموال.
وقوله: « وربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ».
كل ربا الجاهلية موضوع أبطله النبي صلى الله عليه وسلم وأول ما أبطل من الربا ربا أقاربه ربا عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وكان غنياً يرابي فوضع النبي صلى الله عليه وسلم رباه كله، وهذا تحقيق لقوله تعالى: ) وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ((50).
ثم انتقل صلى الله عليه وسلم إلى قضية المرأة التي كانت في الجاهلية مظلومة، وكان الرجال يستعبدون النساء حتى تصل بهم الحال إلى أن يمنعوهن من الميراث ويقولون لا إرث للمرأة الإرث للرجال لأنهم هم الذين يذودون عن البلاد ويحمون الأعراض.
أما المرأة فليس لها ميراث، ولكن الإسلام حكم بالعدل في النساء وأعطاهن حقهن.
من ذلك إعلان النبي صلى الله عليه وسلم هذه الخطبة في قوله « فاتقوا الله في النساء » أي لا تظلموهن ولا تقصروا في حقوقهن ولا تعتدوا عليهن. وقوله: « فإنكم أخذتموهن بأمان الله » أي أمانة عندكم لا يجوز الغدر فيها ولا الخيانة. وقوله: « واستحللتم فروجهن بكلمة الله » كقوله تعالى ) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ((51) فهذه من كلمات الله التي استحل بها الرجلُ فرجَ امرأته.
وقوله: « ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه » هذا من حق الزوج على زوجته أن لا توطئ فراشه أحداً يكرهه. والمراد بالفراش ما هو أعم من فراش النوم فيدخل في ذلك فراش البيت ويدخل في ذلك أيضاً ما كان وسيلة إليه كإدخال أحد بيت زوجها وهو يكرهه سواء كان من أقاربها أو من الأباعد فلا يحل للمرأة أن تدخل أحداً بيت زوجها وهو لا يرضى بذلك.
وقوله: « فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح » يعني إذا أدخلن في بيوتكم من تكرهونه فاضربوهن. وهنا قال صلى الله عليه وسلم اضربـوهن وفي القـرآن الكريم يـقول الله تـبارك وتـعـالى: ) وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ((52) والفرق بينهما أن الآية قال الله فيها ) وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ( وأما هذا الحديث فقد وقعت المفسدة محققة منها فتضرب على ما مضى إصـلاحا للمستقبل، الإصـلاح هو قـوله ) فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ (. لكن هذا تأديب وتعزير على ما وقع من المرأة حيث أوطأت فراش زوجها من يكرهه لكنه ضرب غير مبرح أي غير شديد ولا جارح لجسدها، بل هو ضرب خفيف يحصل به التأديب وبيان سلطة الرجل عليها.
وقوله: « ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف » الرزق العطاء وهو مـا يقوم به البـدن من طـعام وشـراب. وقـوله: « وكسوتهن » أي ما يستر به ظاهر الجسد فهو على الزوج لكن بالمعروف.
وقوله: « بالمعروف » أي بما يتعارفه الناس مما يكون على الزوج الغني حسب غناه والفقير حسب فقره.
واختلف العلماء رحمهم الله هل المعتبر حال الزوج أو حال الزوجة أو حالهما.
فالمشهور من المذهب أن المعتبر حالهما. والقول الثاني أن المعتبر حال الزوج. والقول الثالث أن المعتبر حال الزوجة. والصواب أن المعتبر حال الزوج لقول الله تعالى ) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ((53) فالغنية مع الغني نفقتها نفقة غني والفقيرة مع الفقير نفقتها نفقة فقير والمتوسطة مع المتوسط نفقتها نفقة المتوسط وهذا واضح تتفق فيه الأقوال.
والغنية مع الفقير نفقة فقير على القول بأن المعتبر حال الزوج، ونفقة غني على القول بأن المعتبر حال الزوجة ونفقة متوسط على القول بأن المعتبر حالهما لكن الصحيح أن المعتبر حال الزوج.
ويفهم من هذا الحديث أنه لا نفقة للزوج على الزوجة ولو كانت غنية وهو فقير لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن في هذا المجمع أن الإنفاق على الزوج خلافاً لابن حزم رحمه الله حيث قال إذا كان الزوج فقيراً والزوجة غنية فإنه يلزمها أن تنفق عليه لعموم قوله تعالى: ) وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ((54) والزوجة وارث للزوج فيلزمها أن تنفق عليه. فيقال نعم فيما إذا كان الإنفاق من أجل المواساة أما إذا كان معاوضة فلا يمكن أن نلزم الزوجة بالإنفاق على زوجها لأن المستمتع الزوج. ولهذا سمي المهر أجراً كأنه دفعه المستأجر إلى الأجير فالإنفاق عليها معاوضة وليس من باب المواساة. أما لو كان من باب المواساة كالإنفاق بين الأقارب فنعم يجب على الغني أن ينفق على الفقير.
وقوله: « وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله » هذا فيه بيان بعد الإجمال والبيان بعد الإجمال من أساس البلاغة لأن الشيء إذا جاء مجملاً تشوفت النفوس إلى بيانه فقد قال: ما إن اعتصمتم به لن تضلوا بعده فتتشوف النفوس ما هذا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم «كتاب الله » يعني هو كتاب الله وهو القرآن الكريم وأضيف إلى الله لآن الله هو الذي أنزله وهو الذي تكلم به وسمي كتاباً لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ وفي الصحف التي بأيدي الملائكة وفي الصحف التي بأيدينا.
وقوله : « وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون » يسألون عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة هل بلغكم رسولي ؟. وإنما يسألُ الناس عن ذلك إقامة للحجة عليهم وإلا فالرب عز وجل يعلم أن رسوله بلغ البلاغ المبين صلوات الله وسلامه عليه فهو شبيه بقوله تعالى: ) وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ((55) هي لا تسأل لأجل أن تعذب ولكنه توبيخ لمن وأدها.
وقوله: « ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر » أذن يعني أمر بالأذان وكذلك في الإقامة لأن مؤذنه إذ ذاك بلال رضي اله عنه أمره أن يؤذن بعد الخطبة ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر وكان ذلك يوم جمعة ولكن لم يصل الجمعة لأنه ليس من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقيم الجمعة في السفر ومن أقام الجمعة في السفر فهو مبتدع وصلاته باطلة وهذا يدل على قصور نظر بعض الناس الذين قالوا إن الجمعة واجبة في الحضر والسفر.
فإن قال قائل: ما الدليل على أنها لا تجب في السفر مع أن ما وجب في السفر وجب في الحضر وما وجب في الحضر وجب في السفر ؟
فالجواب: هذا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر وكم مر عليه من جمعة ؟
كثير ومع ذلك لم ينقل عنه حديث صحيح ولا ضعيف أنه كان يقيم الجمعة في السفر فمن أقام الجمعة في السفر فهو مبتدع بلا شك مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته باطلة. فهذا النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم جمع اجتمع به في أمته في حجة الوداع أتت عليه الجمعة وهو في أفضل يوم وهو يوم عرفة ومع ذلك ما أقام الجمعة ولو كانت مشروعة فهل يدعها الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ !
أبداً لا يمكن فلما لم يفعلها مع وجود السبب المقتضي لها علم أنها ليست مشروعة وأنها ليست من دين الله ولهذا بدأ بالخطبة قبل الأذان وصلاة الجمعة يبدأ بالأذان قبل الخطبة وأيضا يقول: « فصلى الظهر » وهذا صريح ثم « أقام وصلى العصر » وكان ذلك يوم الجمعة وهذا بخلاف المسافر المقيم في بلد تقام فيه الجمعة فإن ظاهر النصوص وجوبها عليه لعموم الأدلة ولأنه قد يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً لكن إن تضرر بالتأخر للجمعة أو خاف فوت رفقته فهو معذور في تركها.
وقوله: « ولم يصل بينهما شيئا » لأنه ليس من المشروع أن يتطوع الإنسان براتبة الظهر في السفر ولهذا ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم راتبة الظهر التي بعدها كما لم يصل التي قبلها.
وقوله: « ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس » قوله: « ركب » أي من مكانه الذي صلى فيه ركب ناقته « حتى أتى الموقف » (أل) هنا للعهد الذهني أي الموقف الذي اختار أن يقف فيه وإلا فإن عرفة كلها موقف كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف » (56) لكن أتى الموقف الذي اختار أن يقف فيه وهو شرقي عرفة عند الصخرات. والحكمة من ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الموقف لأنه والله أعلم كان عليه الصلاة والسلام من عادته أن يكون في أخريات القوم يتفقد من احتاج إلى معونة أو مساعدة أو ما شابه ذلك وليس هذا من أجل اختصاص هذا المكان المعين بخصيصة بل كل عرفة موقف ولهذا قال: وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف.
وقوله: « فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات » يعني يلي الصخرات. وهي معروفة إلى الآن لا تزال موجودة.
وقوله: « وجعل حبل المشاة بين يديه » حبل المشاة قال العلماء رحمهم الله: إنه طريقهم الذي يمشون معه وسمي حبلا لأنه كان رملا والأقدام تؤثر فيه فالطريق الذي أثرت فيه الأقدام كأنه حبل.
وقوله: « واستقبل القبلة » يدعو الله عز وجل رافعاً يديه مبتهلاً إلى الله عز وجل بالذكر والدعاء والإنابة والخشوع حتى إنه سقط زمام راحلته فأمسكه بإحدى يديه وهو رافع الأخرى. وهذا يدل على تأكد رفع اليدين هنا.
وقوله: « فلم يزل واقفا » المراد بالوقوف هنا المكث ، لا الوقوف على القدمين ، فالقاعد يعتبر واقفاً والوقوف قد يراد به السكون لا القيام ومعلوم أن الراكب على البعير جالس عليها ليس واقفاً عليها.
وهل الأفضل أن يقف راكباً. أو أن يقف غير راكب ؟سيأتي ذلك في الفوائد إن شاء الله.
وقوله: « فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس » لم يزل واقفاً منذ أن وصل إلى موقفه بعد الصلاة وبعد المسير من عرنة إلى الموقف حتى غربت الشمس ولم يمل ولم يتعب من طول القيام ولكن الله عز وجل أعانه على طاعته عوناً لم يحصل لأحد مثله عليه الصلاة والسلام.
ثم إنه في هذا الموقف سئل عن رجل وقصته ناقته وهو واقف بعرفة ومات فقال صلى الله عليه وسلم « اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه ولا تحنطوه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً » (57).
فقوله: « وكفنوه في ثوبيه » يعني ثياب الإحرام فلا يكفن بغيرها، ولو تيسر أن يكفن بغيرها بل الأفضل والسنة أن يكفن بها لأنه سيخرج من قبره يوم القيامة يقول: لبيك اللهم لبيك.
وقوله: « وذهبت الصفرة قليلاً » يعني لم تذهب نهائيا بل ذهبت قليلا لأنه إذا غابت الشمس واستحكم غروبها قلت الصفرة.
وقوله: « حتى غاب القرص » هذا تأكيد لقوله: « حتى غربت الشمس » لأنه قد يتوهم واهم أن المراد بغروب الشمس غروب بعضها فأكد ذلك بقوله: « حتى غاب القرص » ويفهم منه كون الجو صحواً ليس فيه سحاب يحول بين الناس ورؤية الشمس عند غروبها.
وقوله: « وأردف أسامة خلفه » أردف أسامة بن زيد رضي الله عنه ولم يردف كبار الصحابة رضي الله عنهم ولا أقاربه أو كبار أقاربه .
مسألة: هل يلزم من إرداف النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه أن يكون أفضل من غيره ؟
الجواب: لا يلزم من فضيلة أسامة رضي الله عنه بهذه الخصيصة أن يكون أفضل من غيره مطلقاً ، لأن الفضل منه ما هو مقيد ومنه ما هو مطلق فأفضل الصحابة على الإطلاق أبو بكر رضي الله عنه.
