بسم الله الرحمن الرحيم
النصيحة (1) : الخروج ليس بواجب بإجماع الأمة
عليك أيها التبليغي، وفقك الله لما فيه رضاه، أن لا تعتقد وجوب الخروج مع جماعة التبليغ، ولا تعتقد أن من لا يخرج، أو كان يخرج ثم
تركه، يعد آثما في دين الإسلام .
فإن مما هو معلوم من الدين بالضرورة، أن هذا الخروج على هذا النمط وبهذا الترتيب والهيئة ليس بواجب، وقد اتفقت الأمة على عدم وجوبه، ولم تعرفه سوى في العصر الحالي ، وأول من أحدثه الشيخ محمد إلياس، رحمه الله، وإنما النقاش يدور بين العلماء في جوازه، مع اتفاقهم على عدم وجوبه .
فأول ما يجب عليك تصحيحه، أيها التبليغي الفاضل، هو أن تخرج من قلبك اعتقاد وجوب هذا الخروج، وتعتقد أن من لم يخرج أو خرج ثم ترك ليس عليه لوم شرعي، ولا يعد آثما، ولا مقصرا في دين الإسلام، لأن الشرع لله سبحانه، وليس للبشر أن يوجبوا على الناس إلا ما أوجب الله عليهم .
النصيحة (2) : ضرورة الدعوة إلى توحيد الألوهية
إياك أخي التبليغي أحسن الله إليك أن تفسر (لا إله إلا الله) بغير تفسير أهل الحق والسنة لها، فتفسيرها الذي لا مرية فيه (لا معبود بحق إلا الله) وبناء على ذلك حذار من الدعوة إلى توحيد الربوبية، دون توحيد الألوهية ( العبادة) فإن توحيد الربوبية أن الله هو الخالق المالك المدبر لم يكن كفار قريش ينكرونه، ولم يبعث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ؛ ليدعو قومه إليه، ولكن الخصومة وقعت بين الأنبياء وأقوامهم فيما يتعلق بتوحيد الألوهية، فيترتب على ذلك أن عليك أيها التبليغي لتكون محييا لجهد الأنبياء، أن تدعو إلى ما دعا إليه جميع الأنبياء، إلى عبادة الله وحده، واجتناب الطاغوت، قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل : 36].
وأنتم أيها التبليغيون، بارك الله فيكم، تصلون إلى أماكن كثيرة يستغاث فيها بغير الله، ويتوكل على غيره، ويذبح لغيره، أي ينتشر فيها عبادة غير الله سبحانه، على شتى أصنافها وألوانها، فكونكم تودون إحياء جهد الأنبياء، وتعلنون أن الفلاح والنجاح هو بامتثال أمر الله، على طريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، يستدعي منكم أن تدعوا هؤلاء الأقوام إلى عبادة الله وحده، وعدم الاقتصار على القول بأن الله سبحانه هو الخالق، الرازق، والقابض، الباسط. ولا يمنعنكم نفور من يقع في شرك الألوهية من هذه الدعوة وتفرقهم من حولها، كما أن الأنبياء لم يمنعهم ذلك من المضي، قدما في هذه الدعوة، التي هي أساس الإسلام، وأصله، وقاعدته الكبرى.
وفقنا الله جميعا لما فيه رضاه .
النصيحة (3) : انتبه إلى توحيد الأسماء والصفات
أخي التبليغي رفع الله قدرك !
أنصحك بدراسة ما كتبه السلف الصالح، ومن اتبعهم في مباحث أسماء
الله وصفاته .
وأن تحذر من مسلك بعض الناس حين ينهجون منهج التفويض في صفات الله تعالى، فلا يفسرون نصوص الصفات على ظاهرها، يقرؤون النص دون تفسير له، فيقول أحدهم " الرحمن على العرش استوى "
فيقال له ما معنى استوى، فيقول لا أفسر .
فإن السلف قد فسروا الاستواء بالعلو والارتفاع .
وكذلك من الأخطاء التي وقع فيها بعض الناس، إنكارهم للسؤال
النبوي للجارية " أين الله " وكذلك من الأخطاء إنكار كلمة بذاته.
فإن العلماء المتبعين للسلف الصالح، يصرحون بأن الله فوق السماء بذاته، ليردوا بذلك ردا واضحا وصريحا، على من أنكر استواءه سبحانه بذاته . وهم قد أخذوا هذه اللفظة من القرآن الكريم، والسنة النبوية، فإن قوله تعالى : {الرحمن على العرش استوى} ،تدل على أنه استوى بذاته على العرش، إذ إن معنى {الرحمن} ذات الله المتصفة بالرحمة .
وذلك كقوله تعالى : {الله خالق كل شيء}، فهل ينكر أحد من المسلمين أن الله تعالى خالق كل شيء بذاته !؟ .
وكن على حذر من عقائد الماتريدية، والأشعرية، في أسماء الله وصفاته، لما تشتمل عليه من التعطيل، الذي هو النفي لأكثر ما أثبته الله لنفسه من صفات .
بارك الله فيك، وأيدك بروح منه، وجعلك داعيا إلى توحيد الله سبحانه بأنواعه الثلاثة، التي اشتمل عليها القرآن والسنة، توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء، والصفات إنه سميع مجيب .
النصيحة (4) : تتعلق بالصفات الستة
أخي التبليغي بارك الله فيك، يحسن بك أن تترك تحديد صفات ستة، ليدور حولها الكلام دائما، ويتم التركيز عليها بصورة كبيرة، وتكون محور الكلام أثناء الخروج، لعدم قيام دليل على مثل ذلك، ومثل هذا مما يفتقر إلى دليل يدل عليه .
قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين، رحمه الله تعالى، في "لقاءات الباب المفتوح" (ج15/ص21) :
"الذين يسمون أنفسهم جماعة التبليغ، هم الذين يذهبون إلى باكستان وغيرها للدعوة إلى الله ونحن لا نتهمهم بسوء النية والقصد، وهم لا يريدون بالذهاب إلا الخير لا شك، لكن هذا الذهاب صار سبباً ووسيلة للقدح في هذه الجماعة، وصاروا يقولون: إنهم يذهبون إلى هناك ليأخذوا العلم والإيمان عن قوم هناك، وعندنا والحمد لله من هم أعلم منهم، ومن هم أقوى إيماناً، ثم إن هؤلاء القوم فيهم شبهة؛ لأنهم بنوا أصولهم على غير الأصول التي بنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليها الدين، فهم بنوا أصولهم على أمور ستة، من يقرأها لنا؟
1- تحقيق لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
2- الصلاة ذات الخشوع والخضوع .
3- العلم معالذكر.
4- إكرام المسلمين .
5- تصحيح النية.
6- الدعوة إلى الله والخروج في سبيله .
لو أنهم بنوا هذا الأمر على ما بناه عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكان خيراًلهم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاالله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام" ولا أظن أحداً يكون في قلبه أدنى شك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، أعلم الخلق بما يبنى عليه الإسلام، وأنه أنصح الخلق، وأنه أفصح الخلق، وقال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خير وشره" وقال: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
لهذا أنا أنصح إخواني من أهل التبليغ، وأكرر عليهم النصيحة ألا يذهبوا إلى باكستان أولاً: دفعا عن أعراضهم؛ لأن الكثير من الإخوة إذا أثنينا على جماعة التبليغ ، وقلنا: إن لهمتأثيراً لم يقم به أحد غيرهم، وتأثيرهم واضح، كم من ضال اهتدى على أيديهم، وكم من فاسق أطاع على أيديهم، بل وكم من كافر آمن على أيديهم، قالوا: هؤلاء فيهم وفيهم، ومن جملة ما يجعلونه سبباً للقدح سفرهم إلى باكستان . فأنا أكرر نصيحتي لإخواني الذين يوجدون في الجزيرة بألا يذهبوا إلى باكستان ، ويجتمع بعضهم مع بعض والحمد لله في مكة في الحج أو في العمرة، في رمضان أو في غير رمضان، أما أن يذهبوا إلى بلاد اشتبه حقيقة ما هم عليه، ومن يديرون دفة الأمر فيها، فهذا لا ينبغي". انتهى كلامالعلامة ابن عثيمين رحمه الله.
النصيحة (5): التحذير من جملة علينا أن ندعو الناس بالهم والحزن).
اعلم أخي التبليغي بارك الله فيك، وتقبل غيرتك على دين الله، وحرصك على هداية الناس، أنه لا يصلح لك أن تكرر تلك العبارة "علينا أن ندعو الناس بالهم والحزن" وكذلك لا يطلب منك أن تستشعر أنك مسؤول عن كل ضال، وأنك ستتحمل وزره يوم القيامة؛ لأن الله سبحانه لم يأمر نبيه أن يدعو الناس بالحزن والهم، بل على العكس من ذلك، نهاه عن ذلك بقوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر : 8]، وقوله:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } [الكهف : 6]، وبين له أنه لم ينزل عليه القرآن ليصير شقيا به، وإنما عليه فقط أن يذكر به الناس، وأنه ليس عليه إلا البلاغ، فقال سبحانه: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1-3]،
جاء في تفسير القرطبي (11 / 153):
"(لتشقى) لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، كقوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ } [الكهف:6 ]
أي ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا، لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة".
وقال سبحانه :{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ
َألَّا يَزَّكَّى (7) } [عبس5-7]،
قال الشوكاني رحمه الله في "فتح القدير " ( 7 / 418):
"{ أَمَّا مَنِ استغنى } أي : كان ذا ثروة وغنى ، أو استغنى عن الإيمان ، وعما عندك من العلم { فَأَنتَ لَهُ تصدى } أي : تصغي لكلامه، والتصدّي الإصغاء ... {وَمَا عَلَيْكَ أَن لا يزكى } أي : أيّ شيء عليك في أن لا يسلم ، ولا يهتدي فإنه ليس عليك إلاّ البلاغ ، فلا تهتم بأمر من كان هكذا من الكفار."
وقال ابن القيم رحمه الله في "طريق الهجرتين" (1/418) :
"اعلم أن الحزن من عوارض الطريق، ليس من مقامات الإيمان، ولا من منازل السائرين، ولهذا لم يأمر الله به في موضع قط، ولا أثنى عليه، ولا رتب عليه، جزاء ولا ثوابا، بل نهى عنه في غير موضع، كقوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]،
وقال تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127]، وقال تعالى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:26]،
وقال: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فالحزن هو بلية من البلايا التي نسأل الله دفعها وكشفها، ولهذا يقول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}[فاطر:34]، فحمدوه على أن أذهب عنهم تلك البلية، ونجاهم منها، وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، أنه كان يقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال".... والمقصود أن النبي جعل الحزن مما يستعاذ منه؛ وذلك لأن الحزن يضعف القلب، ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن ،قال تعالى: { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10]، فالحزن مرض من أمراض القلب، يمنعه من نهوضه، وسيره، وتشميره، والثواب عليه، ثواب المصائب التي يبتلى العبد بها بغير اختياره، كالمرض، والألم ونحوهما، وأما أن يكون عبادة مأمورا بتحصيلها وطلبها فلا فرق بين ما يثاب عليه العبد من المأمورات، وما يثاب عليه من البليات، ولكن يحمد في الحزن سببه ومصدره ولازمه لا ذاته، فإن المؤمن إما أن يحزن على تفريطه وتقصيره في خدمة ربه وعبوديته، وإما أن يحزن على تورطه في مخالفته ومعصيته وضياع أيامه وأوقاته، وهذا يدل على صحة الإيمان في قلبه، وعلى حياته حيث شغل قلبه بمثل هذا الألم فحزن عليه، ولو كان قلبه ميتا لم يحس بذلك ولم يحزن ولم يتألم فما لجرح بميت إيلام، وكلما كان قلبه أشد حياة كان شعوره بهذا الألم أقوى، ولكن الحزن لا يجدي عليه فإنه يضعفه كما تقدم، بل الذي ينفعه أن يستقبل السير ويجد ويشمر ويبذل جهده".
