تفريغ كامل (( إسعاف الذكي بالكشف عن حال المدعو الحبيب علي الجفري )) .للشيخ عبيد - حفظه الله -
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
بشرى
أذِنَ الشيخُ عبيد بإنْزالِ هذه التفرِيغاتِ لِمَوضوعِهِ (( إسعاف الذكي بالكشف عن حال المدعو الحبيب علي الجفري )) .
و هذا التفريغُ حرفِيًّاً كمَا جاءَ بالصوتِ ، بدونِ زيادةٍ و لا نقصانٍ .
وقد حدَّثنَي الشيخُ عبيدٌ - حفظهُ الله - بأنه يقولُ سيزيدُ وينقصُ في الموضوع ، ويُصَوِّبُ . وسينزلُ في كتاب ـ إن شاء الله تعالى ـ .
و أذِنَ لِي بنشرِ هذا الكلامِ بعد مغرب يوم الجمعة : الموافق (19/4/1426) .
و السلام عليكم
أخوكم أبو فريحان
---------
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومَن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهدُ أنَّ محمدا عبدُه ورسوله ..
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ـ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } .
أما بعد .. فإن خيرَ الكلام كلامُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وشرَّ الأمور محدثاتُها ، وكلَّ محدثةٍ بدعة ، وكلَّ بدعة ضلالة ، وكلَّ ضلالة في النار .
ثم أما بعد …
فيا أيها المسلمون والمسلمات ..
ما سمعتُم الإعلان عنه ؛ وهو حديثُنا الذي عنوانه : (( إسعاف الذكيّ بالكشف عن حال المدعوِّ الحبيبِ عليٍّ الجفريّ )) ؛ لا تظنوا أنه تحيطُ به جلسةٌ مختصرة ؛ فلا بد من الإفاضة فيه والإسهاب ،
والحديث معكم ـ أيها المسلمون ـ حول هذا الرجل يدور في أمرين :
الأمر الأول :
مقدمات لا بد منها ،
والأمر الثاني :
كشف حال الرجل بما ألقاه من خطب ومحاضرات أو غير ذلك ؛ فقد تحصَّل لدينا مما دوَّنه الرجلُ بشتى الوسائل ومختلفِ الأساليب عباراتٌ كثيرة . وهذه العبارات قد تفنَّنَ الرجل فيها ، وجعل التلبيس والتمويه الذي ينطلي على مَن قلَّ فقهُهُ في التوحيدِ والسنة ـ ما الله به
عليم ـ .
فالرجل متفنِّن وملبِّس ومموِّه ، وصاحبُ شُبَه وحِيَل ؛ يوصِلُ ما يبتغيه مِنَ الضلالِ والإضلال ، وحَرْف الناس عن عقيدة التوحيد ـ أعني السذَّج وضعفاءَ العقول ومَن قلَّ فقهُهُم ـ ، وأما مَن آتاه اللهُ الفقهَ والبصيرة ، وخالطتْ بشاشة قلبِه السنةُ ، وتشرّبَ قلبُه بالتوحيد ؛ فإنه يُدركُ ذلك ـ سواءً كان مِن أهل العلم أو من عوامّ المسلمين الذين لم تتلوث فِطرُهُم ـ .
ومن هنا ؛ فإني أقول لكم ـ أيها المسلمون والمسلمات ـ ، لا تستغربوا طول الحديث حول هذا الرجل ؛ فإنّ ما سَلكه بابٌ شائك ، ولا يمكن أن نحيط بعبارات الرجل كلِّها ، فنبدأ ـ أولا ـ بما نراه هامًّا من المقدِّمات ـ التي أرجو مِن كل مسلم ومسلمة يهمُّه أمرُ التوحيد والسنّة ـ : أن يحرصَ على فِقهِها ، والتفطُّن لها ، وأن يُصغوا إليهم أسماعهم :
* أولا : في التنزيل الكريم :
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } .
وقال جلَّ ثناؤه : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } .
وقال جلَّ ذكرُه : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } .
أيها المسلمون .. مَن تدبَّر كتابَ الله الذي لا يأتيهِ الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد ؛ يجدْ جليًّا واضحًا أنّ ما تضمنَتْه هذه الآيات من المعنى ؛ هو في كتاب الله أشْهَر مِن أن يُذكر ، وأكثر من أن يحصر .
فهذه الآياتُ وما في معناها ؛ تتضمن :
أولا :
الحكمة التي خلق اللهُ مِن أجلها الثقلين ، ومِن أجلها بعث إليهم النبيين والمرسَلين ، وأنزل معهم الكتاب .