ولكن لا يلزم أن يفضله غيره في بعض الخصائص كما قال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي هذه خصيصة لم تكن لغيره رضي الله عنه.
وقوله: « ودفع وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى يا أيها الناس السكينة السكينة وكلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد » القصواء ناقته شنق لها الزمام يعني خنقه وضيقه وجذبه لكيلا تسرع حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ومورك الرحل هو الذي يضع الراكب رجله عليه إذا تعب أو ملّ من الركوب وهو يقول للناس بيده اليمنى يا أيها الناس السكينة السكينة لأنه جرت عادة الناس منذ زمن طويل أنهم عند الدفع يندفعون ويسرعون يتبادرون النهار من جهة ولأن الإنسان خلق من عجل وصفته العجلة قـال الله تعالى: ) خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ((58) وقـال تعالى ) وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً ((59) فأصل إمداده وإعداده كله عجلة.
وقوله: « السكينة السكينة » بالنصب أي الزموا السكينة يعني لا تسرعوا لا تعجلوا وقد جاء في حديث آخر « فإن البر ليس بالإيضاع »(60) يعني ليس بالسرعة.
وقوله: « وكلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد » يعني إذا أتى دعثاً أو رملاً أرخى لها قليلاً حتى تصعد رأفة بالبعير لأنه لو شنق لها الزمام وأمامها شيء مرتفع وفيه شيء من الدعث والرمل صعب عليها فيرخي لها النبي صلى الله عليه وسلم قليلا حتى تصعد.
وقوله: « حتى أتى مزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين » المزدلفة من الإزدلاف وهو القرب وتسمى جمعاً لأن الناس يجتمعون فيها بعد الوقوف بعرفة وكانوا أيضاً يجتمعون بها من قبل لما كانت قريش لا تخرج إلى عرفة بل تقف في مزدلفة وتقول: إننا أهل الحرم فلا نخرج عنه.
فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بها المغرب والعشاء جمع تأخير ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان واقفاً في أقصى عرفة من الناحية الشرقية ثم دفع حتى أتى المزدلفة. وبين عرفة ومزدلفة مسافة كثيرة والرسول صلى الله عليه وسلم قد شنق للقصواء الزمام وهو يقول للناس: السكينة السكينة وهذه المسافة لا شك أنها ستستوعب مدة صلاة المغرب فلم يصل إلا بعد دخول وقت صلاة العشاء لا سيما وأنه وقف في أثناء الطريق وبال وتوضأ وضوءاً خفيفاً كما في حديث أسامة رضي الله عنه(61).
إذاً جَمْعُ الرسول صلى الله عليه وسلم كان جمعَ تأخير ولهذا قال العلماء رحمهم الله يسن أن يجمع في مزدلفة جمع تأخير وقيد بعضهم ذلك فقال: إن لم يوافها وقت المغرب يعني فإن وافاها وقت المغرب فإنه يصلي المغرب في وقتها.
وقوله: « بأذان واحد وإقامتين » وهذا هو الصحيح في الجمع أنه أذان واحد للصلاتين جميعا وإقامتان ، لكل صلاة إقامة ، والمؤذن بلال رضي الله عنه فالأذان للإعلام بحضور وقت الصلاة وهو للمجموعتين وقت واحد. والإقامة للإعلام بالقيام للصلاة ولكل صلاة قيام خاص.
وقوله: « ولم يسبح بينهما شيئاً » يسبح أي: يصلي والصلاة تسمى تسبيحاً من باب إطلاق البعض على الكل وأطلق التسبيح عليها لأن التسبيح ركن فيها أو واجب فيها وهنا قاعدة مهمة مفيدة وهي أنه إذا عبر عن العبادة ببعضها كان ذلك دليلا على أن هذا البعض واجب فيها إذاً لم يسبح أي: لم يتنفل بينهما بشيء.
وقوله: « ثم اضطجع حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ».
قوله: « ثم اضطجع » أي نام عليه الصلاة والسلام حتى طلع الفجر وهذا من حسن رعايته لنفسه تحقيقا لقوله صلى الله عليه وسلم: « إن لنفسك عليك حقا »(62) ومعلوم أن من عمل كعمل الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يتعب ويحتاج إلى الراحة وإلى النوم. والنوم إذا كان لرعاية النفس كان الإنسان مأجوراً عليه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أقام بنمرة ودفع منها حين زالت الشمس وخطب الناس وصلى وذهب إلى الموقف ووقف ولم ينم صلى الله عليه وسلم ثم مشى من عرفة إلى مزدلفة كل هذا يحتاج إلى طاقة وراحة فاضطجع صلى الله عليه وسلم ولم يتهجد تلك الليلة.
وقوله: « ثم اضطجع حتى طلع الفجر » لم يذكر جابر رضي الله عنه الوتر فهل النبي صلى الله عليه وسلم لم يوتر ؟ قد يقول قائل: إنه لم يوتر لأن جابراً كان متتبعاً لأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وقد يقال: إن جابراً رضي الله عنه سكت عنه لأنه لا يدري ولهذا لما لم يتنفل بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء نفى وقال: لم يسبح بينهما شيئا فلما لم ينف الوتر دل على أن جابراً رضي الله عنه لم يحط به علما وعلى هذا فنرجع إلى الأحاديث الدالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع الوتر حضراً ولا سفراً وعليه فنقول يوتر إن شاء قبل أن ينام وإن شاء في آخر الليل حسب قوته ونشاطه.
وقوله: « وصلى الفجر » لم يذكر جابر رضي الله عنه أيضا سنة الفجر فهل الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصلها ؟ نقول لو كان عند جابر رضي الله عنه علم بأنه لم يصلها لنفاها كما نفى الصلاة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فإذا كان حديث جابر رضي الله عنه لا يدل على نفيها فإن حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيح أنه لم يكن يدعهما أي الركعتين قبل الفجر حضراً ولا سفراً (63) يفيد أن الإنسان يصلي الركعتين في فجر يوم العيد.
وقوله: « حين تبين له الصبح » يعني ظهر واتضح لأنه لا تجوز الصلاة مع الشك في الصبح بل لا بد أن يتبين فإن كان ثَمَّ غيم فإذا غلب على ظنه أنه خرج الفجر صلى كما سنذكره في الفوائد إن شاء الله تعالى.
وقوله: « ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام » هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مبيتُه في مزدلفة في نفس المشعر الحرام بل في مكان آخر ولهذا لما صلى الفجر أمر بالقصواء فرحلت له ثم أتى المشعر الحرام. والمشعر الحرام هو المكان الذي فيه المصلى الآن في مزدلفة وسمي مشعراً حراماً لأنه داخل الحرم فهل هناك مشعر حلا ل فيكون الوصف للقيد أو ليس هناك مشعر حـلال فيكون الوصف لبيان الواقع ؟
الجواب: قال العلماء رحمهم الله بل هناك مشعر حلال وهو عرفة وهو أعظم مشاعر الحج فإذا لدينا مشعر حرام وهو مزدلفة ومشعر حلال وهو عرفة.
وقوله: « فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله » استقبل القبلة يعني جعل وجهه إلى القبلة « ودعاه » الضمير يعود على الله.
فإذا قال قائل لم يسبق له ذكر؟ نقول: هذا معلوم بالذهن والمعلوم بالذهن كالمعلوم بالذكر.
أما الدعاء فمعروف هو طلب الحاجة وأما التكبير فقول الله أكبر والتهليل قول لا إله إلا الله.
وقوله: « فلم يزل واقفاً حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس » لم يزل واقفا يعني على بعيره لقوله فيما سبق « ركب حتى أتى ».
وقوله: « حتى أسفر جدا » يعني إسفاراً بالغاً ليس مجرد إسفار بل انتشر السفر وبان وظهر.
وقوله: « فدفع قبل أن تطلع الشمس » أي لم ينتظر طلوع الشمس فسار من مزدلفة ليخالف المشركين لأن المشركين كانوا ينتظرون في مزدلفة إلى أن تطلع الشمس وكانوا يقولون: « أَشْرِقْ ثَبِيْر كيما نُغير » أيْ: كي نغير وندفع فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم في الدفعين الدفع من عرفة والدفع من مزدلفة فمن عرفة دفع بعد الغروب ومن مزدلفة دفع قبل الشروق.
وقوله: « وأردف الفضل بن عباس » وذلك حين دفع من مزدلفة إلى منى يوم العيد والنبي صلى الله عليه وسلم أردف في دفعه من عرفة إلى مزدلفة أسامة بن زيد رضي الله عنهما وأردف في دفعه من مزدلفة إلى منى الفضل بن عباس رضي الله عنهما وهؤلاء ليسوا من كبار القوم فأسامة ابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فلم يختر النبي صلى الله عليه وسلم أشراف القوم ووجهاءهم ليردفهم على ناقته بل اختار من صغار القوم في السن واختار المولى يردفه من عرفة إلى مزدلفة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعتني بمظاهر التعظيم ولا تهمه بل كان من عادته عليه الصلاة والسلام أن يكون في أخريات القوم يتفقدهم وينظر من يحتاج إلى أمر. وقصة جابر في جمله واضحة فإن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما كان معه جمل ضعيف لا يمشي يقول: فلحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه ودعا له فسار الجمل سيرا لم يسر مثله قط حتى صار الجمل يكون في مقدمة القوم وجابر يرده لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتبيعني إياه ؟ قال: نعم قال بعنيه بأوقية. والأوقية أربعون درهما قال: لا فقال: بعنيه فباعه فاشترط أن يحمله إلى أهله في المدينة فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شرطه فلما وصلا إلى المدينة دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم الثمن وقال له: خذ جملك ودراهمك هو لك (64).
وقوله:« حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً » يعني حرك ناقته عليه الصلاة والسلام حين بلغ بطن محسر (65). ومحسر واد عظيم يفصل بين مزدلفة ومنى وبهذا نعرف أن ما بين المشاعر أودية.
فبين المشعر الحرام والمشعر الحلال واد وهو وادي عرنة. وبين المشعرين الحرامين منى ومزدلفة واد وهو وادي محسر.
واختلف العلماء رحمهم الله في سبب الإسراع فقال بعضهم: أسرع لأن بطن الوادي يكون لينا يحتاج لأن يحرك الإنسان بعيره لأن مشي البعير على الأرض الصلبة أسرع من مشيه على الأرض الرخوة فحرك من أجل أن يتساوى سيرها في الأرض الصلبة وسيرها في الأرض الرخوة. وعلى هذا فالملاحظ هنا هو مصلحة السير فقط.
وقيل: أسرع لأن الله أهلك فيه أصحاب الفيل فينبغي أن يسرع لأن المشروع للإنسان إذا مر بأراضي العذاب أن يسرع كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ( حين مر بديار ثمود في غزوة تبوك زجر الناقة عليه الصلاة والسلام وقنع رأسه وأسرع ) (66) وبعض الناس اليوم يتخذ هذه الأماكن أعني ديار ثمود سياحة ونزهة - والعياذ بالله - مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع فيها وقال: « لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم » ففي عملهم خطر عظيم لأن الإنسان إذا دخل على هؤلاء بهذه الصفة فقلبه يكون غير لين فيكون قاسيا مع مشاهدته آثار العذاب وحينئذ يصيبه ما أصابهم من التكذيب والتولي. هذا معنى الحديث وليس المراد أن يصيبكم العذاب والزجر الحسي فقد يراد به العذاب والزجر المعنوي وهو أن يقسو قلب الإنسان فيكذب بالخبر ويتولى عن الأمر.
والذين يذهبون إلى النزهة أو الفرجة، الظاهر أنهم للضحك أقرب منهم للبكاء. فنسأل الله لنا ولهم العبرة والهداية.
وتعليل إسراع النبي صلى الله عليه وسلم في وادي محسر بذلك فيه نظر لأن أصحاب الفيل لم يهلكوا هنا بل في مكان يقال له المغمس (67) حول الأبطح وفي هذا يقول الشاعر الجاهلي أمية بن أبي الصلت:
حبس الفيل بالمغمس حتى... ظل يحبو كأنه معقور