وقال أيضا رحمه الله في "مدارج السالكين" (1/505) :
"فصل ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة الحزن وليست من المنازل المطلوبة ولا المأمور بنزولها، وإن كان لا بد للسالك من نزولها، ولم يأت الحزن في القرآن إلا منهيا عنه، أو منفيا، فالمنهي عنه،كقوله تعالى:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [آل عمران:139]،
وقوله: { وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [النحل:127]، فى غير موضع وقوله: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة:40]، والمنفي كقوله: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]، وسر ذلك : أن الحزن موقف غير مسير ولا مصلحة فيه للقلب، وأحب شيء إلى الشيطان: أن يحزن العبد ليقطعه عن سيره، ويوقفه عن سلوكه ، قال الله تعالى: { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادله:10]، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- الثلاثة أن يتناجى اثنان منهم دون الثالث؛ لأن ذلك يحزنه، فالحزن ليس بمطلوب ولا مقصود ولا فيه فائدة وقد استعاذ منه النبي فقال : "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن" فهو قرين الهم والفرق بينهما : أن المكروه الذي يرد على القلب إن كان لما سيستقبل : أورثه الهم وإن كان لما مضى : أورثه الحزن وكلاهما مضعف للقلب عن السير مفتر للعزم ولكن نزول منزلته ضروري بحسب الواقع ولهذا يقول أهل الجنة إذا دخلوها : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}[فاطر:34]، فهذا يدل على أنهم كان يصيبهم في الدنيا الحزن كما يصيبهم سائر المصائب التي تجري عليهم بغير اختيارهم، وأما قوله تعالى : {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة : 92] ، فلم يمدحوا على نفس الحزن، وإنما مدحوا على ما دل عليه الحزن من قوة إيمانهم، حيث تخلفوا عن رسول الله لعجزهم عن النفقة، ففيه تعريض بالمنافقين الذين لم يحزنوا على تخلفهم بل غبطوا نفوسهم به، وأما قوله في الحديث الصحيح : "ما يصيب المؤمن من هم، ولا نصب، ولا حزن، إلا كفر الله به من خطاياه" فهذا يدل على أنه مصيبة من الله يصيب بها العبد، يكفر بها من سيئاته، لا يدل على أنه مقام ينبغي طلبه واستيطانه، وأما حديث هند بن أبي هالة، في صفة النبي: "إنه كان متواصل الأحزان" فحديث لا يثبت، وفي إسناده من لا يعرف، وكيف يكون متواصل الأحزان وقد صانه الله عن الحزن على الدنيا وأسبابها، ونهاه عن الحزن على الكفار، وغفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، فمن أين يأتيه الحزن، بل كان دائم البشر ضحوك السن كما في صفته: "الضحوك القتال" صلوات الله وسلامه عليه وأما الخبر المروي : "إن الله يحب كل قلب حزين" فلا يعرف إسناده، ولا من رواه، ولا تعلم صحته، وعلى تقدير صحته فالحزن مصيبة من المصائب التي يبتلي الله بها عبده، فإذا ابتلى به العبد فصبر عليه أحب صبره على بلائه، وأما الأثر الآخر :"إذا أحب الله عبدا نصب في قلبه نائحة، وإذا أبغض عبدا جعل في قلبه مزمارا" فأثر إسرائيلي قيل : إنه في التوراة، وله معنى صحيح فإن المؤمن حزين على ذنوبه، والفاجر لاه لاعب مترنم فرح، وأما قوله تعالى عن نبيه إسرائيل : {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف : 84]، فهو إخبار عن حاله بمصابه بفقد ولده وحبيبه وأنه ابتلاه بذلك، كما ابتلاه بالتفريق بينه وبينه، وأجمع أرباب السلوك على أن حزن الدنيا غير محمود، إلا أبا عثمان الحيري فإنه قال : الحزن بكل وجه فضيلة وزيادة للمؤمن ما لم يكن بسبب معصية قال : لأنه إن لم يوجب تخصيصا فإنه يوجب تمحيصا، فيقال لا ريب أنه محنة وبلاء من الله بمنزلة المرض، والهم، والغم، وأما أنه من منازل الطريق : فلا والله سبحانه أعلم".
نسأل الله سبحانه أن يرزقنا - جميعا- حسن الاتباع لما يحبه ويرضاه !
النصيحة (6) : لا يذم الجدال مطلقا
اعلم أخي التبليغي بارك الله فيك، ووفقني وإياك لسلوك سبيل الحق الذي يحبه ويرضاه، في كل أمر من الأمور بمنه وكرمه، أن الجدال لا يذم على سبيل الإطلاق، بل منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، وكيف يكون مذموما كله، والله سبحانه قال :{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125]. وقد قص الله علينا كيف كان الأنبياء يحاجون أقوامهم ويجادلونهم بالحجة والبرهان في آيات كثيرة معلومة لا تخفى.