وما تلكم الحكمة ؟
هي عبادة الله الخالصة ، عبادة الله وحده دون مَن سواه ، وإخلاص الدين له وحده سبحانه وتعالى ، وأنه لا دين ـ رضيه الله للعباد والبلاد ـ إلا دين الإسلام ، وهو الاستسلامُ لله بالتوحيد ، والانقيادُ له بالطاعة ، والخُلوصُ مِن الشِّرْك ، والبراءة من الشرك وأهله .
ويزيد هذا وضوحًا : ما قصَّه اللهُ علينا من خَبَرِ المصطفيْنَ الأخيار ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ، ومنهم : نوح ، وهود ، وصالحٌ ، وشعيب ـ صلى الله عليهم وسلمَ وصلى وسلم على جميع النبيين والمرسلين ـ . ومِن خبر أولئكم المصطفيْن الأخيار ؛ قوله جل وعلا : { يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } ؛ فإن هذه الآية وما قدمناه قبلها ، وما هو في معناها ، قاضٍ صراحةً أنه لا معبودَ بحق إلا اللهُ سبحانه وتعالى ، وأن العبادة هي محْضُ حقِّه .
وعلى هذا اتفقت النبيون والمرسَلون من لدن نوح ـ أولهم ـ إلى محمد ـ خاتَمِهم ـ صلى الله وسلم عليهم أجمعين ـ .
وبهذا يستبين لكم أن أصل هذا الدين ـ دين الإسلام الذي تقدَّم لكم آنفا معناه ـ وقاعدتَه أمران :
الأمر الأول : الدعوة إلى عبادة الله وحده ، والتحريض على ذلك ، والموالاة فيه ، وتكفير مَن تركه .
والأمر الثاني : التحذير من الشرك بالله في عبادته ، وكذلك في أسمائه ، وصفاته ، وربوبيته ، والمعاداة فيه ، والتغليظ في ذلك ، وتكفير مَن فعله . قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من قال : لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حَرُم دمُه ومالُه وحسابه على الله " . وبسط ما تضمنَه هذا الحديث الصحيح ؛ جاء في غير ما حديث صحيح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومنها حديث ابن عمر ـ وهو مخرّج في الصحيحين ـ : عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " أمِرْتُ أنْ أقاتِلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأني عبدُ اللهِ ورسولُهُ ، ويقيموا الصلاةَ ، ويؤتوا الزكاةَ ؛ فإنْ فعلوا ذلك ؛ عَصَموا مني دماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّ الإسلامِ وحسابُهُم على الله تعالى " .
وزيادة في البيان والإيضاح ، وحتى يزدادَ المسلمون والمسلمات يقينًا أن نبيَّهم محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو مبعوثٌ بما بُعِث مَن قبله من النبيين والمرسَلين من عبادةِ الله الخالصة ، وأن هذه العبادة هي محْضُ حق الله سبحانه وتعالى ؛ نضيف إلى ما تقدم :
أولا : حديث ابن عباس ـ رضي الله عنما ـ في بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاذا ـ رضي الله عنه ـ إلى اليمن . ذلكم الحديث مخرّج في الصحيحين وغيرِهما :
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ ـ رضي الله عنه ـ :
" إنَّكَ تأتي قومًا أهل كتاب ، فلْيكنْ أول ما تدعوهم إليه : شهادةُ أن لا إله إلا الله ، وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ [وفي رواية : " إلى أن يوحِّدوا الله " ، وفي رواية : " إلى أن يؤمنوا بي وبما جئتُ به"] ؛ فإنْ هم أطاعوا لكَ بذلك ؛ فأعْلِمْهم أن الله قد افترضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في اليوم والليلة ؛ فإنْ هُم أطاعوا لكَ بذلك ؛ فأعلِمْهم أن اللهَ قد افترضَ عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم ، وتردُّ على فقرائهم ..." الحديث .
فبان بهذا التقرير ـ أيها المسلمون والمسلمات ـ أن توحيدَ الله سبحانه وتعالى ؛ هو أصلُ الأصول ، وهو زبدة الرسالات . فدون هذا التوحيد لا يقبل الله من عامل أيَّ عمل .
فقريش الذين بُعث الله إليهم رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومَن دان دينَها ، ومَن جاوَرَها من الجزيرة ؛ كانت لهم عبادات . كانوا يصومون عاشوراء ، وكانوا يُعتِقون ، وكانوا يَنذرون لله .. إلى غير ذلك من خِصال البِرِّ والخير ـ التي يتقربون بها إلى الله عز وجل ـ ، بل كانوا لا يلجؤون إلى مَن يَعبدونَهم ـ مِن الملائكة والصالحين والنبيين والأوثان ـ فيُخلصوا لهم الدعاءَ إلا في الرخاء ، وأما في الشدائد والكربات ؛ فإنهم يُخلِصون الدعاءَ لله سبحاته وتعالى . وشواهد هذا الباب كثيرة .