وقال بعض العلماء رحمهم الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم أسرع لأنهم كانوا في الجاهلية يقفون في هذا الوادي ويذكرون أمجاد آبائهم. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالفهم كما خالفهم في الخروج من عرفة وفي الخروج من مزدلفة ولعل هذا أقرب التعاليل ولهذا قال الله تعالى ) فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ( ثم قال ) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ((68).
وقوله: « ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى » في منى ثلاثة طرق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، شرقي وغربي ووسط فسلك النبي صلى الله عليه وسلم الطريق الوسطى بين الطريقين وإنما سلكها لأنها كانت أقرب إلى رمي جمرة العقبة ولأنها هي التي تخرج على جمرة العقبة قصداً ليرميها حين وصوله إلى منى ولهذا رماها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يذهب إلى رحله وينزل من بعيره رماها وهو على بعيره وكان معه أسامة وبلال رضي الله عنهما أحدهما يقود راحلته والثاني يظلله بثوب يستره من الحر حتى رمى الجمرة صلوات الله وسلامه عليه.
قال أهل العلم: وإنما بادر بذلك لأن رمي جمرة العقبة تحية منى ، فهي بمنزلة ركعتي المسجد.
ولم يذكر جابر رضي الله عنه من أين لقط حصى الجمرات ولكن نعلم أنه لم يلقطها من مزدلفة لأنه اضطجع حتى طلع الفجر ثم ذهب إلى المشعر الحرام ثم دفع منها لكن هل لقطها من الطريق أو لقطها حين وقف على الجمرة، حديث ابن عباس (69) رضي الله عنهما في هذا محتمل أنه لقطها من الطريق أو لقطها حين وقف على الجمرة الله أعلم.
وعلى كل حال فالذي ينبغي أن يكون الإنسان مستعداً بالحصى حتى إذا وصل إلى الجمرة رماها.
وقوله: « التي تخرج على الجمرة الكبرى » وصفها بالكبرى بالنسبة لما قبلها من الجمرات وهي الأولى والوسطى فإنها كبرى بالنسبة لهما وهي أوسعهن حوضا لكن نظرا لكونها في الجبل لم يكن حوضها دائراً عليها.
وقوله: «حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة » وهي الكبرى ، وهي شجرة معروفة في ذلك الزمن لكنها الآن ليست موجودة.
وقوله: « فرماها بسبع حصيات » رمى الجمرة بسبع حصيات ، والجمرة سميت بذلك من قولهم تجمر القوم إذا اجتمعوا لأن الناس يجتمعون عليها للرمي. وقيل: إنها من الجمار وهي الحصى الصغار لأنها ترمى بها. ويمكن أن نقول: إنها سميت بذلك مراعاة للمعنيين جميعا لأن الناس يتجمرون عندها أي يتجمعون ولأنها ترمى بالجمار أي بالحصى الصغار.
وقوله: «فرماها بسبع حصيات » قد يفهم منه: أنه لا بد أن يرمي الشاخص( العمود القائم) ولكنه غير مراد بل المقصود أن تقع الحصاة في الحوض، سواء ضربت العمود أم لم تضربه.
ورمي الجمرات الحكمة منه: إقامة ذكر الله عز وجل كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله »(70) ولهذا يشرع أن يكبر عند رمي كل حصاة من أجل أن يعظم الله تعالى بلسانه كما هو معظم له بقلبه ، لأن رمي الجمرات على هذا المكان أظهر ما فيه من المعنى المعقول هو التعبد لله وهذا كمال الانقياد إذ إن الإنسان لا يعرف معنى معقولاً واضحاً في رمي هذه الحصى في هذا المكان سوى أنه يتعبد لله عز وجل بأمر وإن كان لا يعقل معناه على وجه التمام تعبداً لله تعالى وتذللاً له ،وهذا هو كمال الخضوع لله عز وجل ولهذا كان في رمي الجمار تعظيم لله باللسان وبالقلب.أما ما اشتهر عند الناس من أنهم يرمون الشياطين في هذه الجمرات فهذا لا أصل له ، وإن كان قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند ضعيف أنه قال: ( الشيطان ترمون )(71) فإنما يقصد بذلك إن صح عنه هذا الخبر أو هذا الأثر فالمراد أنكم تغيضون الشيطان برميكم هذه الجمرات حيث تعبدتم لله عز وجل بمجرد أن أمركم به من غير أمر معقول لكم على وجه التمام. وما قيل أيضاً إن صح- من أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان الشيطان يعرض له في هذه المواقف ليحول بينه وبين تنفيذ أمر الله تعالى بذبح ولده فكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يرميه بهذه الجمرات (72) فإنه لا يستلزم أن يكون رمينا رمياً لإبليس لأن إبليس لم يتعرض لنا في هذه الأماكن ، ونظير هذا أن السعي إنما شرع من أجل ما جرى لأم إسماعيل رضي الله عنها ومعلوم أن تردد أم إسماعيل بين الصفا والمروة سببه طلب الغوث لعلها تجد من يكون حولها ويسقيها ويطعمها ونحن في سعينا لا نسعى لهذا الغرض. فكذلك رمي الجمرات، حتى لو صح أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يرمي الشيطان بهذه الجمرات مع أنه بعيد ، لأن الله عز وجل جـعل لنا دواء نرمي به الشيطان إذا عرض لنا وهو أن نستعيذ بالله منه ) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ((73). إذاً الحكمة من رمي الجمرات هو كمال التعبد لله تعالى والتعظيم لأمره ،ولهذا يحصل ذكر الله بالقلب واللسان.
فإن قال قائل: لماذا لم تكن خمساً أو ثلاثاً أو تسعاً أو إحدى عشرة حصاة ؟
فالجواب: هذا ليس لنا الحق في أن نتكلم فيه كما أنه ليس لنا الحق أن نقول لماذا كانت الصلوات الخمس سبع عشرة ركعة ؟ ولماذا لم تكن الظهر ستاً والعصر ستاً والعشاء ستاً مثلاً ؟
نقول: هذا لا تدركه عقولنا وليس لنا فيه إلا مجرد التعبد.
وقوله: « يكبر مع كل حصاة » والمعية تقتضي المصاحبة فيكبر عندما يرمي ويقذف.
وقوله: « كل حصاة منها مثل حصى الخذف » حصى الخذف حصى صغير ليس بكبير ، والخذف: هو أن تجعل الحصاة على ظفر الإبهام وتجعل فوقها السبابة. وقدر العلماء رحمهم الله بأنه بين الحمص والبندق.
وقوله: « رمى من بطن الوادي » أي رمى الجمرة من بطن الوادي لا من الجبل. وكانت جمرة العقبة فيما سبق قبل هذه التوسعة والتعديلات كانت في سفح جبل وتحتها وادٍ هو مجرى الشعيب وفوقها جبل لكنه ليس بالرفيع وهي لاصقه في نفس الجبل. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم من بطن الوادي ورماها ولم يأتها من فوق ؛ وعلى هذا تكون السنة أن يرميها من هذه الجهة فيجعل مكة عن يساره ويجعل منى عن يمينه كما فعل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وقال هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة (74) ولكن إذا كان محاولة الوصول إلى الجمرة من هذه الناحية فيه مشقة على الإنسان ولو رماها من وجه آخر لم يكن فيه مشقة وصار أخشع له وأبلغ في الطمأنينة كان رميه من الجهة الأخرى أفضل بناء على القاعدة المعروفة أن الفضل المتعلق بذات العبادة أولى بالمراعاة من الفضل المتعلق بمكانه.
وقوله: « ثم انصرف إلى المنحر فنحر » يعني بعد أن رمى جمرة العقبة انصرف إلى المنحر أي مكان نحر الإبل وكذلك ذبح الشاء والمعز، وكان عليه الصلاة والسلام قد أهدى مائة بدنة فنحر منها ثلاثاً وستين بيده وأعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنحر الباقي وأمره أن يتصدق بلحومها وجلالها وجلودها وأمر أن يؤخذ من كل بعير قطعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها تحقيقا لقوله تعالى ) فكلوا منها ((75) قال العلماء رحمهم الله: وفي نحره ثلاثاً وستين بعيراً مناسبة لسنوات عمره الشريف فإنه صلى الله عليه وسلم مات وله من العمر ثلاث وستون سنة.
وقوله: « ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت » لم يذكر جابر رضي الله عنه حلق الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن ثبت(76) أنه حلق بعد نحره وحل من إحرامه وتطيب ونزل إلى مكة فطاف ولا يلزم من عدم ذكر جابر رضي الله عنه لذلك أن لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعله إذ لا يلزم أن يعلم جابر رضي الله عنه ولا غيره بكل ما يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم لكن تكمل أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض مما رواه الصحابة رضي الله عنهم جميعاً.
وقوله: « ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت » أي نزل إليه فطاف به سبعة أشواط ولم يسع بين الصفا والمروة لأنه كان قارنا وقد سعى بعد طواف القدوم ولم يسع أصحابه الذين كانوا معه الذين لم يحلوا بل طافوا طوافاً واحداً أما الذين حلوا فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس (77) رضي الله عنهما أنه لما كان عشية يوم التروية أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأحرموا فلما أنهوا المناسك طافوا بالبيت وبالصفا والمروة هكذا جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وهو صريح في أنهم طافوا بالبيت وبالصفا والمروة وكذلك ثبت في الصحيح من حديث عائشة (78) رضي الله عنها أن الذين أحرموا بالعمرة سعوا بين الصفا والمروة مرتين. وما دام عندنا حديثان صحيحان في أن المتمتع يطوف ويسعى مرتين فإن حديث جابر رضي الله عنه يتعين أن يحمل على الذين لم يحلوا. وما ذهب إليه جماعة من أهل العلم رحمهم الله ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في أن المتمتع يكفيه سعي واحد قول ضعيف ويتبين لنا أن الإنسان مهما بلغ من العلم والفهم فإنه لا يسلم من الخطأ لأنه لا معصوم إلا من عصم الله عز وجل والإنسان يخطي ويصيب.
وحديث ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما كلاهما في البخاري ومثل هذا لا يخفى على شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه رحمه الله من حفاظ الحديث حتى قال بعضهم كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بصحيح ولكن الإنسان بشر فالصواب بلا شك أن المتمتع يلزمه طوافان وسعيان والقياس يقتضي ذلك ؛ لأن العمرة انفردت وفصل بينها وبين الحج حل كامل وأحرم الإنسان بالحج إحراما جديدا.
وقوله: « فصلى بمكة الظهر » أي صلى الظهر يوم العيد بمكة وهذا من البركة العظيمة في أعماله صلى الله عليه وسلم حيث دفع من مزدلفة حين أسفر جدا على الإبل ودفع بسكينة إلا في بطن محسر ورمى جمرة العقبة وذبح الإبل وحلق ولبس ونزل مكة وصلى بها الظهر في هذه المدة الوجيزة مع أن الذي يظهر والله أعلم أن حجه كان في زمن الربيع تساوي الليل والنهار.
وقوله: « فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه » أي: بعدما طاف للإفاضة أتى ماء زمزم فشرب منه. فالمشهور عند أهل العلم رحمهم الله أنه شرب من ماء زمزم تعبداً، ولهذا قالوا: يسن بعد طواف الإفاضة أن يشرب من ماء زمزم.
وقال بعض أهل العلم: إنه شرب منه لا للتعبد به وإنما هو لحاجة النبي صلى الله عليه وسلم إليه.
-----------------------------------------
(1) قال النووي رحمه الله تعالى في شرحه على صحيح مسلم 8/402: حديث جابر حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من مهمات القواعد وهو من أفراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه ورواه أبو داود كرواية مسلم قال القاضي وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا وصنف فيه ابن المنذر جزءاً وخرج من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً لو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه .أ. هـ.
(2) سورة البقرة: آية 125.
(3) سورة البقرة: آية 158 .
(4) أخرجه مسلم في كتاب الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218) وأبو داود في كتاب المناسك باب صفة حجة النبي صلى الله علبه وسلم (1905) ، وابن ماجه في كتاب المناسك باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (3074).
(5) أنظر المحلي 5/ 189 .
(6) أخرجه البخاري في كتاب الحيض / باب الأمر بالنفساء إذا نفسن (294)، ومسلم في كتاب الحج،/ باب بيان وجوه الإحرام(2910)
(7) 1/123 .
(8) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب قصة يأجوج ومأجوج (3348) وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان/ باب قوله " يقول الله لآدم" (222) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
(9) سورة الحج : آية 27.
(10) سورة النساء: آية 71.
(11) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة / باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (395) عن أبي هريرة رضي الله عنه .
(12) 2/ 92-96 "
(13) أخرجه أحمد 2/ 476 ، وأخرجه النسائي في كتاب المناسك / باب كيف التلبية 5/161 عن أبي هريرة رضي الله عنه .
(14) أخرجه مسلم في كتاب الحج/ باب التلبية 1184 .
(15) أخرجه البخاري في كتاب الحج / باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة (1659) ومسلم في كتاب الحج/ باب التلبية والتكبير في الذهاب من منى إلى عرفات (1285).
(16) أخرجه البخاري في الحج / باب الرمل في الحج (1605) ومسلم في الحج / باب استحباب تقبيل الحجر الأسود (1270) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ..
(17) أخرجه البخاري في الحج / باب الرمل في الحج (1605) ومسلم في الحج / باب استحباب تقبيل الحجر الأسود (1270) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ..
(18) لما روى نافع قال : " رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده ثم قبل يده وقال : ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله" أخرجه مسلم في الحج / باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف (3045).
(19) أخرجه البخاري في الحج / باب التكبير عند الركن (1613) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: " طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء كان عنده ويكبر " .
(20) أخرجه الإمام أحمد 1/28، وعبد الرزاق (8910)، والبيهقي 5/80 عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه .
(21) أخرجه البيهقي 5/79 عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا استلم الركن قال: " بسم الله والله أكبر" .
(22) أخرجه البيهقي 5/79 وابن أبي شيبة 4/105 وعبد الرزاق (8898) عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(23) سبق تخريجه رقم 22.
(24) أخرجه ابن ماجه في المناسك / باب فضل الطواف ( 2957) عن أبي هريرة رضي الله عنه .
(25) أخرجه الإمام أحمد 4/223 وأبو داود في المناسك / باب الاضطباع في الطواف (1883) ، والترمذي في الحج / باب أن النبي صلى الله عليه طاف مضطبعاً (859) وابن ماجه في المناسك / باب الاضطباع (2954) عن أبي يلعي بن أمية رضي الله عنه .
(26) سورة البقرة : آية 125 .
(27) البداية والنهاية 3/ 43 .
(28) سورة النحل : الآية 123.
(29) الصفا بالفتح والقصر. والصفا والصفوان والصفواء كله العريض من الحجارة الملس. جمع صفاة ويكتب بالألف ويثنى صفوان. ومنه الصفا والمروة وهما جبلان بين بطحاء مكة والمسجد. أما الصفا فمكان مرتفع من جبل أبي قبيس بينه وبين المسجد الحرام عرض الوادي الذي هو طريق وسوق. معجم البلدان 3/467.
(30) سورة البقرة : آية 158.
(31) سورة المائدة : آية 6 .
(32) سورة البقرة : آية 158.
(33) سورة الحج : آية 62 .
(34) سورة الفتح : آية 27.
(35) سورة غافر : آية 51.
(36) سورة الصف : آية 8 .
(37) قعيقعان: بالضم ثم الفتح بلفظ تصغير: وهو اسم جبل بمكة قيل إنما سمي بذلك لأن قطوراء وجرهم لما تحاربوا قعقعت الأسلحة فيه، وعن السدي أنه قال: سمي الجبل الذي بمكة قيقعان لأن جرهم كانت تجعل فيه قسيها وحرابها ودرقها فكانت تقعقع فيه ، والواقف على قيقعان يشرف على الركن العراقي إلا أن الأبنية قد حالت بينهما. معجم البلدان 4/ 430.
(38) أخرجه البخاري كتاب الأنبياء، باب ( يزفون) النسلان في المشي (3364).
(39) أخرجه أبو داود في المناسك / باب الرمل (1888). والترمذي في الحج / باب ما جاء في كيف يرمي الجمار (902) . والدارمي في المناسك / باب الذكر بعد رمي الجمار (279).
(40) الأبطح : بالفتح ثم السكون وفتح الطاء والحاء المهملة هو كل مسيل فيه دقاق الحصى فهو أبطح والأبطح يضاف إلى مكة وإلى منى لأن المسافة بينه وبينها واحدة وربما كان إلى منى أقرب وهو المحصب .. معجم البلدان 1/56.
(41) أخرجه البخاري في كتاب العمرة / باب عمرة التنعيم (1785) ولفظه " فأمر عبد الرحمن بن أبى بكر أن يخرج عائشة إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج في ذي الحجة وأن سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة وهو يرميها، فقال : ألكم هذه خاصة يا رسول الله ؟ قال: " لا بل للأبد" .
(42) قال أنس رضي الله عنه : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين، ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة ، أخرجه البخاري في كتاب تقصير الصلاة / باب ما جاء في التقصير (1081) ومسلم في صلاة المسافرين (693).
(43) نمرة : بفتح أوله وكسر ثانيه أنثى النمر ، ناحية بعرفة نزل بها النبي صلى الله عليه وسلم وقيل الحرم من طريق الطائف على طرف عرفه من نمرة على أحد عشر ميلاً وقيل نمرة الجبل الذي عليه أنصاب الحرم عن يمينك إذا خرجت من الملزمين تريد الموقف . معجم البلدان 5/ 352.
(44) أنظر شرح مسلم للنووي 8/ 411.
(45) أخرجه الإمام أحمد 6/187، 207. وأبو داود في المناسك / باب تحريم مكة (2019) والترمذي في الحج / باب ما جاء إن منى مناخ من سبق (881) وابن ماجه في المناسك / باب النزول بمنى (3006) .
(46) سورة البقرة : آية 199.
(47) 4/ 442.
(48) أخبار مكة 2 / 202.
(49) قال شيخنا محمد رحمه الله قد شرحها الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله في رسالة صغيرة مفيدة .
(50) سورة البقرة : آية 279.
(51) سورة المؤمنون : آية 5 – 6.
(52) سورة النساء : آية 34.
(53) سورة الطلاق : آية 7 .
(54) سورة البقرة : آية 233.
(55) سورة التكوير : آية 8 – 9 .
(56) أخرجه مسلم في كتاب الحج / باب ما جاء أن عرفة كلها موقف 2/ 893 وأبو داود في كتاب المناسك / باب الصلاة بجمع 1/449 والترمذي في أبواب الحج / باب ما جاء في أن عرفة كلها موقف 4/120.
(57) أخرجه البخاري في الجنائز / باب الكفن في ثوبين (1265) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(58) سورة الأنبياء : آية 37.
(59) سورة الإسراء : آية 11.
(90) أخرجه البخاري في كتاب الحج / باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم عند الإفاضة وإشارته إليهم بالسوط (1671).
(61) أخرجه البخاري في الوضوء / باب إسباغ الوضوء (139) ومسلم في الحج / باب الإفاضة من عرفات (1280).
(62) أخرجه البخاري في كتاب الأدب / باب صنع الطعام ، والتكلف للضيف (6139) ، والترمذي في كتاب الزهد / باب حدثنا محمد بن بشار (2526).
(63) أخرجه البخاري في كتاب التهجد . باب تعاهد ركعتي الفجر .(1169) ولفظه : " لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم من النوافل أشد منه تعاهداً على ركعتي الفجر " .
(64) أخرجه البخاري في الشروط / باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة (2718) ومسلم في المساقاة / باب بيع البعير واستثناء ركوبه (1222).
(65) مٌحَسِّر: بالضم ثم بالفتح وكسر السين المشددة . وراء هو اسم الفاعل من الحسر وهو بين منى ومزدلفة وليس من منى ولا المزدلفة بل هو واد برأسه ، معجم البلدان 5/ 74.
(66) أخرجه البخاري في المغازي / باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر (4419) ومسلم في الزهد والرقائق باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين (2980) عن ابن عمر رضي الله عنهما .
(67) المٌغَمّس : بالضم ثم الفتح وتشديد الميم وفتحها اسم مفعول من غمست الشيء في الماء إذا غيبته فيه : موضع قرب مكة في طريق الطائف . معجم البلدان 5/188.
(68) سورة البقرة : آية 198-200.
(69) وهو ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عباس أن يلقط الحصى وهو يقول للناس : بأمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين) أخرجه النسائي في الحج / باب التقاط الحصى / 5/268 وابن ماجه في المناسك / باب قدر حصى الرمي (3029) وأحمد 1/215 – 347 .
(70) سبق تخريجه رقم 41 .
(71) أخرجه الحاكم في المستدرك في المناسك حديث (1713) من قول ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه (الشيطان ترجمون وملة أبيكم تتبعون).
(72) أخرجه الحاكم في المستدرك في المناسك الحديث (1713) وأخرجه البيهقي في الحج باب ما جاء في بدء الرمي حديث (9693) ولفظه :"لما أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات ثم ساخ في الأرض".
(73) سورة فصلت : آية 36.
(74) أخرجه البخاري في الحج / باب رمي الجمار من بطن الوادي (1747) ومسلم في الحج / باب رمي جمرة العقبة من بطن الوادي (1296).
(75) سورة الحج : آية 28 .
(76) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة، ونحر نسكه وحلق .. الحديث أخرجه مسلم في الحج / باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق (1305) .
(77) أخرجه البخاري في كتاب الحج / باب قوله تعالى "ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام" (1572) ولفظه (أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا ، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلوا إحلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال : من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي ).
(78) أخرجه البخاري في كتاب الحج /باب طواف القارن (1638) ولفظه : (فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا ، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً ) وأخرجه مسلم في كتاب الحج / باب بيان وجوه الإحرام . وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقرن ، (1211) ولفظه : (فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا إلى منى لحجهم . وأما الذين كانوا جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً ).