فالجدال بالتي هي أحسن، سبيل قويم لإظهار الحق، ودحض الباطل، في كثير من الأحيان، وإنما يكون مذموما منهيا عنه حين يكون بدون فائدة، أو بدون علم، أو للتباهي والتفاخر، أو لدفع الحق، ونصر الباطل، أو ترتب عليه مفسدة راجحة، أما إذا خلا من ذلك كله ونحوه، وكان مما يرجى فائدته، فلا يحسن إنكاره ولا تركه ولا التهرب منه.
قال الإمام النووي في كتابه " الأذكار "(1/ 469) :
"واعلم أن الجدال قد يكون بحقّ، وقد يكون بباطل، قال اللّه تعالى : {وَلا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إِلاَّ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ} [ العنكبوت: 41 ]، وقال تعالى : { وَجادِلْهُمْ بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل : 125]، وقال تعالى : { ما يُجادِلُ في آياتِ اللَّهِ إلاَّ الَّذِينَ كَفَروا } [ غافر:4 ]، فإن كان الجدالُ للوقوفِ على الحقّ وتقريرِه كان محموداً، وإن كان في مدافعة الحقّ أو كان جدالاً بغير علم كان مذموماً، وعلى هذا التفصيل تنزيلُ النصوص الواردة في إباحته وذمّه" انتهى.
وقال شيخ الإسلام في" درء تعارض العقل والنقل" (3 / 371) :
"والمذموم شرعا ما ذمه الله ورسوله، كالجدل بالباطل، والجدل بغير علم، والجدل في الحق بعد ما تبين، فأما المجادلة الشرعية كالتي ذكرها الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام وأمر بها، مثل قوله تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود :32]، وقوله : {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام:83]، وقوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّه} [البقرة : 258]، وقوله تعالى : {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل : 125]، وأمثال ذلك فقد يكون واجبا أو مستحبا، وما كان كذلك لم يكن مذموما في الشرع ".
نسأل الله أن يهدينا جميعا سواء السبيل !
النصيحة (7): أحذرك ونفسي من الحزبية لغير الإسلام
احذر أخي التبليغي من الحزبية لغير الإسلام الذي أنزله الله على رسوله فإن الله سبحانه قال في كتابه :
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}[الروم 30-32].
وإليك بعض علامات الحزبية لتكون منها على حذر:
* استثقال النصيحة من المخالف وإن كانت حقا وبعلم.
* عدم الاعتداد بدعوة غير أفراد الجماعة، ومن كان على طريقتهم بحيث أنك إن وجدت درسا في مسجد لا تعده كافيا، وترى أنه لا بد أن يكون الدرس من قبل الجماعة ليكون معتدا به، أو تعتبر أن الدعوة لا تكون معتبرة إلا إذا كانت من قبل أفراد الطائفة وعلى منهجهم.
* الخروج مع الجماعة إلى بلد لا تحتاج إلى دعوة كباكستان لتوفر أعداد كبيرة من الدعاة فيها، تبذل مالك وجهدك ووقتك بدون حاجة سوى أنها تشتمل على فكر الجماعة، والفكر إنما يجب أن يكون من الكتاب والسنة، وما كان عليه الصحابة.
قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – في "لقاءات الباب المفتوح"(10/28) :
"هم أهل خير ولا شك، لكني أرى أن الذين يوجدون في المملكة لا يذهبوا إلى باكستان وغيرها من البلاد الأخرى؛ لأننا لا ندري عن عقائد أولئك ولا ندري عن مناهجهم، لكن المنهج الذي عليه أصحابنا هنا في المملكة منهج لا غبار عليه، وليس فيه شيء"انتهى.
* أن تشعر في داخل نفسك أن من لم، أو لا يخرج هو مقصر ناقص، حتى ولو كان داعيا أو طالب علم، أو كان خيرا منك إيمانا وتقوى وورعا وعلما.
* أن تشعر بأن كل من لم يخرج فهو ضعيف الإيمان، وأن زيادة الإيمان لا تكون إلا بالخروج، وأن في الخروج من الخير ما لا يوجد في طلب العلم من الكتاب والسنة، ولا العمرة ولا غير ذلك، وتربط كل خير في الوجود بالخروج، وتجعله محور كلامك دائما، وتشدد على الناس في شأنه، وتشعرهم بالنقص في حال تركه . مع أنه لم يكن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه، ولا عرفه الفقهاء، كالأئمة الأربعة، ولا كتبوا له آدابا وأحكاما لعدم معرفتهم له، وعدم وجوده في زمانهم.
* أن تشعر بأنه لا يعتد بالدعوة إلا إذا كانت على هذه الطريقة، فيها تجول وسير وتنقل وعلى هذا الفكر الذي له الصبغة المعروفة، أما إذا كانت من خلال الأجهزة الحديثة، أو داخل البيت أو خطب الجمعة أو الدروس في المسجد أو في أي مكان آخر، أو تأليف الكتب والمقالات، أو غير ذلك من الوسائل النافعة لا يعتد بها .
* أن تعتقد أن أي نصيحة توجه للجماعة يكون صاحبها مستحقا للبغض والتعنيف، مما يعني بلسان الحال أن الجماعة معصومة وأنه لا يجوز نصيحتها .