* الأمر الثاني في هذه المقدمة :
اعلموا أيها المسلمون والمسلمات ؛ وقد عرفتم بما مضى آنفا أن إخلاصَ العبادة لله وحده هو أصل الدين وأساسه ، وهو زبدة الرسالات ، وهو ما اتفق على الدعوة إليه النبيُّون والمرسَلون ؛ من لدن نوح ـ أوَّلِهم ـ إلى محمد ـ خاتمهم ـ صلى الله وسلم عليهم أجمعين ـ ؛
يجب أن تعلمُوا إلى جانب هذا : أن التوحيدَ له ثمارٌ وآثار وفوائد على أهله في الدنيا والآخرة. وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على أهل التوحيد الذين هُم خاصَّتُه مِن خلْقِه ؛ فإنّ مِن سَعَة فضل الله عليهم أن امتنَّ عليهم بثمراتٍ وفوائد في عاجل أمرهم وآجلِه ـ أوْصَلهَا بعض أهل العمل إلى ثلاث عشرة فائدة ـ .
ولْيراجِع مَن شاء منكم الكتاب الماتع النفيس ـ مع اختصاره ـ ؛ وأعني بذلكم الكتاب : " القول السديد " ، للإمام العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السّعدي ـ رحمه الله ـ ، وراجعوا كذلكم غيرَه ـ ؛ يظهرْ لكم : أولا : عناية أئمتكم ـ أئمة السنة ـ بهذا الاصل الأصيل ، وثانيا : ـ وهو مِن تمام عنايتهم به ، وحرصهم على قبول الناس هذا الأصل الأصيل ـ ؛ يَذْكرون ثمراتِه وفوائده .
ونحن ذاكرون لكم بعضها ، مُنبهين بها إلى ما لم نذكرْه قد دللناكم على ما يمكنكم مراجعتُه من المصادر ؛ لتَقِفوا على مزيد البسط والتفصيل . وما أظنكم ـ إن شاء الله ـ ؛ إلا وتزدادون قوةً إلى قوّتِكم ، وتطمَعون في ثوابِ الله سبحانه وتعالى وفضله وسعة رحمته ، وتسألونه الثباتَ على الإسلام والسنة .
من تلكم الفوائد :
* أن التوحيد إذا كمُل في القلب ، وتشرّب به ، وخالطتْه بشاشتُه ، وكان خالصا لله سبحانه وتعالى ؛ فإنه يمنعُ الدخول في النار ، يمنع دخول النار ، وهاكم دليلا على ذلكم : عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
" يُصاحُ برجل من أمتي على رؤوس الخلائق ؛ فيُنشر له تسعةٌ وتسعون سِجِلًّا ، كلُّ سِجِلٍّ منها مدّ البصر ، فيقال له : أتنكرُ مِن هذا شيئا ؟ فيقول : لا يا ربي . ويقال له : ألكَ عذرٌ ؟ فيقول : لا يا ربي . فيقال [ وفي بعض الروايات : " فيقول اللهُ"] : أَظلمَتْكَ كتبتي ؟ فيقول : لا يا ربي . فيقال : هل لكَ حسنة ؟ فيقول : لا يا ربي . فيُقال له : بلى ؛ إن لك عندنا لحسنة . فتُخرج بطاقة ، عليها : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله . فيقول : وما تُغني هذه البطاقة ؟!" تَقالّها ـ أيها المسلمون ـ ؛ بطاقة صغيرة ! " وما تغني هذه البطاقةُ إلى جنْب هذه السجِلات ؟ فيقال له : لا ظلمَ عليك اليوم . فتوضعُ البطاقةُ في كِفَّةٍ ، والسجلاتُ في كِفّة ، فترجحُ البطاقة، وتطيشُ السجلات ، فيدخل الجنة ".
كمُل التوحيد في قلبه ، فأحرَق جميعَ السيئات ، كمُل التوحيد في قلبه ، وإذا نقصَ التوحيدُ وانتفى كمالُه ، ولم ينتفِ بالكلية ، وإنما عُرضَ له عوارضُ جعلتْه يَنقُص ؛ فإنّ صاحبَه يأمنُ الخلودَ في النار ، ولا يأمنُ دخولَها .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " مَنْ لقِيَ اللهَ لا يشركُ به شَيْئًا ؛ دخَلَ الجنةَ " [ أخرجه مسلم من حديث جابر بن
عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ ، وأخرج الحديث الأول الترمذي وحسنه ، وكذلك أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي] .