رد مع اقتباس
الواثقة بالله غير متواجد حالياً
 رقم المشاركة : ( 3 )
الواثقة بالله
المراقب العام

رقم العضوية : 4
تاريخ التسجيل : Aug 2010
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 8,176 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 10
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع
افتراضي

كُتب : [ 11-01-2011 - 08:55 PM ]

من فوائد هذا الحديث
1- أن حجة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في السنة العاشرة من الهجرة لقوله « ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج » فإن قال قائل لماذا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة أو في السنة الثامنة أو في السنة السابعة مثلا ؟ قلنا أما ما قبل الثامنة فلا يمكن أن يحج لأنها قبل الفتح وكانت مكة تحت سيطرة المشركين وقد ردوه عن العمرة فكيف عن الحج ؟!.
وأما في السنة الثامنة بعد الفتح فكان مشتغلا عليه الصلاة والسلام بالجهاد فإنه لم يفرغ من ثقيف إلا في آخر ذي القعدة .
وأما في السنة التاسعة فقيل إنه لم يحج لأن هذا العام كان عام الوفود . فإن العرب كانوا ينتظرون فتح مكة ولما فتحت مكة انتظروا أيضا القضاء على ثقيف لأنهم أمة لهم قوة فلما قضى عليهم عليه الصلاة والسلام أذعنت العرب وصاروا يأتون أفواجا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فكان في المدينة ليلتقي هؤلاء الوفود يعلمهم دينهم عليه الصلاة والسلام .
وسبب آخر أنه في السنة التاسعة حج المشركون مع المسلمين فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون حجه خالصاً للمسلمين ولهذا أذن في التاسعة ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان . هذا إذا ما قلنا إن الحج فرض في التاسعة وإن قلنا إنه فرض في العاشرة فلا إشكال.
2- أن ميقات أهل المدينة ذا الحليفة . لقوله ( فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة ) .
3- أن الصحابة رضي الله عنهم من أحرص الناس على طلب العلم ذكورهم وإناثهم لقوله: (فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع ) .
4- أن طلب العلم لا يختص بالرجال فكما أن الرجل يشرع له طلب العلم بل يتعين عليه إذا كانت عبادته لا تقوم إلا به فإنه يتعين عليه فكذلك المرأة ولا فرق .
5- أنه يستحب الغسل للإحرام للرجال والنساء حتى من لا تصلي فإنها تغتسل لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس : « اغتسلي » فأمرها أن تغتسل . وإذا كانت النفساء وهي لا تصلي تؤمر بالغسل فكذلك من سواها.
فإذا لم يجد المحرم الماء أو تعذر عليه استعماله لمرض أو غيره فهل يتيمم ؟
المشهور عند أهل العلم رحمهم الله أنه يتيمم قالوا لأن هذه طهارة مشروعه فإذا تعذرت عدلنا إلى التيمم كالاغتسال للواجب وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لا يسن التيمم لأن هذا اغتسال ليس عن جنابة حتى يحتاج الإنسان فيه إلى رفع الحدث إنما هو اغتسال للتنظف والتنشط لهذا العمل فإذا لم يجد الماء فإنه لا يتيمم . وعلى كل حال إن تيمم الإنسان فلا بأس لأنه قال به من قال من أهل العلم .
6- أن الحيض أو النفاس لا يمنع انعقاد الإحرام كما لا يمنع دوامه بدليل قوله : « وأحرمي » . وبناء على ذلك فإن المرأة إذا وصلت إلى الميقات وهي حائض أو أصابها حيض فلا تقل : لن أحرم حتى أطهر بل نقول : أحرمي .
7- جواز الإحرام ممن عليه جنابة. وجه ذلك أنه أمر النفساء أن تحرم والنفاس موجب للغسل.
8- أنه ينبغي التلبية إذا استوى على البيداء لقوله : ( حتى إذا استوت به على البيداء أهل بالتوحيد).وهذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله فمنهم من أخذ بحديث جابر رضي الله عنه وقال لا يلبي إلا إذا استوت به على البيداء .
ومنهم من قال : يلبي إذا صلى قبل أن يركب(79).
ومنهم من قال : بل يلبي إذا ركب كما دل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيح(80)
وللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال سلكوا منها مسلكين : فمنهم من سلك مسلك الترجيح ومنهم من سلك مسلك الجمع.

فالذين سلكوا مسلك الترجيح بعضهم رجح الإحرام من حين أن يصلي وبعضهم رجح الإحرام إذا استوى على ناقته إذا ركب وبعضهم قال : إذا استوت به على البيداء.
أما من سلك مسلك الجمع وهو المروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما رواه الحاكم وغيره فقال : إنه لا منافاة بين هذه الأمور الثلاثة لأن من الناس من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حين صلى فقال : إنه لبى حين صلى ومنهم من سمعه يلبي حين ركب فقال : لبى حين ركب ومنهم من سمعه يلبي حين استوت به على البيداء فقال : لبى حين استوت به على البيداء )(81).
ولولا ما قيل في سند هذا الحديث لكان وجهه ظاهراً , لأنه يجمع بين الروايات .
ولكن الأحسن والأرفق بالناس أن لا يلبي حتى يستوي على ناقته لأنه قد يحتاج إلى شيء فقد يكون نسي أن يتطيب مثلا وقد يتأخر في الميقات بعد أن يصلي الركعتين ( ركعتي الوضوء ) أو الصلاة المفروضة مثلا فالأرفق به أن تكون تلبيته إذا استوى على ناقته وإن لبى قبل ذلك فلا حرج.
9- أن الإنسان لا ينقل إلا ما بلغه علمه فإن جابراً رضي الله عنه لم ينقل ما نقله عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل حين استوى على ناقته بل قال حتى إذا استوت به على البيداء وهذا بعد ما ذكره عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
10- مشروعية رفع الصوت بالتلبية لقول النبي صلى الله عليه وسلم « أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال »(82) فينبغي للرجل أن يرفع صوته امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم واتباعاً لسنته وسنة أصحابه فقد قال جابر رضي الله عنه كنا نصرخ بذلك صراخاً(83) ولا يسمع صوت الملبي من حجر ولا مدر ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة فيقول : أشهد أن هذا حج ملبياً . ومع الأسف أن كثيراً من الحجاج لا يرفعون أصواتهم بالتلبية إلا نادراً فإن قال قائل : أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وقد كبروا في سفر معه « أيها الناس اربعوا على أنفسكم – أي : هونوا عليها - فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته »(84).
قلنا : لكن التلبية لها شأن خاص لأنها من شعائر الحج فيصوت بها. أو يقال إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهونوا على أنفسهم لأنهم كانوا يرفعون رفعاً شديداً يشق عليهم . وأما المرأة فتسر بها, لأن المرأة مأمورة بخفض الصوت في مجامع الرجال , فلا ترفع صوتها بذلك , كما أنها مأمورة إذا نابها شيء في الصلاة مع الرجال أن تصفق , لئلا يظهر صوتها , فصوت المرأة – وإن لم يكن عورة – يخشى منه الفتنة , ولهذا نقول : المرأة تلبي سراً بقدر ما تسمع رفيقتها ولا تعلن .
وهذا من الأحكام التي تخالف فيه المرأة الرجل . وهي كثيرة , لأنها كما خالفته خلقة وفطرة خالفته حكماً , والله عز وجل – حكيم , أحكامه الشرعية مناسبة لأحكامه القدرية .
مسألة : اختلف العلماء – رحمهم الله – هل يلبي وهو ماكث أو لا يلبي إلا وهو سائر ؟
الجواب : من العلماء من قال إنه يلبي وهو سائر فقط . وأما إذا كان ماكثاً أي : نازلاً في عرفات أو مزدلفة أو منى فإنه لا يلبي , لأن التلبية معناها الإجابة وهي لا تتناسب مع المكث , إذ إن المجيب ينبغي أن يتقدم إلى من يجيبه لا أن يجيب وهو باق , وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأنه لا يلبي إلا في حال السير بين المشاعر , ومنهم من: يقول يلبي حتى يرمي جمرة العقبة , سواءً كان ماكثاً أم سائراً .
11- مشروعية رفع الصوت بالتلبية من حين الإحرام . وقد اختلف أهل العلم رحمهم الله في التلبية ورفع الصوت بها جمهور العلماء إلى أنها سنة . وقال بعض العلماء إنها أي التلبية واجبة ؛ وهل يجب بتركها دم على قولين وقال آخرون إنها ركن لا ينعقد الإحرام إلا بها كتكبيرة الإحرام في الصلاة . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ينعقد بالنية مع التلبية أو سوق الهدي وهو قول الإمام أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد وقال ابن حزم إن التلبية ورفع الصوت بها فرض فمن لم يلب في شيء من حجه أو عمرته أو لبى ولم يرفع صوته فلا حج له ولا عمرة .
12- مشروعية تعيين النسك في التلبية فإذا كان في العمرة يقول : لبيك اللهم عمرة , وفي الحج يقول : لبيك اللهم حجاً , وفي القران يقول : لبيك اللهم عمرة وحجاً .
13- أنه ينبغي للإنسان أن يستحضر أنه في مجيئه إلى مكة وإحرامه أنه إنما يفعل ذلك تلبية لدعـاء الله قال الله تعالى ) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ((85) فالأذان بأمر الله يعتبر أذاناً من الله فإذا كان الله هو الذي أذن فأنا أجيبه وأقول : لبيك اللهم لبيك ….. الخ .
14- أن التلبية توحيد خالص لأن الإنسان يقول لبيك اللهم لبيك , ولبيك هذه جواب . جواب دعوة ولهذا إذا دعي أحدنا فقيل يا فلان قال للداعي لبيك وهي بصيغة التثنية ولكن المراد التكرار ومن ثم يقول النحويون إنها ملحقة بالمثنى لأن لفظها لفظ تثنيه ومعناها التكثير . والتلبية هي الإجابة فكأنك تقول يا رب إجابة لك بعد إجابة . وتكرر توكيداً .
15- الثناء على الله عز وجل بالحمد والنعمة فإنه هو المتفضل عز وجل بذلك ) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ (.
16- انفراد الله بالملك لقوله (لك والملك لا شريك لك ).
17- جواز الزيادة على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم كان يسمعهم يزيدون ولا ينكر عليهم . وممن زاد في التلبية عمر وابنه رضي الله عنهما لبيك وسعديك والرغباء إليك والعمل , وكما قال أنس رضي الله عنه منا المهل ومنا المكبر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمعهم ولا يرد عليهم شيئا . لكن لزوم تلبية النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأتم في التأسي.
18- أن الناس كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحج بل إن العرب في الجاهلية يرونها من أفجر الفجور ويقولون لا يمكن أن تأتي إلى مكة بعمرة وحج بل لا بد أن تأتي بعمرة في سفر وحج في سفر وهم ينظرون إلى ذلك من ناحية اقتصادية حتى يكثر الزوار والحجاج وتكون الأسواق أكثر اشتغالا.
19- أنه ينبغي للإنسان الحاج أو المعتمر أن يبادر حين الوصول إلى مكة إلى الذهاب إلى المسجد ليطوف لأن هذا هو المقصود ولا ينبغي أن يجعل غير المقصود مقدماً بل المقصود ينبغي أن يكون مقدماً على كل شيء .
20 – حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم ليتبعوه فيها .
21 – مشروعية البداءة في الطواف بالحجر الأسود فإن بدأ بدونه مما يلي الباب لم يعتد بالشوط.
22 – مشروعية استلام الحجر الأسود عند ابتداء الطواف لقوله (حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن) .
23 – مشروعية تقبيل الحجر الأسود في الطواف . وأما تقبيل غيره من الجمادات والأحجار فبدعة .
24 – مشروعية استلام الحجر الأسود والركن اليماني في الطواف بالبيت . ولا يشرع استلام غيرهما من أركان الكعبة أو جدرانها سوى هذين الركنين .
25 – أن السنة كما تكون بالفعل تكون كذلك بالترك فإذا وجد سبب الفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله دل هذا على أن السنة تركه .
26 – مشروعية الأضطباع في جميع الطواف وهل يبقى مضطبعاً بعد الطواف أو لا ؟ الصحيح أنه لا يبقى مضطبعاً . وأن الإنسان يستر منكبه من حين أن يفرغ من طوافه .
وقال بعض العلماء رحمهم الله : بل إنه يبقى مضطبعاً في السعي . ولكن الصحيح الأول .
27 – مشروعية الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى من طواف القدوم دون الأربعة الباقية .
فإن قلت : ما الحكمة من الرمل في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى دون الأربعة الباقية ؟
فالجواب : أن الحكمة في ذلك تذكير المؤمنين بأصل هذا الرمل لأن أصله أن النبي صلى الله عليه وسلم قاضى أهل مكة في غزوة الحديبية على أن يرجع من العام القادم معتمرا . وأهل مكة أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والعدو يحب الشماتة بعدوه فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم للعمرة قال بعضهم لبعض دعونا نجلس هنا ننظر إلى هؤلاء القوم الذين وهنتهم حمى يثرب كيف يطوفون . لأن عندهم أن هؤلاء قوم أصابهم المرض وأنهك قواهم يريدون بذلك الشماتة وجلسوا في شمالي الكعبة من جهة الشمال وهم ينظرون فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ليظهروا الجلد والقوة والنشاط ليغيظوا الكفار وإغاظة الكفار أمر مقصود لله عز وجل كما قال تعالى :) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ((86) وقال تعالى :) وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ((87) أراد النبي صلى الله عليه وسلم من قومه أن يغيظوا الكفار لكنه أمرهم أن