* أن تعتقد أن جهد الجماعة لا يجوز تركه ولا الاستغناء عنه في أي
حال من الأحوال، فهذا فيه طعن في القرون السابقة، ومنها خير القرون لعدم وجود هذه الطريقة لديهم .
* أن تشعر أنك لو تركت الخروج تكون مقصرا.
* أن يتغير قلبك على من ترك الخروج، ولا تعده أخا لك كما لو كان مستمرا على الخروج.
* أن تقدح في العلماء الذين لهم نصائح للجماعة،كالشيخ الألباني رحمه الله.
* أن تقدح في العلماء الذين أنكروا هذا الخروج وعدوه بدعة،كالفوزان والتويجري وعبد الرزاق عفيفي.
* أن تفرق بين الخروج والوسائل المحدثة الأخرى، كالأشرطة والكتب والقنوات والمراكز والمواقع التعليمية والدعوية؛ لأن ذلك يستلزم أنك تتعبد بهذه الطريقة مع كونها محدثة لذلك تأبى سلوك ما سواها.
* أن تعتقد أن الخروج أمر ماض إلى يوم القيامة، حتى لو ظهر المهدي ونزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، أو قامت الخلافة الراشدة وانتفت الحاجة إليه؛ لأن ما كان الاعتقاد فيه هكذا لا يكون وسيلة غير متعبد بها .
* أن تعتبر أن لك الحق أن تدعو الناس وتنصحهم، وأن هذا من أعظم الفضائل، وأن عليك أن تبلغ ولو آية، حتى ولو لم تكن تعلم تفسيرها ولا تحسن تلاوتها، ثم تنكر على من ينصحك بعلم وإنصاف وبالحجة والبرهان، ومن يكون له جهد في نصح الطائفة وتصحيح مسيرتهم مبلغا لهم آيات الله وأحاديث رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالفهم العلمي الصحيح.
* أن يكون عملك لنصر الطائفة وزيادة أعداد أفرادها والتمكين لها
في الأرض، لا لنصر الإسلام المجرد الصافي عن كل ما اختلط به مما هو
ليس منه.
* أن تحب العالم الذي يشجع على هذا الخروج، وتبغض من كان ناهيا عنه، أو مصححا لبعض ما فيه من أخطاء مع استقامته على شرع الله،
فتكون محبتك وبغضك في فكر الطائفة -مع عدم عصمتها - لا في الله
سبحانه.
* أن ترفع من منزلة طالب العلم التبليغي، حتى تجعله في مقام عال مع الحط من منزلة من هو مثله في العلم والتقوى، أو أكثر علما وتقوى
منه، إن لم يكن ممن يسلك هذا المسلك.
* أن تقدم حضور مجلس ذكر لشخص لكونه تبليغيا، وإن كان عاميا يغرف من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ويفسر الآيات بغير تفسير أهل العلم، على مجالس أهل العلم وأصحاب التمييز والإفادة العلمية الحقيقية، لكونهم ليسوا من الطائفة المحبوبة لديك.
فالحذر الحذر أيها التبليغي الحبيب من الحزبية، والتعصب لغير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في"مجموع الفتاوى"(3 / 347) :
"وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها".
وقال - عليه سحائب الرحمة والرضوان- "في مجموع الفتاوى" (20/8):
"على كل مؤمن أن يحب ما أحب الله ورسوله، وأن يبغض ما أبغضه الله ورسوله، مما دل عليه في كتابه، فلا يجوز لأحد أن يجعل الأصل في الدين لشخص إلا لرسول الله -صلى الله عليه و سلم- ولا لقول إلا لكتاب الله عز وجل، ومن نصب شخصا كائنا من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو من الذين {فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} الآية. وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل أتباع الأئمة والمشايخ، فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم العيار، فيوالي من وافقهم، ويعادي من خالفهم " انتهى كلامه.
سددك الله أخي التبليغي المتعطش لمعرفة الحق، واتباع السبيل الموصل إلى الله سبحانه .
النصيحة (8): احذر من احتقار العلماء
احذر أخي التبليغي، حفظك الله ووفقك لما يحبه ويرضاه من احتقار العلماء، لأي مبرر بحجة أنهم لا يخرجون، أو أنهم لا يضحون كما تضحي، أو لأنهم انشغلوا بالعلم والراحة عن الدعوة والتعب، فكل ذلك من تلبيس الشيطان ليصرفك عن الرجوع إليهم الذي هو واجب عليك، امتثالا لقوله تعالى : {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء : 7] ،وقال سبحانه : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يعْلَمُونَ}[الزمر : 9] ،وقال : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة : 11]، وقال رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" متفق عليه.
قال الإمام ابن الجوزي في كتابه "تلبيس إبليس" (ص195):
"ومن تلبيسه على الزهاد، احتقارهم العلماء، وذمهم إياهم، فهم يقولون المقصود العمل، ولا يفهمون أن العلم نور القلب، ولو عرفوا مرتبة العلماء في حفظ الشريعة وأنها مرتبة الأنبياء، لعدوا أنفسهم كالبكم عند الفصحاء، والعمي عند البصراء، والعلماء أدلة الطريق والخلق وراءهم وسليم هؤلاء يمشي وحده، وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي بن أبي طالب-رضي الله عنه- : "والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم".
ومما يعيبون به العلماء، تفسح العلماء في بعض المباحات، التي يتقوون بها على دراسة العلم، وكذلك يعيبون جامع الأموال ولو فهموا معنى المباح، لعلموا أنه لا يذم فاعله، وغاية الأمر أن غيره أولى منه أفيحسن لمن صلى الليل أن يعيب على من أدى الفرض ونام ..... !