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم تعليقًا على حديث جابر المتقدم وما في معناه من الأحاديث ـ وبعضها في الصحيحين ـ ، قال : " باب : الدليل على أن مَن مات على التوحيد ؛ دخل الجنة قطعا ".
يزيد هذا توكيدا : الفائدة الثانية ، وهي :
* أن أهل التوحيد هم أهل شفاعةِ محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم الذين ـ دون غيرهم ـ تدرُكهم شفاعةُ نبيِّهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وهاكم الدليل ـ وليس وحده لكنه مختار في هذه
الجلسة ـ :
أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ [ وفي رواية : قيل] : يا رسول الله ! مَن أسعدُ الناسِ بشفاعتِكَ يوم القيامة ؟ قال رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
" لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديثِ أول منك ؛ لِما عرفتُه مِن حِرصك على الحديث . أسعدُ الناس بشفاعتي يوم القيامة : مَن قال : لا إله إلا الله ؛ خالصًا من قلبِه أو نفسِه " .
فهذا الحديث ـ يا سامعين من المسلمين والمسلمات ـ صريحُ الدِّلالة ـ أولا ـ فيما أسلفناه ؛ أنّ أهل التوحيد هم أهلُ شفاعةِ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،
والشفاعةُ التي يعنيها العلماء المستدلون بهذا الحديث وأمثاله هي : الشفاعة في أهل الكبائر ، وهو ـ ثانيا ـ : دليل على أن الشفاعة المثبتة التي مِن أقسامها الشفاعة في أهل الكبائر : لها شروط . وشرطُها الذي في الحديث : أن الله لا يرضى إلا عن أهل التوحيد .
فأهلُ السنة يُثبتون الشفاعة في أهل الكبائر بشرطين :
أحدِهما : إذن الله للشافع ،
وثانيهما : رضاه عن المشفوع فيه .
ومن أدلة هذين الشرطين :
قوله جلَّ في عُلاه : { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } .
ما أظنه غاب عنكم ـ يا سامعين من المسلمين والمسلمات ـ النص على هذين الشرطين في هذه الآية . وما في معناها مِن آيِ التنزيل الكريم كثيرٌ وكثير جدا ، كما أنه قد تواترت به سنةُ محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
الفائدة الثانية :
* النُصرة والعِزّة والتمكين :
وهاكُم بعض آيِ التنزيل الكريم في هذه المسألة :
قال جل وعلا : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } يعني : يوم القيامة .
وقال جل وعلا : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } : في الحياة الدنيا .
والآية الثالثة ـ وفيها مِن وُعودِ الرب جل جلاله ما تزيدُ به القلوبُ المؤمنةُ يقينًا بما مَنَّ اللهُ عليها به من التوحيد ،
وتزدادُ ثقةً بالثبات عليه مهما يُنصب في طريقهم من المعوِّقات لانتشار الضلالات ، وحَبْك المثبِّطات :
يقول جل ذكره : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } الآية .
ألسْتُم تُدرِكون ـ أيها المسلمون والمسلمات ـ ثلاثة وعود من ربكم جل وعلا ـ وهو لا يخلف الميعاد ـ وعَدَ بها أهل الإيمان والعمل الصالح .
ولربما قائل أو قائلة يقول ـ وحُقَّ له أن يقول ـ : وما حد العملِ الصالح الذي قرَنه الله بالإيمان ، ورتَّب عليه مع الإيمان هذه الوعود الثلاثة .
والجواب : العمل الصالح ، كما دل عليه كتاب ربنا وسنة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو ما جمع أمرين ـ وهما شرطاه ـ وذانكم الأمران :
أولا : تجريد الإخلاص لله وحده .
وثانيهما : تجريد المتابعة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
فإذا تقرر هذا ؛ فلْنقفْ قليلا عند هذه الوعود العظيمة :
الوعد الأول :
الاستخلافُ في الأرض كما استخلف مَن قبلكم ، ومَن هم ؟ مَن هم خيرُ خلفاءِ لله ؟ إنّ خيرَ خلفاء الله في أرضه، والذين لا وَزن لأحدٍ لا يتأسّى بهم ، ولا يسلُك سبيلهم : هم النبيون والمرسَلون وأتباعُهم بإحسان . فالخلف مِن هذه الأمة موعودٌ بالاستخلاف ؛ إنْ أحسنَ في هذه الأرض لأن يستخلف كما مضى من قبله ،
وهذا نظيره من سنة رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ : " إن الدنيا حلوةٌ خضرة ، وإن الله مستخلفُكم فيها ؛ فينظر كيف تعملون ..." الحديث .