يرملوا من الحجر إلى الركن اليماني دون ما بين الركنين لأنهم بين الركنين يختفون عن المشركين وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرفق بأصحابه ولهذا جعل الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى لأن الثلاثة أقل من الأربعة فاعتبر الأقل في جانب الصعوبة ثم إن اختيار الثلاثة دون الأربعة فيه القطع على وتر والله سبحانه وتعالى إذا تأملنا مشروعاته وجدنا غالبها مقطوعاً على وتر . ففي كون الرمل خاصاً بالأشواط الثلاثة الأولى فائدتان :
الأولى : اعتبار الأخف في باب المشقة .
الثانية : القطع على وتر .
أما في حجة الوداع فقد رمل النبي صلى الله عليه وسلم في الأشواط الثلاثة كلها من الحجر إلى الحجر لأن العلة التي من أجلها شرع الحكم وهو إغاظة الكفار الذين كانوا يشاهدون قد انقطعت فصار الرمل من الحجر إلى الحجر عبادة محضة ولم يكن القصد منه الإغاظة لأن الإغاظة انتهت.
ولكن هل الطائف يذكر في هذه الحال حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قدموا في عمرة القضاء أو يذكر المعنى الأصلي المقصود وهو إغاظة الكفار أو الأمرين ؟
إذا تذكر الأمرين فهو خير، يعني يتذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوا ذلك فيقتدي بهم ولا سيما فعله في حجة الوداع وأيضا يذكر أن من شأن المسلم أن يفعل ما يغيظ الكفار
28 – مشروعية الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى من الحجر إلى الحجر لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وأن السنة المشي في الأربعة الباقية. فإن قال قائل: إذا دار الأمر بين أن أرمل مع البعد عن الكعبة وبين أن أمشي مع القرب فأيهما أقدم ؟
الجواب: قدم الأول فارمل ولو بعدت عن الكعبة ( لأن مراعاة الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أولى من مراعاة الفضيلة المتعلقة بزمانها أو مكانها ) وهذه القاعدة لها أمثلة :
مثال ذلك : لو أن رجلاً حين دخل عليه وقت الصلاة وهو حاقن أو بحضرة طعام فهل الأولى أن يقضي حاجته ويأكل طعامه ولو أدى ذلك إلى تأخير الصلاة عن أول وقتها ؟ أو العكس ؟
الجواب: الأول فهنا راعينا نفس العبادة دون أول الوقت لأنه إذا صلى فارغ القلب مقبلاً على صلاته كانت الصلاة أكمل.
مثال آخر : لو أن شخصاً أراد أن يصلي في الصف الأول وحوله ضوضاء وتشويش أو حوله رجل له رائحة كريهة تشغله فهل الأولى أن يتجنب الضوضاء والرائحة الكريهة ولو أدى ذلك إلى ترك الصف الأول ؟ أو أن يصف في الصف الأول مع وجود التشويش أو الرائحة الكريهة ؟
فالجواب : لاشك أن الأولى تجنب التشويش وترك الصف الأول لأن هذا يتعلق بذات العبادة.
29 – أن الطواف بالبيت سبعة أشواط كاملة . فلو نقص خطوة واحدة من أوله أو آخره لم يصح . كما لو نقص شيئاً من الصلاة فإنها لا تصح .
30 – أنه تسن الصلاة خلف المقام بعد الطواف ومعلوم أن الركعتين خلف المقام قريباً منه أفضل من كونها بعيداً عنه أو ليست خلفه . لكن إذا لم يتيسر للإنسان أن يصلي خلف المقام قريباً منه فليصل خلف المقام بعيداً منه فإن لم يتيسر فليصل في أي مكان من المسجد لأن المطلوب منه شيئان : الأول: الصلاة والثاني : كونها خلف المقام .
فإن تعذر المكان بقيت مشروعية الصلاة وليس من شرط الصلاة أن تكون خلف المقام حتى نقول إذا تعذر خلف المقام سقطت الصلاة .
31 – أنه ينبغي للإنسان بعد أن يصلي الركعتين أن يرجع إلى الركن فيستلمه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم .
ولكن هل هذا مشروط بما إذا أراد السعي بعد الطواف ؟
الجواب : نعم هذا في الطواف الذي يكون بعده سعي ينبغي أن يتقدم إلى الركن بعد الركعتين فيستلمه أما الطواف الذي ليس بعده سعي كطواف الوداع مثلا وطواف الإفاضة لمن سعى بعد طواف القدوم فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجع إلى الركن فاستلمه .
32 – أنه ينبغي المبادرة بالسعي بعد الطواف بدون تأخير وهذا على سبيل الأفضلية وليس على سبيل الوجوب ولهذا قال العلماء رحمهم الله : إن الموالاة بين الطواف والسعي سنة وليست بشرط فلو طاف في أول النهار وسعى في آخره فلا بأس لكن الأفضل الموالاة .
33 – أنه ينبغي أن يخرج من باب الصفا لأنه أيسر، ولو كان المسجد الحرام فيما سبق له أبواب دون المسعى يخرج منه الناس وأما الآن فيتجه إلى جهة الصفا .
34 – أنه ينبغي إذا دنا من الصفا أن يتلو الآية ) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ((88) اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وليشعر نفسه أنه إنما سعى لأنه من شعائر الله وتعظيماً لشعائر الله عز وجل وحرماته .
35 – أنه ينبغي أن يقول : أبدأ بما بدأ الله به ليتحقق بذلك الامتثال . ولا يقال هذا الذكر إلا إذا أقبل على الصفا من بعد الطواف فلا يقال بعد ذلك لا عند المروة ولا عند الصفا في المرة الثانية لأنه ليس ذكرا يختص بالصعود وإنما هو ذكر يبين أن ابتداء الإنسان من الصفا إنما هو لتقديم الله له .
36 – أن ما بدأ الله به فهو أولى بالتقديم ولهذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالصفا لأن الله بدأ به.
37 – أنه ينبغي صعود الصفا حتى يرى البيت فيستقبله وهو واضح من قوله : «فرقي الصفا حتى رأى البيت » .
38 – أنه ينبغي في هذه الحال أن يوحد الله ويكبره ويقول الذكر ويدعو بين الأذكار التي يقولها ثلاث مرات وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ رفع يديه رفع دعاء وليس رفع إشارة كما يفعل في الصلاة .
39 – أن السنة أن يمشي ما بين الصفا إلى طرف الوادي الشرقي ثم يسعى من طرف الوادي الشرقي إلى طرفه الشمالي ثم يمشي إلى المروة .
40 – أن الإسراع في كل المسعي ليس بمشروع .
41 – أنه ينبغي الإسراع في بطن الوادي لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وبطن الوادي الآن جعل له علم منصوب ( عمود أخضر ) فإذا وصلته فابدأ بالإسراع .
42 – أنه ينبغي لك وأنت تسعى أن تستشعر بأنك في ضرورة إلى رحمة الله عز وجل كما كانت أم إسماعيل رضي الله عنها في ضرورة إلى رحمة الله سبحانه وتعالى فكأنك تستغيث به تبارك وتعالى من آثار الذنوب وأوصابها .
43 – أن الإسراع في السعي مشروع في كل الأشواط السبعة لأن جابراً رضي الله عنه لم يستثن شيئاً منه بخلاف الرمل في الطواف فمشروع في الثلاثة الأولى .
وفرق آخر هو أن الإسراع في السعي في جزء منه والرمل في الطواف في جميع الأشواط الثلاثة فهذان فرقان .
الفرق الثالث : أن الإسراع في السعي أشد من الرمل في الطواف لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسرع جداً بخلاف الطواف فإنه يرمل والرمل إسراع المشي دون الخبب يعني : دون الركض الشديد .
44 – أن اختتام الأشواط السبعة يكون بالمروة. وعند الاختتام هل يقف ويدعو ؟
الجواب : لا ؛ لأن الدعاء والذكر إنما هو في ابتداء الشوط وليس في انتهائه فإذا انتهى من المروة فلينصرف ولا يقف للدعاء , كما قلنا في الطواف فإن التكبير يكون عند ابتداء الشوط لا عند انتهائه.
45 – أن الأيدي لا ترفع حال الذكر والدعاء لا في السعي ولا في الطواف لأن الذين وصفوا طواف النبي صلى الله عليه وسلم ودعاءه فيه ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) لم يذكروا رفع اليدين وكونهم يذكرون رفع اليدين على الصفا وعلى المروة يدل على أن ما عدا ذلك ليس فيه رفع .
46 – جواز قول (لو) إذا كان لقصد الإخبار لقوله ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ) .
47 - حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى الحق.
48 – مشروعية فسخ نية الحج إلى عمرة ليصير متمتعاً إلا أن يسوق الهدي .
49 – أن من فسخ نية الحج إلى عمرة ليصير متمتعاً فإنه يتحلل بالعمرة تحللاً كاملاً .
فإن قلت : هل يجوز أن يفسخ الإنسان الحج إلى عمرة ليتحلل منها وينصرف إلى أهله .
فالجواب : لا . لأنه إنما أمر بفسخ الحج إلى عمرة ليصير متمتعاً . والمتمتع أفضل ولم يرخص له أن يفسخ الحج إلى عمرة ليتحلل عن قرب ويرجع إلى أهله .
50- أن الحج يمتاز عن غيره من العبادات بجواز تغيير النية فيه . فنجد الرجل يحرم بالحج ثم يقلبه إلى عمرة ليصير متمتعاً ويصح ويحرم بالعمرة أولاً ثم يضيق عليه الوقت فيدخل الحج عليها ليصير قارناً ويصح .
كما أن الحج يخالف غيره في النية بأنه لو نوى الخروج منه لم يخرج منه بينما العبادات الأخرى يخرج منها . وإذا فعل محرماً في العبادات الأخرى تبطل العبادة كما لو أكل أو شرب في الصلاة أو تكلم فيها . لكن في الحج , المحظورات فيه لا تبطله إلا الجماع قبل التحلل الأول يفسده ويجب المضي فيه وقضاؤه من السنة الأخرى بخلاف غيره من العبادات .
51 - أن التمتع أفضل الأنساك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به من لم يسق الهدي ولأنه أكثر عملاً لأنه يأتي بأفعال العمرة كاملة وأفعال الحج كاملة ولأنه أيسر لمن قدم مكة في وقت مبكر حيث يتمتع بالحل فيما بين العمرة والحج . إلا لمن ساق الهدي فالقران أفضل لتعذر التمتع في حقه فالتمتع في حق من ساق الهدي لا يمكن لأنه لا يمكن أن يحل .
ولكن هل الأفضل أن يسوق الهدي ويقرن أو الأفضل أن لا يسوق الهدي ويتمتع ؟
في هذا خلاف بين العلماء رحمهم الله منهم من قال الأفضل أن لا يسوق الهدي ويتمتع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم .
ومنهم من قال سوق الهدي والقران أفضل لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه أظهر في إظهار الشعائر . لأن الإنسان يأتي بالهدي معه يسوقه وهذا لا شك أن فيه من إظهار الشعائر ما ليس فيمن لم يسق الهدي . وأجابوا عن قوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت أنه قال ذلك من أجل أن يطيب قلوب أصحابه وأنه يقول لو علمت بأن الأمر سيبلغ منكم ما بلغ حتى يشق عليكم هذه المشقة ما سقت الهدي ولأحللت معكم . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك الاختيار مراعاة لأصحابه كما ترك الجهاد عليه الصلاة والسلام في كل سرية مراعاة لأصحابه الذين لا يستطيعون أن يصاحبوه في كل سرية وليس عنده ما يحملهم عليه . وكما ترك الصيام مراعاة لأصحابه فقالوا إن قوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لهذا المعنى .
وعندي أن الأقرب في هذا التفصيل فإن كانت السنة في سوق الهدي مندثرة فالقران أفضل وإلا فالتمتع أفضل .
52 – أن من ساق الهدي ليس له إلا القران .
53 – أنه لا يشترط لسوق الهدي أن يكون من بلده .
54 – أن التعليم يكون بالقول وبالفعل لقوله :« فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال:« دخلت العمرة في الحج »» وأخذ منه بعض المعاصرين التعليم على السبورة لأن السبورة ترسم للإنسان العلم. والعلم إذا رسم للإنسان يكون أدعى لثباته في النفس إذ الإنسان لا يزال يستحضر هذه الصورة فتبقى في ذهنه .
55 – أنه ينبغي للمحلين بمكة أن يدفعوا إلى منى في اليوم الثامن محرمين بالحج لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه دفعوا إليها ولا ينبغي أن يدفع إليها قبل اليوم الثامن على طريق التنسك والعبادة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يدفعوا قبل اليوم الثامن .
56 – أن أعمال الحج تبتدئ من ضحى اليوم الثامن ويتفرع على ذلك ثلاث فوائد :
57 – منها أنه فيما نرى لا يشرع التمتع لمن قدم مكة بعد أوان أعمال الحج فمثلا لو جئت بعد الظهر في اليوم الثامن فليس هناك تمتع لأن الله يقول : ) فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ((89) فمنتهى التمتع الحج وأفعال الحج تبتدئ باليوم الثامن إذاً فلا حاجة للتمتع ونقول : إن شروعك في الحج ودخولك فيه في هذه الحال أفضل من العمرة فإما أن تفرد وإما أن تقرن أما التمتع فقد زال وقته الآن.
58 – ومنها أنه لا يشرع لمن أراد الإحرام يوم التروية أن يذهب إلى البيت أي المسجد الحرام ويحرم من المسجد بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك والترك مع وجود السبب سنة يعني إذا وجد سبب الشيء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفعل كانت السنة تركه وهذا سببه موجود ولم يذهب واحد من الصحابة ليحرم من المسجد فدل ذلك على أن السنة أن يحرموا من أماكنهم التي هم نازلون فيها.
59 – ومنها أنه ينبغي أن تكون صلاة الظهر يوم التروية في منى هذا هو الأفضل ويتفرع على ذلك ثلاث فوائد :
60 – منها أنه يتبين حرمان قوم من الناس يريدون الحج ويبقون في أماكنهم فإذا كان بعد العصر أحرموا بالحج وخرجوا إلى منى نقول هذا وإن كان جائزاً لكن الإنسان حرم نفسه لأن بقاءه في منى في ذلك اليوم أفضل من بقائه في المسجد الحرام وغيره.
ولهذا لما كان يوم التروية هذا العام يوم الجمعة صار كثير من الحجاج يتساءلون هل الأفضل أن نصلي الجمعة في المسجد الحرام ثم نخرج إلى منى أو الأفضل أن نخرج إلى منى في الصباح في الضحى ونصلي الظهر في منى ؟
والجواب : الثاني أفضل لأن بقاءك في منى عبادة وأنت ما جئت من بلادك إلا لأجل هذه العبادة.
61 – ومنها أن الصلاة في منى لا تجمع لأن جابراً رضي الله عنه لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع فدل هذا على أنه صلاها على الأصل أي بدون جمع .
وهل يستفاد من حديث جابر رضي الله عنه أن الصلاة في منى تقصر؟
الـجواب : لا يستفاد لكن نستفيده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه(90).
62 – ومنها أنه ينبغي المكث في منى حتى تطلع الشمس ولا يسن الدفع قبل طلوع الشمس لقوله : « ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس » وهو كذلك فإن دفع بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس فلا إثم عليه لكن الأفضل أن يتأخر .
63 – قوة النبي صلى الله عليه وسلم في دين الله حيث لم يتبع قومه في الوقوف في مزدلفة بل أجاز حتى أتى عرفة .
64 – أن الدين شَرْع وتوقيف وليس عادة ؛ دليله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتبع العادة في ذلك بل اتبع ما اقتضته شريعة الله سبحانه وتعالى.
65 – أن نمرة من عرفة بناء على أحد القولين ويتفرع على ذلك فائدتان :
66 – منها أنه لو وقف أحد بنمرة بعد زوال الشمس ولم يدفع إلا بعد الغروب أجزأه الحج ولم أر من صرح به مع أن هذا هو مقتضى هذا القول ولازمه . أما إذا قلنا إن نمرة ليست من عرفة وهو الصحيح كما قلنا فالأمر فيها واضح أنه من وقف فيها لا يجزئه ولا حج له .
67 – أنه ينبغي أن ينزل الحاج بنمرة قبل الوقوف بعرفة والدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم فلو قال قائل : أفلا يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نزل بها من باب السهولة لأنه أسمح لوقوفه حتى يستريح ويستعد للوقوف كما قالت عائشة رضي الله عنها في نزوله في المحصب (91) بعد الحج؟
قلنا : الأصل التعبد في جميع أفعال الحج إلا ما قام الدليل على أنه ليس من باب التعبد وأيضا فيمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستريح إذا نزل في عرفة .
68 – جواز استخدام الإنسان غيره لا سيما إذا كان كبيراً أو ذا سلطة والدليل : « أمر بالقصواء فرحلت له » فإن قوله أمر ... فرحلت يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ما باشر ترحيلها وإنما أمر فرحلت له , وهذا لا ينافي نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الناس شيئاً لأن هناك فرقاً بين أن تسأل شخصاً شيئاً ويرى أن له منّة عليك وبين أن تسأل شخصاً شيئاً ويرى أن المنّة منك عليه وما يجري من النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الباب كل يفرح أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره ثم هو زعيم أمته عليه الصلاة والسلام فيأمر على وجه السلطة وعلى وجه الإمرة.