قال المصنف : قلت : الويل للعلماء من الزاهد الجاهل الذي يقتنع بعمله، فيرى الفضل فرضا، فإن الذي أنكره مباح، والمباح مأذون فيه، والشرع لا يأذن في شيء ثم يعاتب عليه، فما أقبح الجهل، ولو أنه قال لهم : لو قصرتم فيما أنتم فيه، لتقتدي الناس بكم، كان أقرب حالة، ولو سمع هذا بأن عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وعبد الله
ابن مسعود، -رضوان الله عليهم- وفلانا وفلانا من الصحابة، خلفوا مالا عظيما، أتراه ماذا يقول وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم، وكان يقوم فيها بالليل، ففرض على الزاهد التعلم من العلماء، فإذا لم يتعلم، فليسكت" انتهى كلام ابن الجوزي رحمه الله.
ومما شاع عند بعض الناس، وليس له أساس من الصحة، أن إبليس أعلم الناس الآن، وهذه فكرة خاطئة لا دليل عليها، فهل إبليس عالم باللغة العربية، وقواعد التفسير، ومصطلح الحديث، والجرح والتعديل، وأصول الفقه، ومسائل الفقه، والمواريث، ونحو ذلك ؟.!
ولو كان إبليس أعلم الناس، لوجدنا أولياءه من السحرة والكهنة أعلم الناس، لكونهم يتلقون عنه، إلا أننا نجدهم أجهل الناس، وأكثرهم تخليطا وحمقا.
فليست تلك المقولة من الصواب في شيء، فكن على حذر منها، بارك الله فيك!
وكما أحذرك أخي بارك الله فيك! من احتقار العلماء، أحذرك أيضا من ابتذال هذا الوصف( العالم) حتى تطلقه على كل إمام مسجد، وكل من درس في جامعة، أو معهد علما شرعيا، لأن هذا الإطلاق في الأغلب لا يكون موافقا للواقع، ويؤدي إلى تسمية الأشياء بغير أسمائها، حتى من كان معه (دكتوراه) في الشريعة، لا يلزم من ذلك أن يكون عالما، كما هو معلوم عند العلماء وطلبة العلم.
ومما يجدر التنبه له، أن الرفع من قدر شخص ممن يظن أنه يطلب العلم، حتى يجعل عالما لكونه موافقا لما عليه الطائفة، مع الحط من منزلة شخص آخر، هو مثله أو أعلم منه وقد يكون أكثر اتباعا للحق منه، لا يعد من الأمور المحمودة في الشريعة، لخلوه من الإنصاف والعدل ووضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، ودخوله في دائرة الحزبية التي
نهى الله عنها.
ولا يحسن بك أخي التبليغي بارك فيك ربي وأحسن إليك، أن ترفع ذا الأقدمية في الخروج والجهد الزائد، على العالم وإن لم يكن ممن يخرج أصلا، لما جعل الله سبحانه للعلماء من المنزلة في دين الإسلام، وأوجب على غيرهم من توقيرهم واحترامهم والرجوع إليهم فيما خفي عليهم.
وليس من شرط القبول من العالم، أن يكون ممن يخرج مع الطائفة، فإن أي شرط لا يدل عليه الكتاب والسنة لا يكون إلا باطلا، ولأن
الخروج أحدث من عقود قليلة لم تعرفه كل القرون السالفة، ولم يرد له ذكر في كتاب ولا سنة ولا كتب الفقه ولا كتب التفسير ولا غيرها، والتشريع لا يكون من أي شخص من الأشخاص، إنما يكون من عند الله تعالى.
وسائر أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين وتابعيهم، لم يعرفوا هذا الخروج، فضلا عن أن يجعلوا له تلك المنزلة التي تدعيها الطائفة التبليغية له، وفقها الله وجمعنا وإياها على الهدى .!
قال ابن الجوزي في " تلبيس إبليس":
"ومن تلبيسه عليهم، تقديمهم المتزهدين على العلماء، فلو رأوا جبة صوف على أجهل الناس عظموه، خصوصا إذا طأطأ رأسه وتخشع لهم، ويقولون أين هذا من فلان العالم، ذاك طالب دنيا، وهذا زاهد لا يأكل عنبة ولا رطبة ولا يتزوج قط، جهلا منهم بفضل العالم على الزاهد، وإيثارا للمتزهدين على شريعة محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- ومن نعمة الله سبحانه وتعالى على هؤلاء، أنهم لم يدركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ لو رأوه يكثر التزويج، ويصطفي السبايا، ويأكل لحم الدجاج، ويحب الحلوى والعسل، لم يعظم في صدورهم.
ومن تلبيسه عليهم قدحهم في العلماء بتناول المباحات، وذلك من أقبح الجهل، وأكثر ميلهم إلى الغرباء، فهم يؤثرون الغريب على أهل بلدهم ممن قد خبروا أمره وعرفوا عقيدته، فيميلون إلى الغريب ولعله من الباطنية، وإنما ينبغي تسليم النفوس إلى من خبرت معرفته، قال الله عز وجل : {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، ومن الله سبحانه في إرسال محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الخلق بأنهم يعرفون حاله فقال عزوجل : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164]، وقال : {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة : 146]." انتهى كلامه.