يوضح معنى هذا قوله جلَّ جلالُه : { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } .
بهذا أيها المسلمون ، تَعْظُم المسئولية ، وأن الله سبحانه وتعالى ما استخلفكم في أرضِه إلا لتعمروها بدين الله الخالص ، وقد عرفتم أصله وأساسه .
الوعد الثاني :
تمكين دين الله ، وهذا معناه أنه يمكنُ أهله القائمين عليه ، الناصرين له ، الذين أخلصوه لله سبحانه وتعالى ،
وهذا نظير قوله جل وعلا : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } .
والوعد الثالث :
الأمن بدلا من الخوف ، وذلكم بأن يظهرَ الله دينه ، ويعلِيَ القائمين به ، ويرفعُ درجتَهم ، ويقوي سلطانَهم ،
وفي ذلكم من سنة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قولُه : " أعطيتُ خمسًا لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي : نصِرْتُ بالرعب مسيرةَ شهر ... " الحديث .
* الفائدة الثالثة :
أن من رزقوا التوحيد وأخلصوه لله ؛ هم نائلون مِن الله عز وجل الأمنَ والهداية .
قال جل وعلا : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } .
يوضح هذا تفسيرُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرادَ الله بالظلم ؛ الذي فهمَ أصحابُ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا أمنَ معه ولا هداية .
ففي الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ لما نزل : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } ؛ شقَّ ذلك على أصحاب محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا :
أيُّنا مَن لم يلبِس إيمانه بظلم ؟ فهموا ـ رضي الله عنهم ـ بصريح لغتهم وفصيحها ـ أن هذه الآية تتضمن تهديدًا عظيما ، وأنه لا أمنَ لما تضمنته من الظلم .
{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } ؛ يعني : لم يخلطوا إيمانَهم بظلم ،
فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ليس ذاك ، ألم تسمعوا إلى قولِ العبد الصالح : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ؟" .
فبان بهذا شيئان ـ أيها المسلمون والمسلمات ـ :
أحدهما :
أن الظلم الذي لا أمنَ معه ولا هداية ؛ هو الشرك بالله سبحانه وتعالى .
وثانيهما :
أن ما دون هذا الظلم ؛ يحصل معه أمن وهداية .
وهذا يستدعي بيان أمرين آخرين : الأمر الأول :
اعلموا أن الظلم على ثلاثة أضرب :
أحدها : ظلم لا يغفره الله لمن مات عليه ، فهو خالد مخلّد في النار ، وهذا الشرك . وسوف يأتي له مزيد تفصيل وبيان .
ثانيها : ظلمٌ ؛ من مات عليه كان تحت مشيئة الله ، وسوف يأتي .
وثالثها : ظلمٌ لا يدَعُ الله منه شيئا ، فيقتصُّ مِن الظالم للمظلوم ؛ وهو ظلم العباد فيما بينهم .
فتلخَّص من هذا : أن الشرك هو : أظلم الظلم ، وأن حقوقَ العباد مبنية على المُقاصَّة . ولهذا سوف يُوفِي الله سبحانه وتعالى المظلومَ حقَّه من ظالمه يوم القيامة . وظلم العبد نفسَه هو ما كان تحت المشيئة .
الأمر الثاني :
اعلموا ـ أيها المسلمون والمسلمات ـ أن الأمن أمنان :
أمن تام : وهذا يناله الموحِّد الذي يلقى الله على التوحيد والسلامة مِن المعاصي ؛ فإنه آمنٌ مِن دخول النار .
والأمن الثاني : أمْنٌ ناقص ، وهو في حقِّ مَن لقيَ الله موحِّدًا ومُصِرًّا على كبائر ؛ فإن هذا الصنف مِن الناس آمنٌ من الخلود في النار ، غيرُ آمِنٍ من دخولها .
وخلاصة القول :
اعلموا ـ أيها المسلمون والمسلمات ـ أن الأمْن التام هو ثمرة الهداية التامة ، وأن الأمن الناقص هو ثمرة الهداية الناقصة . هذه بعض فوائد التوحيد وثمراته .
* الأمر الثالث في هذه المقدمة :
مضى في أول حديثنا أصلُ الدين وأساسُه ، وأنه أمران :
أحدهما : الدعوة إلى عبادة الله وحده ،
وثانيهما : النهي عن الشرك ، أو التحذير من الشرك .