69– إعلان الأحكام الشرعية عن طريق الخطابة . والخطابة أحد المجالات التي بها تنشر الدعوة فإن الدعوة تنشر بطرق متعددة منها الخطابة والكتابة والمشافهة وغير ذلك .
70 – حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ أمته فإنه كان لا يخفي تبليغ الأحكام بل يعلنها إعلاناً بواسطة الخطابة .
71 – استحباب الخطبة يوم عرفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فيستحب أن يخطب الإمام أو نائبه الناس يوم عرفة ويستحب أن يحرص على الأقوال التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الخطبة ليقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في أصل الخطبة وفي موضوعها وكلماتها.
72 – أن الخطبة يوم عرفة قبل الأذان لقوله:« ثم أذن ثم أقام » .
73 – أن الربا موضوع كله ولا يؤخذ مهما كان فالربا الثابت في ذمم الناس يجب وضعه ولا يجوز أخذه حتى وإن عقد قبل إسلام العاقد أو قبل جهله . أما ما قبض من قبل من ربا وأكل وأتى الإنسان موعظة من الله فلا يلزمه تقويمه والتخلص منه لكن ما بقي في ذمم الناس فإنه لا تتم التوبة منه إلا إذا تركه ولم يقبضه.
74 – بيان عدل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر من قوله « وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع »فأول ما قضى عليه من أمر الجاهلية ما كان يتصل بأقاربه وهذا كما قال في الحديث الصحيح « وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها »(92) وهكذا يجب على الإنسان أن يكون قائما لله بالعدل لا يفرق بين قريب وبعيد أو غني وفقير أو قوي وضعيف . الناس في حكم الله واحـد لا يتميز أحد منهم بشيء إلا بما ميزه الله به .
75 – وفيه الإشارة إلى أن الذي يتولى طلب الرزق وحصول الكسوة هو الرجل لقوله ( ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) . أما المرأة فشأنها أن تبقى في بيتها لإصلاح حالها وحال زوجها وحال أولادها وهذا ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم .
76 – أن القرآن عصمة ؛ إذا اعتصم به الإنسان عصم من الضلال في الدنيا والشقاء في الآخرة كما قال تعالى :) فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى((93) أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
77 – وفيه الحث على الاعتصام بكتاب الله والرجوع إليه وأن به العصمة من كل سوء فإن قال قائل : ما تقولون في السنة التي لم تكن موجودة في القرآن بعينها ؟
قلنا : كل سنة سنها الرسول صلى الله عليه وسلم فهي موجودة في القرآن قال تعالى :) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ((94) وقـال تعالى : ) وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ((95) وقال تعالى :) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ((96) وقال تعالى :) النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ ((97) فكل سنة سنها الرسول صلى الله عليه وسلم فهي من القرآن لكن ليس من اللازم أن ينص عليها بعينها .
78 – اعتراف الصحابة رضي الله عنهم بالجميل للنبي صلى الله عليه وسلم لقوله « نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت » وهذه الشهادة التي شهدها الصحابة رضي الله عنهم يجب على كل مؤمن أن يشهدها فنحن نشهد أنه قد بلغ وأدى ونصح عليه الصلاة والسلام .
79 – استشهاد الله تعالى على العباد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ.
80 - إثبات علو الله عز وجل . وجه الدلالة الإشارة إلى السماء وعلو الله الـذاتي قد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة .
81 – جواز الإشارة إلى مكان الله عز وجل وهو في السماء ولكن هل هذا المكان محيط به ؟
الجواب: لا . بل وسع كرسيه السموات والأرض ، فهو سبحانه وتعالى فوق سماواته ، على عرشه ، عليٌّ على خلقه بذاته وصفاته ، لقوله تعالى : ) وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ((98).
82 – إثبات علم الله عز وجل وسمعه وبصره حيث كان يرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكتها إلى الناس.
83 – تكرار الأمر الهام ثلاث مرات حتى وإن كان المخاطب قد سمع فإنه يكرر لا من أجل إفهام المخاطب ولكن من أجل الاهتمام بهذا الشيء .
84 – أنه لا يشرع للمسافر أن يصلي راتبة الظهر لقوله : « ولم يصل بينهما شيئا » .
85 – أن الصلاتين المجموعتين المشروع فيهما أن تكونا متواليتين لقوله : « ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا » والموالاة بين المجموعتين إذا كان الجمع جمع تقديم شرط عند أكثر الفقهاء رحمهم الله إلا أنه لا بأس أن يفصل بوضوء خفيف أو استراحة قصيرة ثم يستأنف الصلاة ثانية أما إذا كان الجمع جمع تأخير فالموالاة ليست بشرط .
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية (99) رحمه الله إلى أن الموالاة بين المجموعتين ليست بشرط لا في جمع التقديم ولا في جمع التـأخير وقال : يجوز في جمع التقديم أن يصلي الظهر مثلاً ثم يتوضأ أو يستريح أو يتغدى ونحوه ثم يصلي العصر وقال : إن الجمع هو من باب ضم الصلاة إلى الأخرى في الوقت لا في الفعل فإذا جاز الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً وليس معنى الجمع ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى بالفعل بل ضمها إلى الأخرى بالوقت وعلى هذا فلا تشترط الموالاة في جمع التقديم كما لا تشترط في جمع التأخير ولكن لا شك أن الموالاة بينهما مشروعة كما دل عليه هذا الحديث .
86 – استحباب الوقوف للإمام في موقف النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عند الصخرات خلف جبل عرفة لقوله « ثم ركب حتى أتى الموقف » وأما غير الإمام فإنهم يقفون في أماكنهم لقـول النبي صلى الله عليه وسلم:« وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف »(100) ولأن الأصل الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في كيفية العبادة وزمانها ومكانها وجه ذلك : أن نبه على أن وقوفه في هذه الأماكن لا يسن فيه الأسوة أو لا تجب فيه الأسوة لقوله ( وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف ) وكذلك يقال في مزدلفة .
87 – بيان تيسير النبي صلى الله عليه وسلم على أمته حيث لم يلزمهم بل ولم يندبهم إلى أن يتحروا مكان وقوفه ونحره لا في عرفة ومزدلفة ولا في منى .
88 – أنه لا يشرع صعود الجبل ولا الصلاة فيه ولا الصلاة عنده لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك والأصل في العبادات التوقيف حتى يقوم دليل على مشروعيتها .
وبه نعرف ضلال كثير من الناس الذين يقصدون الجبل ويصعدون عليه ويصلون وربما يضعون الحجارة بعضها على بعض لتكون علماً وربما يعلقون الخرق ويكتبون الأوراق لإثبات أنهم بلغوا هذا المكان وكل هذا من البدع والواجب على طلبة العلم أن ينبهوا الناس على ذلك وأن يبينوا أنهم إلى الوزر أقرب منهم إلى الأجر في مثل هذه الأعمال .
89 – أن الركوب في الوقوف بعرفة أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف راكباً وقال : « خذوا عني مناسككم »(101).
وقال بعض العلماء رحمهم الله : بل الوقوف على غير الراحلة أفضل .
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية (102) رحمه الله التفصيل في ذلك وقال : إنه يختلف باختلاف الحاج وما ذهب إليه هو الصحيح فإذا كان الإنسان يحتاج إلى أن يكون راكباً ليراه الناس ويسألوه وينتفعوا بعلمه وقف راكباً أفضل وكذلك إن كان أخشع له وأحضر لقلبه فيقف راكباً أفضل وإذا كان الأمر بالعكس صار الحكم بالعكس أيضا فهو يختلف باختلاف أحوال الناس.
90 – مشروعية استقبال القبلة حال الدعاء يوم عرفة ورفع اليـدين والإكثار من الدعاء ومـن الذكر لقول النبي صلى الله عليه وسلم « خير الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قـلت أنا والنبيون من قبلي:لا إله إلا الله وحـده لا شريك له, له الملـك وله الحمد وهو على كل شيء قدير »(103)، وينبغي له أن يحرص على الأذكار والأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنها من أجمع الأدعية وأنفعها فيقول :
اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول ، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وإليك رب مآبي ولك رب تراثي .
اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر .
اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح .
اللهم إنك تسمع كلامي ، وترى مكاني ، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيءٌ من أمري ، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنوبي ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء من خضعت لك رقبته وفاضت لك عيناه ، وذل لك جسده ، ورغم لك أنفه .
اللهم لا تجعلني بدعائك ربي شقيا ، وكن بي رؤوفاً رحيماً يا خير المسؤولين ويا خير المعطين .
اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً .
اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري ، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل ، وشر ما يلج في النهار ، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق الدهر .
اللهم ربـنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم . اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ومن درك الشقاء ومن سوء القضاء ، ومن شماتة الأعداء .
اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل ، والجبن والبخل ، وضلع الدين وغلبة الرجال ، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا .
اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم ، ومن شر فتنة الغنى , وأعوذ بك من فتنة الفقر .
اللهم غسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد ، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس ، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب .
فالدعاء يوم عرفة خير الدعاء .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : « خير الدعاء دعاء يوم عرفة » . كما في الحديث السابق . وإذا لم يحط بالأدعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعا بما يعرف من الأدعية المباحة .
فإن قال قائل: الوقت طويل لا سيما في أيام الصيف وربما يلحق الإنسان ملل , لأنه لو بقي يدعو من بعد صلاة الظهر والعصر المجموعة إليها إلى الغروب لحقه ملل . فهل اشتغاله بغير الدعاء والذكر مما هو مباح جائز ؟
الجواب: نعم وربما يكون مطلوباً إذا كان وسيلة للنشاط والإنسان بشر يلحقه الملل , فلا حرج أن يستريح إما بنوم أو بقراءة قرآن أو بمذاكرة مع إخوانه أو بمدارسة القرآن أو في أحاديث تتعلق بالرحمة والرجاء والبعث والنشور وأحوال الآخرة حتى يلين ويرق قلبه والإنسان طبيب نفسه في هذا المكان , لكن ينبغي أن يغتنم آخر النهار بالدعاء ويتفرغ له تفرغاً كاملاً .
91 – وجوب الوقوف بعرفة حتى تغرب الشمس لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف حتى غربت الشمس وقال : « لتأخذوا عني مناسككم » (104) ولأن الدفع قبل غروب الشمس مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وموافقة لهدي المشركين لأن المشركين كانوا ينتظرون فإذا قربت الشمس إلى الغروب دفعوا من عرفة فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم. ولأن في ذلك نقصاً في الوقوف الذي هو الركن ومعلوم أن الأركان أفضل من الواجبات والواجبات أفضل من السنن لأنه كلما تأكدت العبادة كانت أفضل لقوله تعالى في الحديث القدسي « وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه »(105) .
ويدل أيضاً على أن ذلك للوجوب تأخر النبي صلى الله عليه وسلم حتى تغرب الشمس لأنه لو دفع قبل أن تغرب لكان أيسر فلما عدل عن ذلك إلى البقاء حتى غربت الشمس دل على أن الدفع قبل هذا محرم ولو كان جائزاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أيسر.
92 – أنه ينبغي لإمام الناس أو من ينيبه أن يحث الناس على السكينة فرجال المرور مثلاً ينوبون مناب الإمام في تدبير الناس وتنظيم السير والأمر بالسكينة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نظم السير في قوله : « السكينة السكينة » فإن هذا نوع من تنظيم السير.
93 – أنه ينبغي للإمام بل يجب على الإمام أن يكون أول من يبادر إلى ما يأمر به ودليله أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع وقد شنق للقصواء الزمام وما كان ليقول للناس السكينة السكينة وهو تاركها تمشي بسرعة، بل هو أول من يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام وهكذا الإمام الذي يقتدي به سواء كان إماماً في التنفيذ أو إماماً في العلم فإنه يجب عليه أن يتحرى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه يقتدى به فأي فعل يفعله سوف يقتدى به الناس، والناس في هذا المقام بالنسبة إلى القدوة بين أمرين بين محتج بفعله على ما يهواه وبين محتج عليه بمخالفته وبينهما فرق فالإنسان الذي له هوى ولا يريد اتباع السنة يحتج بتقصير القدوة على تقصيره فيقول مثلاً : هذا فلان لا يفعل هذا وهذا فلان فعل هذا مثلا والإنسان الذي يريد من المقتدى به أن يتبع السنة يحتج بفعله وتهاونه بالسنة عليه ولا يحتج بفعله على ما يفعله هذا المتكاسل فهذا أمر ينبغي لطلبة العلم أن يتفطنوا له لأن طالب العلم يقتدى به ويؤخذ عليه ما لا يؤخذ على غيره ليس كعامة الناس ولهذا كثير ما تأمر الناس بشيء ثم يقولون لك فلان يفعله من طلبة العلم يحتج بفعله حتى وإن كان هذا الرجل قد تبين له أن الحق بخلافه، لكن يريد أن يدافع عن نفسه ولو بالباطل كما هو ظاهر .
94 – حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لما استرعاه الله حتى في البهائم ؛ وجه ذلك أنه كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لناقته قليلاً فإن هذا من حسن رعايته لها ورأفته بها صلى الله عليه وسلم فرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الرعاية في البشر حيث يقول السكينة السكينة وأحسن الرعاية في البهيمة حيث يرخي لها قليلاً حتى تصعد إذا أتى حبلاً من الحبال .
95 – أن المشروع للحاج أن لا يصلى المغرب والعشاء إلا في مزدلفة . لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر ذلك إلى مزدلفة ووجه هذا : أن المشروع في حق المسافر إذا جد به السير ألا يقف فيقطع سيره . ولهذا كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى العصر . وإن ارتحل بعد أن تزيغ الشمس قدم العصر إلى الظهر حتى يكون سيره مستمرا متواصلا .
نقول : هذا هو السنة حتى لو تأخر الإنسان . إلا إذا تأخر حتى انتصف الليل فإنه يجب عليه أن يصلي صلاة العشاء قبل منتصف الليل وصلاة المغرب أيضاً وذلك لأن منتهى صلاة العشاء نصف الليل فلا يجوز أن يؤخرها إلى ما بعد نصف الليل .
فإن قال قائل : افرض أنني حبست في سير السيارات ولم أستطع الرجوع ولا التقدم ولا الخروج يمينا أو شمالا ؟
نقول : من أمكنه أن ينزل من الركاب فلينزل ويصلي يميناً أو شمالاً قبل أن يخرج الوقت , ومن لم يمكنه فليصل ولو على ظهر السيارة ويأتي بما يستطيع من الواجبات على حسب حاله . ولا يجوز أن يؤخر الصلاة إلى ما بعد نصف الليل ، لأن القول الراجح أنه لا وقت للعشاء بعد منتصف الليل .
96 – أن الجمع يكون جمع تأخير لأن النبي صلى الله عليه وسلم جَمَعَ جَمْعَ تأخير ولكن هل هذا مراد ؟ أو لأن سير النبي صلى الله عليه وسلم كان متواصلاً إلى أن دخل وقت العشاء ؟