وإياك أن تصدق تلك الخرافة التي سمعتها من بعضهم، وأرجو أن تكون خطأ فرديا، لا شائعا عاما: أن اليهود عندهم مدارس يدرسون طائفة منهم العلوم الإسلامية، ثم يخرجونهم إلى الناس في صورة علماء الأمة، وهم الذين يفتون الناس ويرجعون إليهم، فإن مثل هذه الأفكار الخرافية، هي صد للناس عن الرجوع إلى العلماء، الذين إن لم يرجعوا إليهم ضلوا، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي من الكذب الواضح، لأن العلماء أقوام ولدوا بيننا وعاشوا وربوا بيننا، ولم يمض فترة من الزمن وهم في مدارس اليهود، ثم إن هذا تكفير لبعض علماء الأمة، واتهام لهم بالنفاق، مع أن المنافق لا يكون عالما عاملا بعلمه، موفقا في منطقه وسمته وهديه، ناطقا بالعلم على أصول الإسلام، وقواعده المعروفة، ولا يمكن أن يملأ الدنيا علما وتوحيدا وإصلاحا، كما هو حال علمائنا الأجلاء رضي الله عنهم وجزاهم الله عنا كل خير. اللهم اهدنا ولا تكلنا لأنفسنا طرفة عين أبدا !
النصيحة (9): احذر من ترك التشاغل بطلب العلم ومن إنكار قراءة الكتب وتأليفها
احذر أخي التبليغي جعلك الله من المهتدين المتقين، من ترك التشاغل بطلب العلم، بحجة أن طلب العلم يشغل عن الدعوة إلى الله، أو عن العمل، أو أن الإنسان إذا كان يخرج ويضحي من أجل ذلك، ينال العلم بدون اكتساب محتجا، بقوله تعالى : {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه}
[البقرة: 282]، فإن العلم له أسباب حسية ينال بها، وبالتقوى يزداد طالب العلم توفيقا ونورا وهداية .
قال -صلى الله عليه وسلم- "يا أيها الناس إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، و إنما يخشى الله من عباده العلماء" أخرجه الطبراني وحسنه لغيره الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" .
وها هم علماء الإسلام من عهد الصحابة إلى عهدنا، لم يصل أحد منهم إلى مستوى العلماء بدون طلب للعلم بالأسباب الحسية، التي قدرها الله، وإنما كانوا جميعا يطلبون العلم بالأسباب الحسية، ولكن مع اقتران ذلك بالإخلاص والدعاء والعمل، ينالون من العلم النافع ما لا ينال غيرهم، وكثير من الصوفية ممن ترك طلب العلم، وظن أن العلم يأتيه بدون طلبه، من خلال الكشف والمنامات والإلهام والذوق لعب بهم الشيطان، وصار دينهم جامعا لكل شرك وضلال وبدعة .
ومثل الذي يريد العلم بدون الأخذ بالأسباب الحسية له كمن يريد أن ينال ولدا بدون زواج، فالله سبحانه هو الذي خلق الأسباب، وقدرها وجعل لها تأثيرا بإذنه سبحانه.
والعلم ينال بدون اكتساب للأنبياء؛ لأن الوحي يتنزل عليهم، أما نحن فلا يوحى إلينا، فلا بد لنا أن نكتسب العلم ونأخذ بأسبابه لنناله، فإذا اقترن مع ذلك العمل والتقوى، ازداد فهم طالب العلم وصوابه وتوفيقه، ونال به سعادة الدارين، نسأل الله أن يجعلنا جميعا ممن يجمع بين العلم النافع والعمل الصالح، بل إن العلم النافع والعمل الصالح، هو الصراط المستقيم، الذي ندعو الله في كل ركعة من ركعات صلاتنا أن يهدينا إليه .
فإن الصراط المستقيم، هو الصراط المجانب لطريقي اليهود والنصارى.
واليهود سبيلهم العلم بدون عمل، والنصارى سبيلهم العمل بدون علم.
ومن كان يتعلم ولا يعمل بعلمه، غضب الله عليه.
ومن كان يعمل بلا علم، كان من الضالين.
لذلك قال سبحانه : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}[الفاتحة:6-7]،
قال ابن سعدي رحمه الله في تفسيره : "قال تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } أي: دلنا وأرشدنا، ووفقنا للصراط المستقيم، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله، وإلى جنته، وهو معرفة الحق والعمل به، فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط. فالهداية إلى الصراط: لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد، ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته، لضرورته إلى ذلك .
وهذا الصراط المستقيم هو: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. { غَيْرِ } صراط { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم. وغير صراط {الضَّالِّينَ} الذين تركوا الحق على جهل وضلال، كالنصارى ونحوهم" انتهى كلامه .
قال ابن القيم في" مفتاح دار السعادة" (1 / 172) :
"وأما قوله تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة : 282]، فليس من هذا الباب، بل هما جملتان مستقلتان طلبية، وهي الأمر بالتقوى وخبرية، وهي قوله تعالى { وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } أي والله يعلمكم ما تتقون، وليست جوابا للأمر بالتقوى، ولو أريد بها الجزاء؛ لأتى بها مجزومة مجردة عن الواو، فكان يقول واتقوا الله يعلمكم، أو إن تتقوه يعلمكم، كما قال {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال : 29]، فتدبره"
انتهى كلامه .
ثم يا أخي التقوى هي فعل أوامر الله وترك نواهيه وطلب العلم مما أمر الله به، فمن ترك طلب العلم الواجب عليه، لم يكن تقيا،
وإذا تركت الأمة طلب العلم، الذي هو من فروض الكفايات،كانت آثمة بأجمعها.
ويقول ابن الجوزي رحمه الله في "تلبيس إبليس" (ص389) :
"اعلم أن أول تلبيس إبليس على الناس صدهم عن العلم؛ لأن العلم نور، فإذا أطفا مصابيحهم خبطهم في الظلم، كيف شاء وقد دخل على الصوفية في هذا الفن من أبواب .... ومن الصوفية من ذم العلماء، ورأى أن الاشتغال بالعلم بطالة، وقالوا إن علومنا بلا واسطة، وإنما رأوا بعد الطريق في طلب العلم، فقصروا الثياب ورقعوا الجباب وحملوا الركاء وأظهروا الزهد.
والثاني أنه قنع قوم منهم باليسير منه، ففاتهم الفضل الكثير في كثرته، فاقتنعوا بأطراف الأحاديث وأوهمهم أن علو الإسناد والجلوس للحديث كله رياسة ودنيا، وأن للنفس في ذلك لذة .
وكشف هذا التلبيس أنه ما من مقام عال إلا وله فضيلة وفيه مخاطرة، فان الإمارة والقضاء والفتوى كله مخاطرة، وللنفس فيه لذة، ولكن فضيلة عظيمة كالشوك في جوار الورد، فينبغي أن تطلب الفضائل ويتقى ما في ضمنها من الآفات .
فأما ما في الطبع من حب الرياسة، فإنه إنما وضع لتجتلب هذه الفضيلة، كما وضع حب النكاح ليحصل الولد، وبالعلم يتقوم قصد العلم، كما قال يزيد بن هارون : "طلبنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله" ومعناه إنه دلنا على الإخلاص، ومن طالب نفسه بقطع ما في طبعه لم يمكنه .
والثالث انه أوهم قوما منهم، أن المقصود العمل، وما فهموا أن التشاغل بالعلم من أوفى الأعمال، ثم إن العالم وإن قصر سير عمله، فإنه على الجادة والعابد بغير علم على غير الطريق.
والرابع أنه أرى خلقا كثيرا منهم، أن العالم ما اكتسب من البواطن، حتى إن أحدهم يتخايل له وسوسة، فيقول حدثني قلبي عن ربي وكان الشبلي يقول :
اذا طالبوني بعلم الورق ... برزت عليهم بعلم الخرق ... وليس الإلهام من العلم في شيء، إنما هو ثمرة للعلم والتقوى فيوفق صاحبهما للخير، ويلهم الرشد، فأما أن يترك العلم ويقول أنه يعتمد على الإلهام والخواطر فليس هذا بشيء، إذ لولا العلم النقلي ما عرفنا ما يقع في النفس، أمن الإلهام للخير أو الوسوسة من الشيطان .
..... عن ضرار بن عمرو قال: إن قوما تركوا العلم ومجالسة أهل العلم، واتخذوا محاريب فصلوا وصاموا حتى يبس جلد أحدهم على عظمه، وخالفوا السنة فهلكوا، فوالله الذي لا إله غيره، ما عمل عامل قط على جهل، إلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
..... قد سبق القول بأن العلم نور، وأن إبليس يحسن للإنسان إطفاء النور؛ ليتمكن منه في الظلمة، ولا ظلمة كظلمة الجهل، ولما خاف إبليس أن يعاود هؤلاء مطالعة الكتب، فربما استدلوا بذلك على مكايده حسن لهم دفن الكتب وإتلافها، وهذا فعل قبيح محظور، وجهل بالمقصود بالكتب، وبيان هذا أن أصل العلوم القرآن والسنة، فلما علم الشرع أن حفظهما يصعب أمر بكتابة المصحف وكتابة الحديث ..... وروى عنه عبد الله بن عمرو أنه قال: "قيدوا العلم" فقلت: يا رسول الله وما تقييده، قال: (الكتابة) ([1]) ..... قال المصنف رحمه الله، قلت من أكبر المعاندة لله عزوجل الصد عن سبيل الله وأوضح سبيل الله العلم؛ لأنه دليل على الله، وبيان لأحكام الله وشرعه، وإيضاح لما يحبه ويكرهه، فالمنع منه معاداة لله ولشرعه، ولكن الناهين عن ذلك ما تفطنوا لما فعلوا" انتهى كلام ابن الجوزي.
فلا شك أن اعتقاد أن قراءة الكتب النافعة ينافي العمل للإسلام والدعوة إليه، وأن العلم لا يؤخذ إلا مع الحركة والخروج ونحو ذلك ما هو إلا خطأ محض، ووسيلة للانصراف عن العلم الشرعي، الذي فيه الكشف عن الحقائق، والتمييز بين الأمور .
فها هم المسلمون قد جعلوا المصحف في كتاب، وجعلوا الأحاديث في الكتب، ودونوا العلوم الشرعية المختلفة حفظا لها من الضياع، وأقبلوا على هذه الكتب حفظا ودراسة وفهما لاشتمالها على القرآن والسنة وآثار السلف، وشرح ذلك وغير ذلك مما هو نافع، فبأي حجة وبرهان يترك طلب العلم من الكتب، مع أن معظم العلم لا سيما بعد أن أصبح وجود العلماء نادرا، يؤخذ من بطون الكتب، ولا يمكن لإنسان أن يصبح طالب علم أو عالما بدون أن يقبل عليها.
وحتى مع وجود العلماء، فإنه لا يتم الاستغناء بهم عن الكتب، إنما هم يوضحون ما في تلك الكتب، ويسهلون على طالب العلم الاستفادة منها، وتكون دروسهم في الأغلب شروحا لبعض الكتب النافعة، ويكون على طالب العلم أن يراجع تلك الدروس في بيته من تلك الكتب ويحفظ ما يحسن حفظه منها .
نسأل الله أن يرشدنا إلى الصواب، وأن يجعل كل ما نقول ونعمل ابتغاء مرضاته !
[/SIZE][/COLOR]