والذي يجب أن يعلمَه كل مسلم ومسلمة أن أئمة الهدى والعلم والإيمان لم يقرِّروا هذين الأصلين مِن تلقاء أنفسهم ، ولا بمحض عقولِهم واجتهادِهم ، وإنما قرّروهما مستَدِلِّين على ذلكم بكتابِ ربِّنا وسنةِ نبيِّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقد عرفتم إشارة مما أسلفتُه لكم من الأدلة ؛ أن الدين الخالصَ ، وعبادة الله الخالصة ؛ لا يستقيمُ إلا على الحذر من الشِرك مع توحيد الله ،
وبهذا يُعلم أنه لا يكفي في المرء أن يقول أنا موحِّد ، أو يقول أنا أصلي وأصوم وأزكي وأحج مخلِصًا لله في ذلك كلِّه ، بل يجب إخلاصُ التدينِ كلِّه والعبادةِ كلِّها لله سبحانه وتعالى .
وهاكم بعض الأدلة على ما بيَّناه وقرَّرناه . وأظنكم أدركتم أن هذا ليس من عند أنفسنا ، بل وأقول وليس مِن عند علمائنا من تلقاء أنفسهم ، بل هو مُقتضَى الكتاب والسنة ، دِلالة ظاهرة صريحة ، وذلكم أن الحقَّ جل ثناؤه حذّر من الشرك بالله في كثير من آي تنزيله ، وبِصُوَرٍ متنوعة ، إذا انضم شيءٌ منها إلى بعضِه ؛ اقشعرّ قلبُ المسلم من الشرك ، ونفر منه نفورا ، فكيف إذا انضمتْ كلّ الآيات في هذا الباب مع جميع ما صحَّ عن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الباب أيضا إلى بعضها؟! فإنه لا تَقْبلُ الشركَ نفسٌ اطمأنتْ للإيمان ، ودانتْ لله بالتوحيد ، وتيقّتْ أن العبادة هي محضُ حق الله سبحانه وتعالى ، كما سيستبين أنه ليس كل من قال لا إله إلا الله، ليس كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسولُ الله ؛ هو مسلم . وسيظهر ذلكم ـ إن شاء الله ـ في ثنايا الحديث الذي قد يتتابع حلقات متعددة .
فنقول وبالله التوفيق :
قال الحق جل ثناؤه : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } فماذا في هذه الآية ـ أيها المسلمون والمسلمات ـ ؟
تأملوا تأمل مَن ينظر في آي التنزيل الكريم نظرة تدبر ، يظهرْ لكم أنها تضمنت أمرين :
أولهما : عدم مغفرة الله الشرك لمن مات عليه .
وثانيهما : أن ما دون الشرك ـ يعني ما كان أقل من الشرك والكفر من كبائر الذنوب والمعاصي ـ ؛ فإنه تحت مشيئة الله .
وها هنا سؤال :
هل الآية خاصة بهذا الوعيد في الشرك الأكبر ، أو هي عامة في أكبر الشرك وأصغره ؟
والجواب :
الآية عامة ، فما توعد الله به من عدم مغفرة الشرك لمن مات عليه ـ وهذا مقيّد بنصوص أخَر ـ ، شاملة بهذا الوعيد للنوعين من الشرك .
لكن .. يفرَّق بينهما من وجهين :
ـ الوجه الأول :
أن الشرك الأكبر ناقل عن ملة الإسلام إلى ملة الكفر ؛ وذلكم لأنه ينافي التوحيدَ بالكلية . وأما الشرك الأصغر فليس ناقلا عن ملة الإسلام . قال أهل العلم : كيسير الرياء ؛ الذي لا يصلُ بالمرء إلى أنه لا يريد بعملِه وجهَ اللهِ ولا الدار الآخرة . أما إذا وصل به الأمرُ إلى أنه لا يريد بعمله ؛ لا وجهَ الله ، ولا الدارَ الآخرة ، فهذا ـ المحقِّقون ـ على أنه شرك أكبر . والله أعلم .
ـ الوجه الثاني :
الشركُ الأكبر موجبٌ الخلودَ السرْمدِيّ الأبديّ في النار ، ما دامت السماواتُ والأرض ، لا يخرج منها أهلُه أبدًا ؛ لأنهم هم أهل النار . أما الشرك الأصغر ؛ فلا يوجب الخلودَ في النار ، ولكنه أكبر من الكبائر ؛ مثل الزنى ، والقذف ، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم ، وشرب الخمر .
هذه الصورة الأولى .
الصورة الثانية : حبوط العمل ،
واسمعوا .. قال جل وعلا : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . انظروا ـ أيها المسلمون والمسلمات ـ ما أشدَّ هذا الوعيد ، يُظهِر جليًّا حبوط عملِ المشرك ـ وإن كان صوّاما قوّاما عامِلا كلَّ عملٍ يُتَقرَّب به إلى الله ، ويُعبَدُ الله به . ولهذا قال أهل العلم : ( الشرك مثل السم ؛ يفسد العبادة ، كما أن السمَّ إذا خالط العمل أفسده ).
وقال بعضهم : ( العبادة طهارة ، والشرك مثل الحدث ، والحدث إذا دخل على العبادة أفسدها ) . مَن توضأ أو اغتسل .. من توضأ وتهيأ للصلاة ؛ فإنه بالحدث يَبْطُل وضوؤه ، وتبطل صلاتُه ـ إن صلى محدِثا عالمِا عامدًا ـ ، يعني يعلم أنه محدث ويتعمد ؛ فإن صلاته تبطل .
فالشرك محبط للعمل كله ؛ ألم تسمعوا إلى ربكم جل في علاه وهو يخاطب نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
{ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } .
وها هنا سؤال يجب الإصغاء إليه والتفطن لجوابه وهو :
هذا الخطاب هل هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
والجواب : المخاطب به مَن عدا رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأنه يمكن أن يتأتَّى منه الشرك ، أما نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه معصوم من الشرك ، ومعصوم من كبائر الذنوب ، ومعصوم من صغائر الخسة ، كما هو حال جميع النبيين والمرسَلين ـ عليهم الصلاة والسلام أجمعين ـ . فتوجُّه الخطابُ إليه ؛ لأنه إمامُهم ـ إمام هذه الأمة ـ ، وهو الذي يبلغُ إليهم شرع الله سبحانه وتعالى ،
فالآية قاضيةٌ على المشرك الذي تعمد الشرك وعاند وأصرَّ على ذلك حتى مات عليه ؛ بمصيبتين :
إحداهما : حبوط عمله ، وإن كانت أعماله أمثال الجبال .
وثانيتهما : خسارته ، وهذه مصيبة لا أعظم منها ، لا أعظم من مصيبة يعود الساعي في أجلِّ الأعمال ، وأمثلِ الأعمال ، وأفضلِ الأعمال ـ فيما يرى ـ خاسرا خائبا .
الدليل الثالث :
من سنة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقد أخرج الشيخان عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : سألتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله نِدًّا وهو خلقك " ـ يعني شريكا في عبادته ـ ، قلت : إن ذلك لعظيم ، ثم ماذا ؟ قال : " أن تقتل ولدَكَ خشية أنْ يطعمَ معك" ، قلت : ثم ماذا ؟ قال : " أن تُزاني حليلة جارِك " . الحديث .
هذا الحديث ـ أيها المسلمون والمسلمات ـ ما أظنه خفِيَ عليكم نصًّا عن نبيكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ البيان بأن الشرك هو أعظم ذنب عُصي الله به ،
ويزيده وضوحا ما أخرجه الشيخان عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
" ألا أنبئكم بأكبرِ الكبائِر ؟" تأملوا .. " ألا أنبئكم بأكبرِ الكبائر ِ؟" قالوا : بلى يا رسول الله ! قال : " الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور .." الحديث .
ونظير هذين الحديثين : حديث أبي هريرة ـ وهو في الصحيح ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
" اجتنبوا السبعَ المُوبِقات "ـ يعني المهلكات ـ ، قالوا : وما هن يا رسول الله! قال : " الإشراكُ بالله ، والسِّحْر ..." الحديث .
ووجه الاستدلال من هذا الحديث على ما تضمنه حديث ابن مسعود وحديث أبي بكرة ـ رضي الله عنهما ـ في بَدء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالشرك ، وجَعْلِه إياه أول الموبقات في الذّكْر . يعني هو أول الموبقات في الذكر .
الدليل الرابع ـ على خطورة الشرك ـ :
حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وهو في الصحيح ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلمةً ، وقلتُ أخرى ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
" منْ ماتَ يدعو لله نِدًّا ؛ دخَل النار " ، وقلتُ أنا ـ يعني ابن مسعود ـ : (ومَن مات لا يدعو لله نِدًّا ؛ دخل الجنة ) . إلى غير ذلكم ـ أيها المسلمون والمسلمات ـ من الأدلة الصريحة المستفيضة بل متواترة ـ ومعنى متواترة : فائقة الحصر ـ ؛ على أن الشرك أعظم ذنب عُصِيَ الله به، وعلى أنه مُحبِط للعمل ، وعلى أن الجنة حرامٌ لمن مات عليه ، إلى غير ذلكم من الخسائر التي يبوء بها مَن أشركَ مع الله غيره .
وخاتمة هذه المقدمة :
أذكِّر ما كرَّرْتُه على مسامعكم أو على مسامع أكثركم :
أن أهل السنة حين يرُدُّون على مَن يخالف السنة ؛ ليس لهم في ذات ذلكم المخالف مقصِد ولا هدف . وإنما لهم مقاصد ثلاثة :
المقصد الأول :
الحرص على أن يكون التدين خالصا لله سبحانه وتعالى ، سالما من الشرك والبدعة ، ويحرصون ـ كذلكم ـ على أن يكون أهل الإسلام والسنة سلِيمين من المعاصي ـ سواء كانت مفسقات أو دونها فضلا عن المكفرات ـ .
المقصد الثاني :
الحيلولة بين دعاة الضلال وأئمة السوء وبين الناس ، وبعبارة لعلها أوضح ـ يريدون أن يقطعوا الطريق أمام أئمة الضلال حتى لا يفسدوا على الناس دينَهم الذي ارتضاه لهم .
المقصِد الثالث : إقامة الحجة على مَن أبَى وعاند واستنكف عن قبول الحق .
وفي ذلكم ـ أيها المسلمون ـ أحاديث متواترة ؛ نختار منها حديثين اثنين ، وكلاهما في الصحيح :
الحديث الأول :
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " إنه لم يكنْ نبيٌّ قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمتَه على خيرِ ما يعلمُه لهم ، وأن ينذرَهم شرَّ ما يعلمه لهم ، وإن أمتكم هذه جُعل عافيتُها في أولِّها ، وسيصيبُ آخرَها بلاءٌ وأمور تنكِرون .. " الحديث .
الحديث الثاني :
حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإياكم
وإياهم " .
فإذا تأملت ـ أيها المسلم وكذلكِ أيتها المسلمة ـ وأعني مَن كان حريصا على التوحيد والسنة ؛ فإنكم ستستظهرون أمرين :
الأمر الأول : أنه لا فلاح ولا صلاح ولا نجاة ولا نجاح إلا باتباع هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهدي الخلفاء الراشدين من بعده ، ومن تبعهم بإحسان ؛ فإن ذلكم هو السلامة . وكان وهب بن كيسان ـ رحمه الله ـ يقعد لأصحابه ، ولا يقوم حتى يقول لهم : ( اعلموا أنه لن يصلحَ آخرَ هذا الأمرِ إلا ما أصلحَ أوله ) . قال أصبغ ابن الفرج لمالِكٍ ـ رحم الله الجميع ـ : ماذا يريد ؟ قال : ( يريد بادئ الدين ، أو التقوى ) [رواه أبو عمر ابن عبد البر بسنده عن أصبغ بن فرج عن الإمام مالك ـ رحم الله الجميع ـ ] .
الأمر الثاني : الحذر من كل محْدث في الدين سواء كان الحدث يناقض التوحيد أو بدعة من البدع .
وأرى ـ وهذا زيادة على ما وعدناكم لكنكم تتحملون بارك الله فيكم ـ أن ينضاف إلى هذين الحديثين حديث حذيفة ابن اليمان ـ رضي الله عنه ـ رضي الله عنهما ـ ؛ لأنه أباه صحابي ـ ، وهو مخرج في الصحيحين وغيرهما ، قال :
( كان الناس يسألون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الخير ، وأسأله عن الشرّ مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله ! كنا في جاهلية وشر ؛ فجاء الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟
قال : " نعم " .
قلت : فهل بعد ذلك الشر من خير ؟
قال : " نعم ، وفيه دَخَن ".
قلت : وما دخَنُه ؟
قال : " قوم يهدون بغير هديي ، ويستنّون بغير سُنّتي ، تعرِف منهم وتُنْكِر " ،
قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟
قال : " دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها ؛ قذفوه فيها " .
قلت : فصِفهم لنا يا رسول الله !
قال : " هم من بني جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا ..." الحديث .
فبان بهذا الحديث معنى الحديثين قبله ، وأن دعاة السوء، ودعاة الشرك ، ودعاة البدعة هم مِن بني جلدتكم ـ أيها المسلمون والمسلمات ـ ، وهذا مُوجِبٌ الحذرَ كلَّ الحذر ممن رفع عقيرته بما يناقض التوحيد والسنة .
وبهذا القدر نكتفي من الحديث معكم في هذه المسألة .
وسنتابع الحديث ـ إن شاء الله ـ في مثل هذه الليلة من ليلة الجمعة القادمة ، وأظن أن ذلك سيكون في التاسعة والنصف . وفق الله الجميع لما فيه مرضاته ،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . ونستودعكم الله ،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
منقول