الذي يظهر الثاني ، لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وبناء على ذلك لو أن الإنسان وقف في أثناء الطريق وصلى فإن القول الذي عليه جمهور أهل العلم أن صلاته صحيحة خلافاً لبعض الظاهرية كابن حزم (106) رحمه الله حيث قال : لا تصح صلاة المغرب والعشاء في ليلة مزدلفة إلا بمزدلفة ، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه ، لما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله ، الصلاة ؟ قال : « الصلاة أمامك » (107) .
ولكن رأي الجمهور هو الصحيح .
فإن وصل في وقت صلاة المغرب فما المشروع في حقه ؟
قيل : المشروع أن يؤخر أيضاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة .
وقيل : المشروع أن يقدم الجمع بين الصلاتين لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى من حين وصل إلى مزدلفة , وكون الجمع يكون تأخيراً لأن هذا وقع اتفاقاً ، لأن سير الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعيداً وبطيئاً، لأنه على الإبل، فأما إذا كان في السيارات وقد وصل في وقت المغرب فليصل متى وصل ولو كان تقديماً ، والحقيقة أن الدليلين متجاذبان .
فقد نقول : إن المشروع أن يبادر بالصلاة متى وصل ، لأن هذا كالتحية لمزدلفة كما قلنا في منى أن التحية لها الرمي .
وقد يقال : إن الإنسان يؤخر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولكن قد روى البخاري عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قدم مزدلفة عشاءً أو قريباً من العشاء فأذن وصلى المغرب ، ثم دعا بعشائه فتعشى ثم أذن فصلى العشاء (108) وهذا يدل على أنه رضي الله عنه لما وصل في هذا الوقت رأى ألا يجمع وأن يصلي المغرب ويتعشى ثم يصلي العشاء وحدها ، والدليل على أنه صلى العشاء وحدها أنه أذن لها ، ولو كانت مجموعة إلى الأولى لم يؤذن . وبناء على هذا الذي ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه نقول : من وصل مبكراً فليصل المغرب ثم لينتظر حتى يأتي العشاء فيؤذن ويصلي العشاء ؟
فإن قال الحاج: الأيسر لي والأسهل عليّ أن أصلي المغرب من حين أن أصل وأصلي معها العشاء وأستريح فهل تبيحون لي ذلك ؟
فالجواب : نعم نبيح له ذلك لأنه مسافر ، والصحيح أن المسافر له الجمع ، وإن كان نازلاً فنقول : لك أن تجمع الآن إذا كان أيسر لك كما هو الغالب ، لأن بعض الناس يكون محتاجاً إلى البول ، فيحب أن يصلي المغرب والعشاء ويستريح فإذا كان هذا أريح له أو أريح لأصحابه أيضا حتى لو فرضنا أنه هو بنفسه يحب أن يصلي المغرب وحدها ، والعشاء وحدها في الوقت ، ولكن رأى أن أصحابه أيسر لهم فلا حرج أن يتبع أصحابه في الأيسر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث اتبع الأيسر لأصحابه في الصيام مع محبته للصيام .
97 – أنه لا يشرع للمسافر أن يصلي راتبة المغرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل راتبة المغرب في السفر كما لم يصل للظهر ، وكذلك للعشاء . أما راتبة الفجر فلم يكن يدعها لا حضراً ولا سفراً .
98 – أنه لا يشرع ليلة مزدلفة تهجد ولا قراءة ولا شيء من العبادات التي تمنع من النوم ، إذ لو كان هذا مشروعاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم تبليغاً للشرع أو لأرشد الأمة إليه بقوله ، فلما لم يحصل هذا ولا ذاك علم بأنه ليس بمشروع .
فإن قال قائل : إذا لم يستطع الإنسان أن ينام في مزدلفة ليلة العيد بسبب إزعاج السيارات – مثلاً – هل له أن يشتغل بالذكر والدعاء والصلاة ؟
نقول له : نعم اذكر الله , وأما الصلاة فإن كان لا يراه أحد فلا بأس , وإن كان يرى فلا , لأنه لو رآه أحد وهي ليلة مباركة اقتدى به , ولا يعلم أنه معذور ولا سيما إذا كان طالب علم ومحل اقتداء .
99 – أنه لا تجوز صلاة الفجر ولا غيرها حتى يتبين دخول الوقت . لقوله : « صلى الفجر حين تبين له الصبح » .
100 – أنه ينبغي المبادرة في صلاة الفجر ليلة المزدلفة ، دليله « حتى تبين » يعني من حين ما تبين صلى ، وهو دليل على أن المشروع في الفجر ليلة المزدلفة أن يبادر بها مبادرة غير المبادرة المعتادة المعروفة .
أما ما يفعله بعض الناس اليوم من كونهم يؤذنون إذا مضى ثلثا الليل ، من حين يمضي ثلثا الليل تسمع المؤذنين للفجر ، فهذا خطأ عظيم والحكومة وفقها الله لم تقصر ، كانت تطلق المدفع في تلك الليلة فلا عذر لأحد لكن هؤلاء المساكين تجد الواحد منهم ينام قليلاً ثم يمل من النوم ووقت الفجر عنده إذا قام من النوم ، متى ما قام فهذا وقت الفجر ، أو أنهم يحبون أن يتعجلوا ويمشوا إلى منى ، وأيا كان فإن الواحد منا إذا سمع أحداً يؤذن للفجر قبل الوقت يجب أن ينبهه حتى لا يصلي الفجر قبل وقتها فتفوت عليه فريضة من فرائض الصلوات لكن الغالب على هؤلاء الجهل .
101 – مشروعية الأذان والإقامة في الحضر وفي السفر ، وهل هذه المشروعية على سبيل الوجوب ؟
الجواب : نعم على سبيل الوجوب ، فيجب الأذان في السفر والحضر ، والإقامة في الحضر والسفر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث رضي الله عنه ومن معه : « إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم » (109) وهم وافدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافرون فأمرهم بالأذان ، مع أنهم مسافرون ، فالمسافرون عليهم الأذان كما على المقيمين .
وهل عليهم صلاة الجماعة ؟
الجواب : نعم ، ومن هنا نأخذ فائدة أيضاً :
102 – مشروعية صلاة الجماعة في الحضر والسفر ، وهي على الوجوب ، فيجب على المسافر صلاة الجماعة كما يجب على المقيم ولا فرق ، بل قد أوجب الله صلاة الجماعة في حال القتال ، وقتال الرسول صلى الله عليه وسلم كان كله في السفر .
103 – قصد المشعر الحرام (110) والوقوف عنده في صبيحة يوم العيد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب وقصد المشعر الحرام ، ولكن هل هذا على سبيل الوجوب ؟
الجواب : لا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « وقفت هاهنا وجمع كلها موقف »(111) فكل مزدلفة موقف ، ولا يلزمك أن تشد الرحل إلى المشعر الحرام لتقف عنده .
104 – أنه ينبغي التفرغ بعد صلاة الفجر يوم العيد للدعاء والتكبير والتهليل والذكر إلى أن يقرب طلوع الشمس ، والدليل : « فدعاه وكبره وهلله ولم يزل واقفا حتى أسفر جداً » إذاً فيسن التفرغ للدعاء والذكر في هذه المدة إلى أن يسفر جداً .
105 – تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حيث أردف الفضل بن عباس رضي الله عنهما دون أشراف القوم وأردف في دفعه من عرفة إلى مزدلفة أسامة بن زيد رضي الله عنه وهو مولى .
106 – جواز الإرداف على الدابة ، لأن الإرداف لو كان حراماً ما أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس ولكن يشترط لذلك أن تكون الدابة قوية وقادرة على تحمل الرديف ، فإن كانت هزيلة ضعيفة والإرداف يشق عليها فإن ذلك لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله كتب الإحسان على كل شيء »(112) .
107 – عدم جواز نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية كما استدل به النووي وغيره من أهل العلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرف وجه الفضل إلى الشق الآخر .ولكن إذا كان لشهوة فهو حرام بلا شك وإذا كان لغير شهوة فإن الذي تدل عليه النصوص الأخرى أنه لا يجوز له النظر إليها وأنه يجب عليها أن تحتجب لئلا ينظر إليها .
108 – مشروعية تغيير المنكر باليد لقوله : « فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر » .
109 – جواز التغيير قبل الأمر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل يصرف وجهه دون أن يقول له التفت أو اصرف وجهك . وعلى هذا فينظر الإنسان هل الأصلح أن يأمر أولاً ثم يغير أو أن يغير أولاً قبل أن يأمر فيرجع ذلك إلى ما فيه المصلحة .
110 – أنه ينبغي الإسراع في بطن محسر ، وهو الوادي الذي بين مزدلفة ومنى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسرع فيه . والأصل فيما فعله في هذه العبادة أنه من التعبد وليس من العادة حتى يتبين أنه عادة . والظاهر أنه لا يمكن الإسراع الآن ؛ لأن الإنسان محبوس بالسيارات فلا يمكن أن يتقدم أو يتأخر وربما ينحبس في نفس المكان فيعجز أن يمشي ولكن نقول : هذا شيء بغير اختيار الإنسان فينوي بقلبه أنه لو تيسر له أن يسرع لأسرع وإذا علم الله من نيته هذا فإنه قد يثيبه على ما فاته من الأجر والثواب .
111 – أنه ينبغي للإنسان القادم إلى منى من مزدلفة أن يسلك أقرب الطرق إلى جمرة العقبة ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهكذا ينبغي للإنسان في أسفاره أن يسلك أقرب الطرق إلى حصول مقصوده .
112 – أنه ينبغي المبادرة برمي الجمرة بحيث لا يقدم عليها نسكاً ولا تنزيل رحل ولا نزولاً في مكان ، بل يبادر بها أول ما يقدم وهذا هو الأفضل .
113 – أن من رخص له أن يدفع من مزدلفة في آخر الليل له أن يبدأ بالجمرة جمرة العقبة فيرميها حين وصوله ،وأما ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن هذا في قوله: « أبني لا ترموا حتى تطلع الشمس » (113) فقد ضعفه كثير من أهل العلم رحمهم الله ، وإن صح فإنه يحمل على الاستحباب لا على الوجوب . وإلا فكل من جاز له الدفع من مزدلفة جاز له الرمي ، وإلا لما استفاد شيئا ، فكيف يرخص له أن يدع نسكاً من المناسك التي نص القرآن عليها ويبقى في منى ساكناً حتى طلوع الشمس .
114 – أن غسل حصى رمي الجمار بدعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسله ولم يأمر به أصحابه .
115 – أنه لا رمي في يوم العيد إلا لجمرة العقبة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرم سواها ، فلو رمى الإنسان الثلاث لكان مبتدعاً ، وإن رماها جهلاً فليس عليه شيء.
116 – مشروعية الرمي راكباً ما لم يكن في ذلك أذية .
117 – أنه يجب أن يرمي الجمار رمياً ، فلا يجزئ الوضع بل لا بد من الرمي .
وهل يشترط أن يرفع يده حتى يرى بياض إبطه ؟
الجواب : لا ، ولكن يرمي قذفا فلو أخذ الحصاة ووضعها في الحوض وضعاً فإن ذلك لا يجزئ .
118 – أنه لا بد من سبع حصيات لقوله « فرماها بسبع حصيات » فلو رمى بخمس أو بثلاث أو بأربع لم يجزئ .
ولكن رخص بعض أهل العلم رحمهم الله (114) بجواز الرمي بخمس أو ست ، قال : لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينصرفون من الرمي ، فيقول بعضهم رميت بخمس ، وبعضهم بست ، وبعضهم بسبع ، ولا ينكر أحد على أحد ، ولكن لا شك أن الأحوط أن لا يقتصر على ما دون السبع ، لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم .
119 – أنه لا يجوز الزيادة على السبع لقوله : « فرماها بسبع حصيات ».
120 – أنه لا بد أن تكون السبع متعاقبات لقوله : « رماها بسبع » فإن ظاهره أن كل واحدة تكون مرمية ، فلابد أن تكون متعاقبات ولهذا قال « يكبر مع كل حصاة » وهذا كالنص الصريح على أنه لابد من التعاقب ، فلو رماها دفعة واحدة لم يجزئه إلا واحدة ولا يجزئه السبع هذا ما لم يكن قصد التعبد وهو يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم رمى سبعا متعاقبة ، فإن نوى التعبد مع علمه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رمى بسبع متعاقبة فإن ذلك لا يجزئ لأنه صريح بمخالفة السنة ، فيكون عملا ليس عليه أمر الله ورسوله فيكون مردودا ، ولو رماها سبعاً من شدة الزحام دفعة واحدة تكون واحدة
فإن قال قائل : ألستم في الحدود تقولون إن المريض إذا كان لا يحتمل أن يضرب ضرباً متعاقباً بالسوط فإنه يجمع ضغثاً من النخل ويضرب به مرة واحدة ؟
فالجواب : أن هذا قام عليه الدليل ، وهو أيضا من باب العقوبة ، والعقوبة ينبغي فيها التخفيف إذا لم يستطع ، بخلاف هذا ، فهو عبادة ، ولهذا لا يجوز للمريض الذي يشق عليه أن يصلي أربعا أن يصلي ركعتين .
121 – أنه يستحب التكبير عند الرمي وأن يكون مع كل حصاة .
122 – أنه لا يستحب البسملة هنا ، وإن كان بعض الناس يسمي فيقول : بسم الله والله أكبر .
123 – أنه لا يسن أن يقول ما يقوله العامة اللهم رضا للرحمن وغضباً للشيطان ؛ فإن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم , ومن باب أولى أنه لا يسن في هذه الحال سب الشيطان ولعنه وما أشبه ذلك من الكلمات التي يقولها جهال الناس .
124 – ضلال من يرمي بالأحجار الكبيرة أو بالنعال أو بالمظلات أو ما أشبه ذلك مما يفعله الجهال , وكل هذا من اعتقادهم أنهم يرمون الشيطان .
125 – أنه لا يجزئ الرمي بغير الحصى ، فلو رمى بذهب لم يجزئه ؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع ، ولو رمى بمدر ( وهو الطين المجفف ) لم يجزئه ، ولو رمى بقطعة من الإسمنت فإنه لا يجزئ ، ولو رمى بجص أو بخشب أو بأي مادة من المواد أو معدن من المعادن سوى الحصى فإنه لا يجزئ ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بحصى .
126 – أنه لا يجزئ الرمي بالحصاة الكبيرة ولا الصغيرة جداً ، أما الصغيرة التي دون حصى الخذف لكن ليست صغيرة جداً فإنها تجزئ ، والكبيرة لا تجزئ لقوله : « كل حصاة منها مثل حصى الخذف » فالنبي صلى الله عليه وسلم رمى بهذا وقال: « خذوا عني مناسككم » (115) بل رفع إليه ابن عباس رضي الله عنهما حصيات فأخذها بكفه وجعل يحركها ويقول: « بأمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين »(116).
127 – أنه يسن رمي جمرة العقبة من بطن الوادي لقوله : « رمى من بطن الوادي ».
128 – أنه يسن استقبال جمرة العقبة لا القبلة عند الرمي ، خلافاً لمن قال: إنه يستقبل القبلة ويجعل الجمرة عن يمينه ويرمي من اليمين ، فإن هذا ليس بصحيح ، لأنه خلاف موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه ، ومن وجه آخر أنه في زمننا هذا متعذر .
فإن قال قائل : أليس الأصل في العبادات استقبال القبلة ؟
فالجواب : إن سلمنا أن هذا هو الأصل فقد دل الدليل على عدمه في هذه المسألة .
129 – أنه لا يشرع الوقوف للدعاء بعد رمي جمرة العقبة .
130 – أن النحر بعد الرمي لقوله : « ثم انصرف إلى المنحر فنحر » .
131 – أنه ينبغي لذوي الأمر أن يرتبوا المكان للحجاج بحيث يجعلوا للنحر مكاناً خاصاً لقوله : « ثم انصرف إلى المنحر » لأنه إذا جعل للنحر مكاناً خاصاً سلم الناس من الروائح الكريهة والتلويث والأذى وغير ذلك فإذا جعل للنحر منحر خاص ، فذلك أسلم وأقرب إلى الإحاطة بهذا الأذى والقذر .
132 – أنه ينبغي للإنسان أن ينحر هديه بيده لقوله : « فنحر » فإذا قال قائل : ألا يمكن أن يكون قوله : « فنحر » أي أمر من ينحر ؟
قلنا : هذا ممكن ، ولكن الأصل في إضافة الفعل إلى فاعله أن يكون الفاعل مباشراً للفعل ، ولهذا جاء التفصيل في حديث جابر رضي الله عنه المذكور أنه صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين بيده وأعطى علياً رضي الله عنه فنحر الباقي ، وهكذا ينبغي للإنسان أن ينحر هديه وأضحيته بيده ، لأن ذلك أتبع للسنة وأشد طمأنينة للقلب أن تكون ذبحتها على الوجه المشروع ولأن هذا عبادة فينبغي للإنسان أن يفعله بنفسه ويتفرع منها :
133 – خطأ الفكرة السائدة بين الناس اليوم وهو أن المقصود من الأضحية هو اللحم ولهذا تجدهم يرسلون الدراهم إلى البلاد النائية البعيدة بدلاً عن الأضحية ويقولون هم أحوج منا.
نقول : ليس المقصود من الأضحية هو اللحم ، المقصود هو التقرب إلى الله بالذبح هذا أهم شيء في الأضحية أن تذبحها أنت بنفسك تذللاً لله عز وجل وتعظيماً له وتقرباً إليه فإن لم تستطع فوكل من يذبح كما وكل النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يذبح ما بقي من هديه ، ثم إذا ذبحت وتقربت إلى الله فإن شئت فكل وإن شئت فتصدق بها كلها .
ولهذا لما نزلت بالمسلمين فاقة في إحدى السنوات لم يقل تصدقوا بالطعام أو تصدقوا بالدراهم بل قال : اذبحوا لكن لا تدخروا فوق ثلاث . وفي العام الثاني لما زالت الفاقه قال : كلوا وادخروا ما شئتم .
فالمهم أنه يجب على طلبة العلم أن ينبهوا الناس على أن الذبح نفسه عبادة عظيمة ؛ ولهذا قرنه الله بالصلاة في قوله « فصل لربك وانحر » فلا ينبغي أن ترسل الشعائر تقام هناك وتترك الشعيرة هنا ولهذا كان من حكمة الله أن البلاد غير مكة تقام فيها هذه الشعيرة وهي التقرب إلى الله بالذبح لكن في مكة هدي وفي غيرها أضاحٍ.
وإذا كان يحب أن ينفع إخوانه في الجهة الأخرى فليرسل إليهم دراهم صدقة تطوعاً لله عز وجل .فهذه مسألة ينبغي أن يتنبه لها .
134 – وفيه دليل على تأكد الأكل من الهدي، لأنه عليه الصلاة والسلام أمر من كل بدنه بقطعة وكان يكفيه أن يأخذ من بدنه واحدة يأكل ما شاء لكن تحقيقا لقوله تعالى : { فكلوا منها } (117) .
135 – أنه يجوز التوكيل في ذبح الهدي ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينحر الباقي ، ولكن لا ينبغي التوكيل إلا إذا دعت الحاجة إليه ،إما لكثرة الهدي أو لكون الذبح يشغله عما هو أهم ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا شك أن حاجات الناس تتعلق به في الاستفتاء وغيره ، فلهذا لما نحر ثلاثاً وستين أعطى علياً رضي الله عنه فنحر الباقي وهو سبع وثلاثون بعيراً.
136 – مشروعية إهداء الإبل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إبلاً مائة بعير وأشرك علياً رضي الله عنه في هديه .
137 – وفيه دليل على كرم النبي صلى الله عليه وسلم حيث أهدى مائة بدنة عن سبعمائة شاة. وكثير من الناس اليوم يشق عليه إهداء شاة واحدة حتى إنه يختار النسك المفضول على الفاضل تفادياً للهدي .
138 – أنه ينبغي أن يفيض إلى مكة ليطوف ضحى يوم النحر ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أفاض ضحى يوم النحر قبل أن يصلي الظهر بعد أن أكل من لحم هديه، لأنه أمر من كل بدنة بقطعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها .
139 – أنه ينبغي أن يصلي الظهر يوم العيد بمكة ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة، لكن قد ثبت في الصحيحين أنه صلاها بمنى (118) ، فاختلف العلماء في هذا :
فمنهم من سلك طريق الترجيح ، ومنهم من سلك طريق الجمع ، والصحيح سلوك طريق الجمع، لأن الحديثين كلاهما صحيح بلا شك ، وإذا صح الحديثان وأمكن الجمع لم يعدل إلى الترجيح . والجمع بينهما ممكن بأن يقال : إن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة ثم خرج إلى منى فوجد بعض أصحابه لم يصل فصلى بهم إماماً، فتكون صلاته في منى معادة ، كما كان يفعل معاذ رضي الله عنه مع قومه ، يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة (119).
140 – أن الله تعالى قد ينزل البركة للإنسان في وقته ، بحيث يفعل في الوقت القصير ما لا يفعل في الوقت الكثير ، وهذا شيء مشاهد ، ومن أعظم ما يعينك على هذا أن تستعين بالله عز وجل في جميع أفعالك بأن تجعل أفعالك مقرونة بالاستعانة بالله حتى لا توكل إلى نفسك لأنك إن وكلت إلى نفسك وكلت إلى ضعف وعجز ، وإن أعانك الله فلا تسأل عما يحصل لك من العمل والبركة فيه .
141 – أنه ينبغي الشرب من ماء زمزم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم .
فإن قال قائل : هل يفعل شيئا آخر غير الشرب كالرش على البدن أو على الثوب أو أن يغسل به أثواباً يجعلها لكفنه كما كان الناس يفعلون ذلك من قبل ؟
فالجواب : لا. فنحن لا نتجاوز في التبرك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا نتجاوز إليه بل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذنا به وإلا فلا.
142 – أنه ينبغي على من شرب من ماء زمزم أن يتضلع منه لأن هذا الماء خير , وقد ورد حديث في ذلك لكن فيه نظر وهو ( أن آية ما بين أهل الإيمان والنفاق التضلع من ماء زمزم) (120) وذلك لأن ماء زمزم ليس عذباً حلواً بل يميل إلى الملوحة والإنسان المؤمن لا يشرب من هذا الماء الذي يميل إلى الملوحة إلا إيماناً بما فيه من البركة فيكون التضلع منه دليلاً على الإيمان .
143 – وفيه أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أسوة ؛ لقوله لبني عبد المطلب : « انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم » لأنه لو نزع لكان سنة يأخذ بها الناس وحينئذ يغلبونهم على السقاية .
144 – وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حين شرب من الدلو الذي يشرب منه الناس ، ناولوه دلواً فشرب منه عليه الصلاة والسلام وظاهر الحال أنه شرب قائماً فقيل شرب قائماً لضيق المكان وقيل إنه شرب قائماً من أجل أن يتضلع منه أي من ماء زمزم لأن الإنسان إذا شرب قائما تضلع من الماء أكثر والله أعلم .
المهم أن هذا الحديث من أطول الأحاديث في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا جعله الشيخ الألباني(121) - حفظه الله - أصلاً لصفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وبنى منسكه المعروف المشهور على هذا وزاد فيه ما زاد .


والحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين



------------------

(79) " لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهل دبر الصلاة" أخرجه الإمام أحمد 1/285 والترمذي في الحج / باب ما جاء متى أحرم النبي صلى الله عليه وسلم 819، والنسائي في الحج / باب العمل في الإهلال 5/162 عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(80) أخرجه البخاري في كتاب الحج / باب من أهل حين إستوت به راحلته قائمة (1552) ولفظه (أهل النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة). وأخرجه مسلم في الحج / باب التلبية وصفتها ووقتها (1184) ولفظه : (ثم استوت به الناقة قائمة عند مسجد الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات ).
(81) أخرجه الإمام أحمد 1/260 وأبو دادو في المناسك / باب في وقت الإحرام (1770) وضعفه المنذري في تهذيب السنن (1696).
(82) أخرجه أبو داود في المناسك / باب كيفية التلبية (1814) والترمذي في الحج / باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية (829) والنسائي في المناسك / باب رفع الصوت بالإهلال (2753) وابن ماجه في المناسك / باب رفع الصوت بالتلبية (2922) .
(83) أخرجه مسلم في الحج / باب التقصير في العمرة (1248) عن جابر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما ولفظه : (قالا : قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخاً) .
(84) أخرجه البخاري في الجهاد / باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير وأخرجه مسلم في الذكر والدعاء / باب استحباب خفض الصوت بالذكر (2704) عن أبي موسى رضي الله عنه واللفظ لمسلم .
(85) سورة الحج : آية 27 .
(86) سورة الفتح : آية 29.
(87) سورة التوبة : آية 120.
(88) سورة البقرة آية 158.
(89) سورة البقرة آية 196.
(90) سبق تخريجه رقم 42 .
(91) المحصب : بالضم ثم الفتح وصاد مهملة مشددة ، اسم مفعول من الحصباء أو الحصب وهو الرمي بالحصى وهي صغار الحصى وكباره: وهو موضع فيما بين مكة ومنى وهو إلى منى أقرب . معجم البلدان 5/74.
(92) أخرجه البخاري في الحدود / باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع (6788) ومسلم في الحدود / باب قطع يد السارق الشريف (1688) عن عائشة رضي الله عنها .
(93) سورة طه : آية 123.
(94) سورة الأحزاب : آية 21.
(95) سورة الحشر : آية 7 .
(96) سورة آل عمران : آية 31.
(97) سورة الأعراف : آية 158.
(98) سورة البقرة : آية 255.
(99) الفتاوى 24/54.
(100) سبق تخريجه رقم 56 .
(101) أخرجه مسلم في كتاب الحج / باب استحباب رمي جمرة العقبة 2/943 وابو داود كتاب المناسك / باب رمي الجمار 1/456 والنسائي في المناسك / باب الركوب إلى الجمار 5/ 219.وابن ماجه في المناسك / باب الوقوف بجمع 2/1006.
(102) أنظر الفتاوى 26/132.
(103) أخرجه الترمذي في الدعوات / باب في دعاء يوم عرفة (3585) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما والإمام أحمد 2/210 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ولفظه :"كان دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة لا إله إلا الله ..." وقال الترمذي : حسن غريب من هذا الوجه .
(104) سبق تخريجه رقم 102.
(105) أخرجه البخاري في الرقائق / باب التواضع (6502).
(106) أنظر المحلي 5/121.
(107) سبق تخريجه رقم 61.
(108) أخرجه البخاري في كتاب الحج / باب من أذن وأقام لكل واحدة من الصلاتين (1675).
(109) أخرجه البخاري في كتاب الأذان / باب الأذان للمسافرين (631) ومسلم في كتاب المساجد / باب من أحق بالإمامة (674)
(110) المشعر الحرام : هو في قوله تعالى : "فاذكروا الله عند المشعر الحرام" وهو في مزدلفة وجمع يسمى بهما جميعاً . معجم البلدان 5/156.
(111) سبق تخريجه رقم (56).
(112) أخرجه مسلم في الصيد والذبائح / باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة (1955).
(113) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك / باب التعجيل من جمع 1/450.والنسائي في كتاب المناسك / باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس 5/220 وابن ماجه في كتاب المناسك / باب من تقدم من جمع 2/1007 وأحمد 1/234 – 311 – 343 .
(114) انظر المغني 5/330.
(115) سبق تخريجه رقم 102 .
(116) سبق تخريجه رقم 69 .
(117) سورة الحج : آية 28.
(118) اخرجه مسلم في الحج / باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر (1308) عن ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر . ثم رجع فصلى الظهر بمنى".
(119) أخرجه البخاري في الأدب / باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً (6106) وأخرجه مسلم في الصلاة / باب القراءة في العشاء (465) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .
(120) أخرجه ابن ماجه في المناسك / باب الشرب من ماء زمزم (1017).
(121) هو العلامة المحدث المحقق محمد بن ناصر الدين الألباني ولد عام 1332هـ في مدينة أشقودرة عاصمة ألبانيا آنذاك ونشأ في أسرة فقيرة ومن بيت علم ، وكان رحمه الله تعالى حريصاً جداً على العمل بالسنة ومحاربة البدعة ودعوة الناس إلى منهج السلف الصالح توفي رحمه الله عصر يوم السبت الثاني والعشرون من جمادى الآخرة لعام 1420هـ

منقول من موقع الشيخ صالح بن عثيمين رحمه الله

رد مع اقتباس
إنشاء موضوع جديد إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
لا يوجد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

تعليمات المشاركة
تستطيع إضافة مواضيع جديدة
تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:51 PM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
vEhdaa 1.1 by NLP ©2009

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML